المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٢

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌مقدمة

- ‌خلل ذاتي:

- ‌في رحاب الآثار:

- ‌فلسفة الإصلاح:

- ‌الإصلاح وجمعية العلماء:

- ‌خصائص أدب الإبراهيمي:

- ‌السياق التاريخي (1940 - 1952)

- ‌ المنجزات

- ‌أولًا: في ميدان التربية والتعليم:

- ‌1) تأسيس معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة:

- ‌2) بناء المدارس:

- ‌3) تكوين لجنة التعليم العليا:

- ‌4) إنشاء الشهادة الابتدائية:

- ‌5) إرسال البعثات الطلابية إلى الدول العربية:

- ‌ثانيا: في ميدان التنظيم:

- ‌1) المركز العام:

- ‌2) التوسع في تأسيس الشُّعَب:

- ‌3) توسيع المجلس الإداري وتنقيح القانون الأساسي للجمعية:

- ‌4) بعْثُ النشاط في فرنسا:

- ‌5) فتح مكتب القاهرة:

- ‌ثالثًا: في ميدان التوجيه والإعلام:

- ‌1) إعادة إصدار جريدة البصائر:

- ‌2) وفود الوعظ والإرشاد:

- ‌رابعًا: المجال الديني:

- ‌خامسًا: في الميدان السياسي:

- ‌في المنفىأومن وحي آفلو

- ‌رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني*

- ‌تساؤُل نفس*

- ‌رسالة إلى الأستاذ أحمد قصيبة*

- ‌رسالة الضبّ*

- ‌((فصل))ونعود إلى الحديث عن الضبّ

- ‌((فصل))ورجز الضبّ الذي أشار إليه المعرّي

- ‌((فصل))ومن مزاعم العرب في الضب

- ‌((فصل))وكما يستطيب العرب لحم الضبّ

- ‌((فصل))وتضرب العرب المثل بالضب

- ‌((فصل))ولما ذكرناه من علاقة العرب بالضبّ

- ‌((فصل))وقد جرى في هذه الرسالة ذكر الوزير المغربي

- ‌مناجاة مبتورة لدواعي الضّرورة*

- ‌رواية الثّلاثة*

- ‌مَظاهر الأبطالِ الثلاثةِ في الرِّوايةِ:

- ‌أسلوب الرواية

- ‌صورة الاستدعاء من المدير

- ‌الجلسة الأولى:

- ‌الجلسة الثانية

- ‌صُورَةُ الاِسْتِدْعَاءِ مِنَ الرَّئِيسِ إِلَى السَّيِّدِ أَحْمَدَ بُوشْمَال

- ‌الجلسة الثالثة

- ‌(الْمَشْهَدُ الْأَخِيرُ:

- ‌هذه "العزيمة

- ‌حاشية:

- ‌مرشد المعلّمين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌رئيس جمعية العلماءيتكلم

- ‌لقاء ووفاء *

- ‌واجب المثقّفين نحو الأمة*

- ‌منزلة المثقفين في الأمم الحية:

- ‌كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة

- ‌الدروس العلمية بتبسة*

- ‌تقرير إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية بالجزائر*

- ‌الإصلاح السياسي:

- ‌التقرير* الذي قدّمه مجلس إدارةجمعية العلماء المسلمين الجزائريينإلى الحكومة الجزائرية

- ‌المساجد وأوقافها:

- ‌التعليم العربي الحر ومدارسه ومعلموه

- ‌مطالب جمعية العلماء: في قضية التعليم العربي

- ‌القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله:

- ‌ التعليم القضائي

- ‌ها هي أصول للإصلاح نقدمها بكل إخلاص:

- ‌الوظائف القضائية:

- ‌السلطة العليا:

- ‌محاكم للاستئناف:

- ‌التجول:

- ‌النوادي:

- ‌في السجن العسكريبالعاصمة ثم قسنطينة

- ‌رسالة إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني*

- ‌رسالة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة*

- ‌كتاب مفتوح لسعادة وزير الداخلية

- ‌رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني*

- ‌رئيس جمعية العلماءومدير «البصائر»ومؤسس «معهد ابن باديس»يتكلم

- ‌بلاغ من جمعية العلماء *

- ‌نصيحة دينية

- ‌المسلمون في جزيرة صقلية*

- ‌السيد محمد خطّاب الفرقاني*

- ‌كوارث الاستعمار*

- ‌إحياء التعليم المسجدي بمدينة قسنطينة*

- ‌معهد قسنطينة*

- ‌شروط قبول التلامذة

- ‌تنبيهات وتوضيحات:

- ‌جريدة (العَلَم) الخفاق أو (العلم) الشامخ*

- ‌عزاء للأستاذ التبسي*

- ‌ديكتاتور (مايو) *

- ‌مبارك الميلي*

- ‌نداء إلى الشعب*

- ‌بلاغ إلى الأمّة العربية الجزائرية*

- ‌الأستاذ محمد بن العربي العلوي*

- ‌ذكرى عبد الحميد بن باديس الثامنة

- ‌ذوق صحفي بارد*

- ‌هدية ذات مغزى جليل*

- ‌نداء وتحذير

- ‌إمتحانات المعهد والمدارس *

- ‌الهيئة العليا لإعانة فلسطين *

- ‌البصائر" ومعهد ابن باديس *

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس:ما له وما عليه *

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس:

- ‌الفرع وأصله:

- ‌ومطالب المعهد:

- ‌النجاح يقوّي الأمل:

- ‌همسة في أذن الأمّة:

- ‌ أيتها الأمّة

- ‌كلمة الختام:

- ‌لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية *

- ‌سنة من عمر "البصائر

- ‌سنة "البصائر" الجديدة *

- ‌جناية الحزبية على التعليم والعلم *

- ‌مجلة أفريقيا الشمالية*

- ‌أدعاية أم سعاية؟ أم هما معًا

- ‌برقية تعزية في وفاة المنصف باي *

- ‌كارثة الأغواط *

- ‌إلى المشائخ المعلمين *

- ‌بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء *

- ‌مقدمة كتاب "مجالس التذكير

- ‌مجالس التذكير *

- ‌جريدة "العلم" الخفاق *

- ‌كيف تشكّلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌قادة الجيل الجديد في ميادين العلم *

- ‌قرار من المجلس الإداري لجمعية العلماءالمسلمين الجزائريين *

- ‌زواوة" الكبرى تستمسك بعروة الإسلامالوثقى وتطلب الرجوع إلى الأصل *

- ‌حيّا الله تونس *

- ‌تنبيه أكيد إلى رؤساء الجمعيات المحلية *

- ‌تحذير

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌صوت المسجد

- ‌شكوى العاصمي *

- ‌الشيخ أبو القاسم بن حلوش *

- ‌إلى الأمّة *

- ‌رمضان: وحدة الصوم والإفطار *

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

- ‌دروس الوعظ والإرشاد في رمضان *

- ‌إلى الكتّاب *

- ‌ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء *

- ‌إلى القرّاء *

- ‌الرقم السجين *

- ‌مؤتمر الثقافة الإسلامية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌في حفل ختام السنة الدراسيةبمعهد عبد الحميد بن باديس

- ‌محمد خطاب الفرقاني *

- ‌البصائر" في سنتها الثالثة *

- ‌رفع إيهام *

- ‌المعهد والمدارس *

- ‌والمدارس

- ‌نفحات من الشعر الجزائري الحديث*

- ‌برقية احتجاج *

- ‌الفضيل الورتلاني

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ علي الحمامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الزميل المنستيري *

- ‌أقطاب الفرقة القومية المصرية *

- ‌كتاب "نقرأ ونكتب

- ‌بيان حقيقة ورفع إيهام

- ‌المولد النبوي الكريم

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌مدرسة أولاد سيدي إبراهيم *

- ‌برقية تأييد لمطالب التلامذة الزيتونيين *

- ‌الوعظ في رمضان *

- ‌فتح جامع "الحنايا" ومدرستها *

- ‌المعهد الباديسي *

- ‌مدارس جمعية العلماء *

- ‌الأستاذ إبراهيم الكتّاني *

- ‌رسل الصحافة المصرية في الجزائر *

- ‌البصائر" في سنتها الرابعة *

- ‌رحلتنا إلى باريس *

- ‌بيان من رئاسة جمعية العلماء

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌من ثمرات الأخوة الإسلامية

- ‌افتتاح مدرسة بسكرة *

- ‌فرية غريبة *

- ‌حركة الإسلام في أوروبا *

- ‌حركة جمعية العلماء بباريس *

- ‌الدكتور عبد الكريم جرمانوس *

- ‌نغمة شاذة *

- ‌صحف الشرق العربي *

- ‌الكتب المهداة إلى "البصائر

- ‌اتحاد الأحزاب بالمغرب الأقصى *

- ‌تنصّل من تهمة *

- ‌بيانات للأمّة من المكتب الإداري لجمعيةالعلماء في قضية الصوم والإفطار *

- ‌أكبر زلّة تقترفها لجنة الأهلة *

- ‌ونعود إلى لجنة الأهلة *

- ‌هلال رمضان: معلومات وتنبيهات *

- ‌شكر واعتذار

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الإجتماع العام لجمعية العلماء *

- ‌نظام الاجتماع

- ‌التقرير الأدبي *

- ‌المدارس

- ‌المعهد الباديسي

- ‌البصائر

- ‌قضية فصل الدين عن الحكومة

- ‌العمل في فرنسا

- ‌العمل في مصر

- ‌ذخر من النصائح للمجلس الجديد:

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس

- ‌بلاغ *

- ‌التهنئة باستقلال ليبيا *

- ‌الأستاذ محي الدين القليبي *

- ‌دار الطلبة بقسنطينة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌بلاغات *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌خاتمة السنة الرابعة لـ"البصائر

- ‌فاتحة السنة الخامسة لـ"البصائر

- ‌خطاب أمام الوفود العربية والإسلاميةفي الأمم المتحدة *

الفصل: ‌ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء *

‌ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء *

تقديم: محمد الغسيري

ــ

ذكرني ما كتبه واقتبسه الأستاذ أبو بكر الأغواطي من درس الأستاذ الرَّئِيسُ الشيخ محمد البشير الإبراهيمى، الذي ألقاه بمدينة الأغواط يوم زارها في الأيام الأخيرة، أنه واجب علي وقد كتب لي أن أحضر بعض دروسه الرمضانية بالجزائر، ومنها الدرس النفيس الذي ألقاه بالمركز يوم 17 رمضان بمناسبة ذكرى بدر لسنة 1368، أن اقتبس بعضه لأقدمه إلى قرّاء "البصائر" ليتصوّروا جلال هذه الدروس، وما قدرت أن أنقل إليهم من معانيه إلا يسيرًا، فليعذروني إذا أنا لم أقدّم لهم غذاء لذيذًا كما يشتهون ويشتهي الفن، فحسبي لديهم أن قدّمت الغذاء، وحسبي لدى نفسي أن أرضيتها فيما طالما تحرّقت عليه أسفًا وحنت إليه شوقًا، ألا وهو ضياع تلك الدروس القيّمة والمحاضرات العامرة التي يلقيها الرَّئِيسُ في جولاته بربوع القطر الجزائري، تلك التي لا تتقطع طول السنة، وما أشبهها إلا بنهر عذب جارٍ يستقي منه القريب، ولا يحرم منه البعيد، أجل طالما تذامرنا وتقاسمنا- نحن معشر تلامذة الأستاذ ورفقائه- على أن كل من قسم له حضور تلك الدروس ليكتبن كل ما أسعدته ذاكرته بحفظه، وقلمه بتسطيره، ولكنّا نخلف مرة، ولا يسعدنا الحظ لمرافقة الأستاذ في أسفاره مرات، على أن حاضري الدرس من الكتّاب يؤخذون بالسماع، ويندهشون فلا يكتبون شيئًا، وكانت النتيجة ضياع كنوز من العلم والحياة لا تقوم بمال.

أجل لم ينقطع الأستاذ الرَّئِيسُ عن الجولان لخدمة الأمة والجمعيات والمدارس والمعهد إلا بضعة أشهر في السنة الفارطة لمرض أقعده، ولعدم وجود سيارة تقلّه، فتعطل كثير من الأعمال، واشتاقت المحافل إلى سماع صيحاته ونصائحه وبيانه الساحر، وحلّ المشكلات، واستمرّت الحالة كذلك زمنا قصر فيه أعماله وزياراته كلها على المعهد وحده، ولما تهيأت له الوسائل جاب البلاد في أمد وجيز تناول فيه بالزيارة ما يلي:

* "البصائر"، العدد 87، السنة الثانية من السلسة الثانية، 18 جويلية 1949م.

ص: 296

قسنطينة، سمندو، عزابة، مزغيش، عين قشرة، الميلية، الشقفة، أولاد علال، جيجل، القرارم، شاطودان، العلمة (سانت آرنو)، سطيف، حضنة أولاد دراج، برج بوعريريج، وهناك جاء العمل الحازم، ورجع عزم الأستاذ إلى الصول، ونشط لسانه إلى القول، واستهلّ سلسلة أحاديثه ودروسه بخطبة في الاحتفال بختم دروس معهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة، وبحديث في مؤتمر شُعَب جمعية العلماء بعمالة قسنطينة كما تكلّم في غالب البلدان السالفة الذكر، ثم سافر إلى الجزائر، وما مكث عند أهله- حسبما أخبرنا- إلا ثلاث ساعات سافر بعدها إلى المدية، وألقى فيها درسًا بالجامع الجديد، ومنها إلى الأغواط (وقد نقل بعض أحاديثه فيها الأخ أبو بكر ونشره في "البصائر" في حينه) ثم عاد إلى المدية فتقبل فيها دارًا عظيمة وهبها لجمعية العلماء محسنان كبيران لتكون مدرسة للتعليم، وبعد صلاة الجمعة في الجامع الجديد ألقى محاضرة أعلن فيها تبرع المحسنين بالدار وأعلن حكمه عليها أن تكون مدرسة خاصة بالبنات مؤلفة من ثمانية أقسام، وألزم رجال المدية باسم العلم أن ينهضوا لبناء مدرسة للبنين، وأنحى عليهم باللائمة في التقصير والتأخّر في مضمار التأسيس حتى على القرى الصغيرة مع أنهم من السابقين في النهضات على اختلات أنواعها، ثم قصد الأصنام بدعوة من جماعة مدرستها "مدرسة ابن خلدون" ليتكلم في احتفال أعدّته المدرسة، ولم يرجع إلى الجزائر إلا في أول رمضان.

إن نسينا شيئًا من عيوبنا فلا ننسى أن أكبرها هو إضاعة مثل هذه الدروس والمحاضرات، وإن فيها- والله- لكنوزًا من العلم والحكمة غالية، وإن أسينا فأول ما نأسى عليه أن لا يرافق الأستاذ العظيم في كل جولاته اثنان أو ثلاثة من الكتاب ليدوّنوا كل ما تنفرج عنه شفتاه، وكل ما يلفظه لسانه العذب الحكيم من الدرر، أما أنا فحسبي- أخيرًا- أن أقدّم إلى القرّاء ما يلي:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أما بعد: فإن الأمم تعرف في هذه الحياة بأيامها، والأيام أفراح وأتراح، الفرد فيها كالجماعة، وإن أعمار الأمم منها ما كان كله كالصفحات البيضاء نقاء وإشراقًا، ومنها ما كان مظلمًا حالك السواد، وإذا درسنا بدايات الأمم ونهاياتها- وهي ضارية في القدم والطول- وجدناها كبدايات ونهايات الأفراد سواء بسواء، وإذا أمعنّا النظر في أيام الجميع السارة لم نلفها إلا قليلة جدًا، وكذلكم كانت أيام المسلمين الزاهية السعيدة تكاد تعد على الأصابع، وما كان يوم بدر إلا من هذه الأيام القليلة، وما كانت واقعة بدر إلا من هذه

ص: 297

الوقائع المشرفة في تاريخ الإسلام والمسلمين الطويل، فلقد حيّرت المؤرّخين وملأت الأسفار بأسماء أبطالها القليلين، وذكر مآثرهم، وتعداد مناقبهم، وذكر عددهم الحربية المتواضعة، والإشادة بالمكان- كل ميزته أنه به قليل ماء، ما كان يوم بدر إلا يومًا من أيام الله في الإسلام- إذن، وهل يحسن التذكير إلا بأيام الله؟ ولقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ذكر موسى بني إسرائيل بأيام الله، وذكرهم بآلائه عليهم، ولما لم ينفعهم التذكير، وخالفوا أوامر الله وكثيرًا ما قتلوا أنبياءهم بغير حق، حقّت عليهم كلمة الله، وحاق بهم العذاب وهم لا يشعرون، فكان التيه الذي ظلّوا فيه معذبين أربعين سنة، كانت كافية لأن تنهض جيلًا من الشباب عزيزًا، شديد المراس، يأبى الضيم، ولا يرضى المهانة، وكافية لأن تذهب جيلًا من العجزة وشيوخ الهمم الأذلاء الذين درجوا في ساحات الذل، وشبوا وشابوا تحت كلاكل الاستعباد والسخرة المقيتة، وتلك حكمة الله في تذكير الأمم بأيام الله، لتتعظ، وترجع إلى الله، وتتدرّع بالعبر والمثلات، وحسن الاقتداء.

نعم، إن أيام النكبات عند العقلاء أعظم من أيام الرخاء والهناء، وأيام البلاء في حياة المسلمين أزهى أيامهم، وأجدى عليهم نفعًا، وأبقى ذكرًا، وأخلد أثرًا، والمؤرّخون الحقيقيون هم الذين يعنون بذكر جانب الاعتبار من الأحداث التاريخية الكبرى- لا أولئك الذين يسردون الوقائع سردًا- ليدرس الناس أسباب سقوط الدول، وأسباب عزّتها، وتكون مؤلفاتهم خير معوان للأجيال المقبلة لتتنكّب طرق الشر والشقاء، وتسلك مسالك الرشد والهدى، ولا أخال حديثنا الليلة يتناول غير ذلك الجانب الأهم من الوقائع.

إن يوم بدر، ويوم أحد ليعدّان- باعتبار آثارهما- مِن غُرّ أيامنا التاريخية، فلقد كان الأول نصرًا، وكان الثاني كسرًا، أفكان يوم أحد شرًا على المسلمين، وهم يعلمون ما سبب الهزيمة؟

إن القيم المعنوية في الرجال، من زكاء النفس، وعلوّ الهمّة، وإطاعة أوامر الله، هو الجانب المعتبر في حياة الرجال، وذلك ما أتاح النصر للمسلمين يوم بدر وهم قلة، وإن الطمع في الأسلاب الحقيرة، ومخالفة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هما السبب في هزيمة المسلمين يوم أحد، وهم كثرة، وأن القوة المعنوية التي تسلّح بها رجال بدر هي التي رجّحت كفّتهم، ولئن استشهد منهم قليل فقد انتصر الباقي على عدو قوي البأس، محارب بطل، يفوقهم عددًا وعدة، وشتّان بين من يسترخص الموت من أجل الحياة، وبين من يحاولها لإرضاء الشهوات، شهوات الغلب، ومحبة السمعة الزائفة، ومحاولة تحدي سنن الله وإرادته الرامية للأخذ بيد المستضعف في الأرض، وهو ما هزم المشركين يوم بدر وتركهم عظة وذكرى إلى يوم الدين، وكذلكم كانت واقعة أحد درسًا قاسيًا للمسلمين عرفوا به مصدر الداء، داء الغرور، ذلك المرض الذي ما أصيب به فرد أو جماعة إلا أهلكه، فلا يغترن أحد بنفسه،

ص: 298

ولا يغرنه زهوه وخيلاؤه فإن الدائرة في الأخير لا تدور إلا على رأسه، وإن من أعظم أدواء الغرور أن يلبس الإنسان غير لبوسه فيجني نتيجته هزيمة منكرة، ومرارة مستديمة، وتتعطّل به قوة الفرد، وقوى الجماعة، وأي خير بعد ذهاب القوة؟

وهل دارت الدائرة في غزوة أحد إلا على رأس المسلمين؟

ثم إذا طوينا صفحات من التاريخ، وجئنا نعدّد أيام المسلمين الزاهرة كيوم اليرموك، ويوم القادسية، وأجنادين، وذكرنا رجالها، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد، وعياض بن غنم وما أدراك من هما، وتصوّرنا العقبات التي لاقاها أولئك الأبطال في صلابة النفوس، ووعورة المسالك، وحداثة عهدهم بالنهوض، سواء مع الفرس أو الروم، عرفنا جلال عظمة تلك الأيام، وعصامية أولئك الأبطال المغاوير، وإذا ذكرنا أيام المسلمين الزاهرة التي مهّدت للمسلمين فتح مصر، وشمال أفريقيا، والأندلس وذكرنا في تاريخ الأندلس مثلًا واقعة "الأرك" و "الزلاقة" ويوميهما، وذكرنا عبد الرحمن بن معاوية الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وتصوّرنا حضارة العرب بالأندلس- كما في الشرق- تمثّلنا الإسلام في أروع مباهجه، وأعلى مكارمه، وأسمى روحياته.

أضِف إلى تلك الأيام يومًا أغرّ محجلًا ماجدًا في تاريخ المسملين ألا وهو يوم حطين بفلسطين، في عهد صلاح الدين، وما صلاح الدين إلا رجل كردي عادي لا يملك من ألقاب الشرف والحسب شيئًا، كان يدعى يوسف بن أيوب وكفى، ولكنّه كان صلاح الدين وحامي حمى المسلمين بحق، فهو قد رفع رأس المسلمين عاليًا، وحطّم الصليبيين تحطيمًا، وردّ غاراتهم ردًا قرّر مصير حياة المسلمين بعد ذلك في جميع جهات العالم، وأنقذ مكّة والمدينة حيث مأرز الإسلام وفخار المسلمين.

أجل حارب الصليبيين الذين رابطوا قرب المعرّة نحو مائة عام يستعدّون لتسديد الضربة القاضية فهزمهم هزيمة شنعاء لم يعرف التاريخ نظيرها في تلك الأيام، وهم قوم غلاظ شداد يحملون في نفوسهم حقدًا على الإسلام والمسلمين طالما غذاه القساوسة والرهبان في أوروبا بمختلف أنواع التغذية المسمومة، الراجعة إلى خبث الطوية، وفساد التربية، وسوء التوجيه، أولئك هم الصليبيون الذين حاربهم صلاح الدين، وتلك بعض صفاتهم، وأولئك هم الذين ما تزال بعض سماتهم ماثلة للعيان في بعض الأمم حتى في أيامنا هذه.

بلى، إن الأرك والعقاب بالأندلس، وحطين بفلسطين، واليرموك بالشام، والقادسية بالعراق، وبدر بالحجاز هي أسماء أماكن وقعت فيها غزوات، ولكنها لا تدلّ في فهمي إلا على درس خالد في الوطنية العليا، إذ خلود الأماكن خلود للأوطان، وإن في حياة خالد وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي وما أتوا من خوارق العادة لأعظم درس في سير

ص: 299

الرجال، وخلود الأبطال، وإن من حافظ على الأوطان ولم يبخس الرجال حقّهم كتب الله له الخلود، ومن ضيّع الأوطان، وبخس عظماءه حقّهم ذهب في الذاهبين، وهل يمكن أن يحفظ القلب في غير الجسد؟ وهل ينسى المسلمون تلك الأماكن وأولئك الرجال؟

نعم كانت بدر موقعة حاسمة في تاريخ المسلمين كما كانت الوقائع الآنفة الذكر في غالبها نصرًا مبينًا، وما كان الدين الإسلامي ليبيح الحرب، وما كان ليحبّبها إلى النفوس، بل يبشع بها وبمثيرها ولكنه يحبّ السلام، ويدعو إلى السلام، إلا إذا اضطرّ إليها اضطرارًا ليدفع الشرّ بالشرّ، وهناك يخوضها المسلمون في غير هوادة حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، رجعوا إلى البناء والتعمير، ونشر العلم والعدالة والإخاء بين الناس، وراحوا يصافون حتى المحاريين المعتدين، وما أكثر هؤلاء وما أصدق قول الشاعر الأول في هذا المعنى:

تَعْدُو الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لَا كِلَابَ لَهُ

وَتَتَّقِي صَوْلَةَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي

وما أصدق قول حكيم العصر شوقي في نفس المعنى:

ألم ترَ أنهم صلفوا وتاهوا

وسدّوا الباب عنا موصدينا

ولو كنا هناك نجر سيفًا

وجدنا عندهم عطفًا ولينا

هذه حقيقة الإسلام، وهذا هو التاريخ الإسلامي فليقتد المسلمون، وليؤوبوا إلى الله، وليذكروا بأيامهم وليقبلوا على العلم.

وفقنا الله وإياكم لما يُحِبُّه ويرضاه.

ص: 300