الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
2
- *
كنت خلاصة ما تمّ في ذلك الاجتماع الذي قصصنا أخباره، أن الهيئة تتركّب من خمسة: العقبي، وبيوض، وعباس فرحات، ومصالي الحاج، وكاتب هذه السطور. وإنها هيئة إخوان لا رئيس فيها ولا مرؤوس، وإنما يرأس كل جلسة من يجتمعون في مكتبه، وأن اسمها (الهيئة العليا لإعانة فلسطين)، وأن تبدأ أعمالها بإرسال برقيات باسمها إلى جهات مخصوصة منها برقية تأييد وإعلان لوصل رحم العروبة، ترسل إلى أمين الجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، ومنها برقية تنديد واستنكار ترسل إلى منظمة الأمم المتحدة، وأن تشكل على الأثر لجنة تنفيذية من أعيان الأمّة لا تراعى فيهم حزبية ولا غيرها من الاعتبارات الضيّقة، تتولّى جمع الهبات المالية باسم الهيئة.
وكان مصالي الحاج في أثناء الاجتماع حريصًا على ذكر إخواننا مسلمي شمال إفريقيا بفرنسا، يدمج الكلام عنهم إدماجًا بلا مناسبة، واستطرادًا بلا نكتة، كأن له فيهم أربًا خاصًا، أو كأن له عندهم حسابًا خاصًا. ولم أتبيّن مراده من ذلك إلا بعد حين.
وافترقنا على الساعة الواحدة بعد زوال ذلك اليوم على أن نرسل البرقيات في مسائه، واقترح مصالي أن يتولّى صوغ البرقيات صاطور المحامي (وهو بياني)(1)، واقترح أحد الحاضرين أن يحضر معه مزغنة (وهو انتصاري)(2)، واجتمع الاثنان على الساعة الرابعة بمكتبي في مركز جمعية العلماء، ووضع صاطور صيغة البرقيات، ووافق عليها مزغنة، ولما فرغا من ذلك دخلت مكتبي فوجدت صاطور يكتب البلاغ الذي ينشر في الجرائد عن الهيئة، وتلا الصيغة على زميله فارتضاها، ودفعت نسخ البرقيات إلى كاتب المركز فترجمها فارتضيتها.
* "البصائر"، العدد 53، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 18 أكتوبر 1948م.
1) بياني: نسبة إلى حزب أحباب البيان الذي كان يرأسه فرحات عبّاس.
2) انتصاري: نسبة إلى حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي كان يرأسه ميصالي الحاج.
ولم يبق إلا أن تعرض على زملائي ليوقّعوا عليها، وهنا جاءت المشكلة التي دونها مشكلة فلسطين نفسها
…
كنت أتوقع- تمرّسًا لا تفرّسًا- أن يختلف الرجلان في ترتيب الأسماء الخمسة وأن يتعضب كل منهما لحزبه ولصاحبه وكل منهما يمثّل هيئة سياسية. وكان من المعقول أن تمحو قضية فلسطين كل أثر حزبي في النفوس، وأن تنسي هؤلاء المتحزبين أنفسهم وأحزابهم، وأن يحسبوا حسابًا للأمّة التي بلغ بها الحماس إلى أقصى حدوده وأن يقدّروا الدعوة التي جمعتهم على اسم الإسلام والعروبة وفلسطين، وأن يحترموا الداعين من العلماء لأنهم البادئون بالدعوة، والمتقدّمون بالفكرة، ولأنهم (فوق الأحزاب)، ولأن وجودهم يرفع الخلاف.
ولكن مزغنة خالف المعقول والمنقول وقال: إن اسم رئيسه يجب أن يتقدّم على جميع الأسماء
…
، قال له صاطور في هدوء: ولماذا؟ قال: لأنه محبوب ومعروف في الشرق
…
ولأن حزبه حاز الكثرة في الانتخابات
…
قال له صاطور: لسنا في مقام تكاثر وتفاخر. ولسنا في مقام انتخاب، ولو شئت لقلت في كثرتكم وشهرتكم ما ينقضها عليك. ولكنني أنا وحزبي راضون- بكل افتخار- بأن يتقدم اسم جمعية العلماء على الجميع وراضون بعد ذلك بأن يكون اسمنا في الأخير. وسألاني رأيي وقد أيقنت أن قد ظهرت السرائر، وتحرّك داء الضرائر، فقلت: اصنعوا كما صنع إخوانكم في تونس بالأمس. وكان من المصادفات وجود عدد من جريدة "النهضة" بين يدي فيه تفصيل ما وقع بتونس، فقرأت عليهما البلاغ والبرقيات وفيه ذكر الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي في صدر البلاغ. فلم يقتنع مزغنة. ولم يجد من الجواب إلا أن تونس غير الجزائر. فقال له صاطور: ولكن قضية فلسطين هي قضية فلسطين
…
ولكن جمعية العلماء هي الداعية
…
وأين كنتم وأين كنا منذ ثمانية أشهر وعشرة أشهر؟ وأصرّ مزغنة على رأيه، فأصرّ صاطور على رأيه، فأصررت على تقديم اسم الشيخ العقبي رفعًا للخلاف. ووالله لقد تمنيت أن لو كان حضر مجلسنا واحد أو جماعة من المغرورين بهؤلاء القوم والمتأثرين بدعاياتهم الجوفاء في تونس والمغرب، إذن لعرف من حقيقة أمرهم في مجلس واحد ما عرفناه في سنين. ولعلم من هذا المجلس أن الجزائر المسكينة تستدفع البلاء الأسود بالبلاء الأزرق، ولصدق أن عند بعض رجالها أفكارًا لا كالأفكار. ولتحقق أنه ليس من المحال وجود منزلة بين الإقرار والإنكار
…
وفي ختام الجلسة قال مزغنة: إن هذه مشكلة لا يضطلع بحلّها، ومعضلة لا يستقلّ بحملها، ولا بدّ من مشورة (الصغار) بهذا اللفظ، وهو يعني به الشبان. وأنذرنا بأنهم لا يقبلون. وافترقنا على أن يعرض مزغنة مشكلته على صغاره فيحكموا حكمهم فيها ويرجع إلينا بالقول الفصل غداة غد، وانتظرناه صباح الغد فلم يرجع، وصادفناه أنا والعقبي في الطريق
العام فقلنا له: إن المسألة لا تحتمل التطويل، فأفهمنا أنها في نظرهم من أخطر المسائل
…
ولا بدّ لهم من أخذ (موقف) فيها. وأجّل الوعد إلى المساء، ولكنه لم يرجع ولم يف بالوعد.
أما أنا فلم يزدني ذلك كله علمًا بالقوم وبأساليبهم في اللعب والدوران، فقد بلوتهم في جميع المواقف، ونفضت جعابهم جعبة جعبة، وتقريت شعابهم شعبة شعبة، ودرستهم تقريبًا وتبعيدًا، وخالطتهم تصويبًا وتصعيدًا. إلى أن كان اتصالي بهم في مفاوضات الاتحاد بين الحزبين ستة أشهر كاملة. وأنا قديم العهد بدراسة الملل والنحل والفرق، فغير بعيد عنّي أن أدرس الأحزاب والجمعيات، وأما الشيخ العقبي فقد بدا له منهم ما لم يخطر له ببال، وبدا له أن هذا التلاعب واقع منهم لا من رئيسهم، فعرض عليّ أن نلقى ذلك الرَّئِيسُ وحده مرّة ثانية إبلاغًا في النصيحة، واستبراءً للذمّة، وتبليغًا للأمانة الدينية، فأفهمته "أن العصا من العصية" وشرحت له ما يجهل من الحقائق، ولكنه آثر الاحتياط وإقامة الحجّة، فلقينا الرَّئِيسُ، يثلثنا الشيخ بيوض، ويربعنا الأستاذ توفيق المدني، وقصصنا عليه قصّة أصحابه وسفرائه، من يوم فارقناه إلى يوم لقيناه، وكنا نتوقع أن يقول: إنه لا علم له بشيء من ذلك كما هي عادته معنا ومع الأستاذ العربي التبسي أيام كان يسعى للاتحاد بين الحزبين. ولكنه خرق العادة وقال: إنه موافق على كُلِّ ما قرّره أصحابه، وإنه لا يستطيع أن ينقض منه حرفًا، ولا أن يخرج عنه شبرًا، وتظاهر بالأسف لكون المسألة تتعلّق باسمه. وزاد في وصف حزبه أنه حزب طاهر، وفي وصف نفسه أنه محبوب. وعادت به الذاكرة إلى الاجتماع الأول فعدّ من نقائصه بل من تواطئنا على الغلط فيه أننا لم نعيّن للهيئة رئيسًا، وأفاض في الحديث عن الرياسة ولزومها للهيئات ولو قلّ أفرادها، وكانت ألفاظه كلها ترشح بترشيح نفسه للرياسة.
ثم تكلّم العقبي فشرح له مقصدنا الحقيقي من هذه المساعي، وبيّن له أن العلماء قد ضربوا المثل في الحرص على جمع الكلمة وانتهاز أسبابها، وأن جمعية العلماء هي صاحبة الفضل على الوطن بما طهرت من عقائد، وما علّمت من أجيال، وما أقامت للإسلام والعروبة من معالم: وفصل له أعمال أصحابه فأوسعها تنديدًا وتقبيحًا
…
وصرح له أن كل دعايات حزبه قائمة على التبجح بالتضحية، ولكنهم لم يضحّوا باسم
…
فأين هذا من دعوى التضحية؟
وتكلّم الأستاذ المدني فذكر أن ما وقع بالجزائر هو عين ما وقع بتونس، مع فارق
…
وهو هذه النتيجة. مع أن الحزبية في القطرين تلبس لبوسًا واحدًا.
وتكلّم الشيخ بيوض في قضية فلسطين وما تتطلّبه منا من تضامن الهيئات، ونسيان الشخصيات والحزازات، ولمح لما يجب على الرجال، من احترام الرجال، وصرح بالتحذير من عواقب هذا التشدّد في الصغائر، وهذا الشذوذ الذي جاء من جهة واحدة.
وطلبنا في النهاية نسخًا من الصور التي أخذت لنا مجتمعين في الاجتماع الأول على أن ندفع ثمنها لتبقى عندنا تذكرة بعمل لم يتمّ
…
فأكّد لنا السيد الرَّئِيسُ أنهم لم يخرجوا منها ولا نسخة
…
والناس كلهم يستبعدون هذا من جماعة يعدّون من أبرع محترفي بيع الصور.
وخرجنا مزوّدين بما شاء الله من معلومات جديدة في علم النفس.
…
والفصل الأخير من هذه الرواية هو أن مزغنة الذي لم يف بالوعد ولم يرجع إلينا بنفي ولا إثبات، وفى بشيء آخر، وهو أنه- في ذلك اليوم- أذاع بيانًا عن هيئة حزبية خارجة عن الاتحاد، ليس فيها إلا اسمه وعنوانه، وبهذا حقّق مبدأً أساسيًا من مبادئ حزبه، وهو أنه لا يعمل مع أحد ولا يتّحد مع أحد، لأنه وُجد للخلاف، وعاش على الخلاف. ولا يعيش - بطبيعته- إلا على الخلاف. وبهذا كشف الغطاء عن حقيقة علمناها منذ سنتين، وجهلها الغافلون المغرورون، وهي أن رئيسهم رئيس (شرفي) ليس له من الأمر شيء، وأن بينه وبين مزغنة، إدغامًا بلا غنة
…
كما يدغم اللام في اللام، فلا يظهر إلا المتحرك
…
وأن ذلك الرَّئِيسُ الشرفي أسير في قبضتين: قبضة الحكومة، وقبضة العصابة المزغنية، وأن هذه العصابة تستغلّ اسمه، وتستذلّ رسمه. فمن كان في قلبه شيء من الشفقة على الرجل، وفي يده شيء من القدرة على إنقاذه، فلينقذه من أسر أصحابه.
ثم أخذ يوهم أنه هو البادئ مع سكوته ثمانية أشهر. وأخذ هو وجماعته وورقتهم ذات الوجهين، يتقوّلون علينا الأقاويل
…
...
والفصل الأول والأخير في الرواية أن (الهيئة العليا لإعانة فلسطين) تمّ تكوينها في ذلك اليوم، وقامت على أربع دعائم قوية متينة تتمتعّ بالثقة التامة في الماليات. وفي ذلك اليوم تكوّنت اللجنة التنفيذية من أهل العلم والفضل والجاه من الأمّة، واحتفظنا للهيئة باسمها الأصلي، وأطلقنا عليها وصف (هيئة الاتحاد)، وجعلنا شعارها الحكمة والصمت، ثم شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين عدة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين، واستلمنا الشهادة القاطعة على وصولها، ورفعنا رأس الجزائر، ومحونا عنها بعض التقصير. وما زلنا جاذين في عملنا الصامت لا ضوضاء ولا جلبة.
أما القوم فقد عملوا في ثلبنا وتنقصنا أضعاف ما عملوا لفلسطين، ولو كنا نعلم أنهم يعملون لفلسطين- حقيقة- للقوا منا كل إعانة وتشجيع
…
على أنهم لم يستغنوا عن الالتجاء إلى اسمي- حتى في هذه المرّة- فقد قامت الشواهد، وقام الشهود على أنهم جمعوا المال لفلسطين هنا وفي فرنسا باسم كاتب هذه السطور. وليست هذه بأول مرّة ارتكبوا فيها هذه الخطيئة.
هذا بيان مجمل للحقيقة بلا تعليق. ولولا اقتضاء التاريخ والحقيقة، ولولا الاستجابة لطلابهما، لما خططنا في هذه الرواية حرفًا.
أما التعليق
…
فنسأل أهل النحو، أي اللفظين أصلح؟
…
الإلغاء
…
أو التعليق
…