الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية *
ما هذه اللجنة التي فرضت نفسها على المسلمين، أو فرضتها الحكومة على دين المسلمين؟ وعلى أي سند تستند؟ أعلى الدين؟ والدين لم يجعل للقضاة ولا لِلِّجَانِ سلطانًا على شعائره. أم على التاريخ؟ والتاريخ لم يعرف في جميع عصوره جماعة بهذا الإسم. أم على التقليد الموروث المتلقى من الأمّة بالقبول عن طوع واختيار؟ والتقاليد لا تعتبر إلا إذا عركتها الأزمنة وأصبحت جزءًا من حياة الأمّة، جارية منها مجرى الضروريات التي لا غنى عنها.
يقول الشيخ قاضي الجزائر في بلاغه الذي نشره بالجرائد الفرنسية قبيل رمضان ما معناه: إنه رئيس للجنة الأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة، وإن هذه اللجنة أصيلة، وإنها لا صلة لها بالحكومة، ولا مدخل للحكومة فيها، هذا معنى كلامه. ونحن وجميع الناس لا نعرف إلا أنها حكومية لحمًا ودمًا ووضعًا. وأنها حديثة عهد بالولادة والتسمية. سبقتها لجنة أخرى مبتدعة كانت تسمّى لجنة الأهلة. لم يطل عمرها كبقية الأوضاع المزوّرة على الدين والتاريخ. ولا نعرف عمن ورثها الشيخ القاضي لولا الحكومة؟ ولا ندري من قلّده إياها لولا الحكومة؟ ولا من أي طريق توصّل إليها لولا القضاء؟ ولا من أي طريق توصل إلى القضاء لولا الحكومة؟ فالحكومة هي الأولى والأخيرة في الموضوع ولا معنى لإنكار ذلك. ولم يتوصل بها الشيخ بانتخاب من الأمّة، ولا بمؤهّلات علمية أو دينية.
وإذا كان من بعض تراتيب الحكومات الإسلامية في القديم نصب قاض خاص بالأهلة، منقطع طول العام لتتبع مطالعها ومغاربها فإن ذلك سند انقطع، وسنة ماتت. على أن مفهوم "قاض" للأهلة غير مفهوم رئيس للأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة. فإن إدخال الأعياد هنا يشعر بأنها لجنة احتفالات بالأعياد تقيمها وتنظمها.
* "البصائر"، العدد 45، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.
ويقول الشيخ القاضي فيما ردّ به على زميله المفتي الحنفي ونشره بجريدة "الوزبر": إن لجنة الأهلة والمواسم الإسلامية في جميع أقطار الإسلام من خطط القاضي المالكي. ونحن نعرف أقطار الإسلام، ولكننا لا نعرف هذه الخطة. ونعرف تاريخ القضاء ولا نعرف أن هذه الخطة من خصائصه ولو كان مالكيًا. ثم ما معنى خطط القاضي؟ لقد كانت للقاضي خطط يوم كانت في يده الحدود والمظالم والتعزيرات والحسبة والأموال. أما قضاة (ما تحت الاستعمار الفرنسي) فهم كمسائل (ما وراء الطبيعة) وإنما ينظرون في الأنكحة والمواربث وأموال المحاجير نظرًا مقيّدًا بالقانون الفرنسي، وبسلطة القاضي الفرنسي.
ويقول أيضًا: إن لجنته لا تقلّ قيمتها عن الهيئات الموجودة في الأقطار الإسلامية الأخرى. ونحن لا نسلم هذا إلا إذا سلّمنا أن هيأة قاضي الجزائر مساوية للهيئات الإسلامية في العلم والدين والمحافظة على الشعائر والذب عنها ولا نستطيع التسليم بذلك إلا إذا رزقنا جرأة كجرأة الشيخ القاضي.
ويقول أيضًا: إن أعضاء هيأته كلهم متضامنون متحدون متفقون على ما فيه الخير والصلاح ودرء الخلاف والشقاق بين إخوانهم المسلمين الخ
…
وبعض هذا صحيح، وهو التضامن، فقد تضامنوا في ليلة الشك على النوم من الساعة التاسعة ونصف- العاشرة، وتركوا الأمّة تنتظر.
…
إن سلطة القاضي في الإسلام مقصورة على أحكام المعاملات الدنيوية ولا صلة لها بالعبادات، البتة، ومن أحكام المعاملات سماع الشهادة وتعديلها أو تجريحها، لأنها أساس في إيصال الحقوق إلى أهلها. أما الشهادة على الرؤية، رؤية الهلال، فهي من باب الخبر، لا من باب الشهادة. إذ لا حق للمخلوق هنا: وكل من سمع الخبر تعلّق به الحكم، وهو وجوب الصوم. والفرق بين الشهادة والخبر معروف عند الفقهاء. ولكن قضاتنا صيروا الخبر - رغم أنفه- شهادة، ودخلوا من بابها إلى رمضان الذي هو عبادة محضة لا يدخل فيها حكم الحاكم، فابتدأ تدخّلهم في مسألة الصوم بتلقّي الشهادات وتسجيلها ثم توسعوا في المسألة لهذا العهد حتى توهموا- بسكوت العامة- أنها من مناطق نفوذهم. ثم ترقت المواصلات الإخباربة بالتلفون والراديو، فأصبحت المسألة مصدر شهرة، فنافسهم فيها المفتون، ونازعوهم حبل النفوذ والظهور ثم ازدادت عناية الأمّة بدينها، فازداد الفريقان بها تعلّقًا. يتخذ منها المفتي مشغلة لوظيفته العاطلة، وتعميرًا لوقته الفارغ. ويتخذ منها القاضي أداة ظهور وزلفى للأمّة، وعلالة بالنفوذ الديني، ومظهرًا من مظاهر العناية بالدين يتجدد في
كل عام. ومن فاتته السلطة النافذة في صميم وظيفته، التمسها بالتصنع والانتحال، وانتجعها في المراعي البعيدة.
ثم جاءت الحكومة في الأخير لتستغل ما زرعت بذوره، وغرست جذوره. وكان صوم هذا العام هو مصنع التجربة
…
هذه هي وظيفة القاضي مقيّدة محدودة. أما المفتي فإنه لم يذكر في الكتاب. ولا مفتي في الإسلام بهذه الصورة. وإنما الفتوى في الدين واجب مشاع بين علماء الدين، وإذا كان خلفاء بني أمية يقيمون في مواسم الحج الأكبر مناديًا ينادي لا يفتي في الناس إلا عطاء، أو لا يفتي في الناس إلا طاوس، وإذا كانوا يقولون لا يُفتى ومالك بالمدينة، فما ذلك إلا أنه عطاء وطاوس ومالك
…
ونحن نسمّي حادثة هذا العام مهزلة حكمًا بالظاهر، وقياسًا على ما كان يقع في الأعوام الماضية من التلاعب وتقوية أسباب الخلاف بين جماعات هذه الأمّة المسكينة. أما في هذا العام فهي مهزلة ومكيدة معًا. فقد دلّت القرائن على أنها مكيدة مدبّرة محبوكة الأطراف، اشتركت فيها عدة هيئات وأشخاص أولها الهيئة الحكومية، وآخرها هيئة الأهلة والأعياد، وبينهما ما شاء الهوى من وسائط وأدوات. منها راديو الجزائر الذي بادر إلى النوم، كأنما كان هو واللجنة فيه على ميعاد، ولا نبرئ راديو تونس في هذا العام، فقد رأيناه يتثاءب ويتمطّى ويتناوب ويضيق به الصبر فتسكت نامته، وآذان سامعيه معلّقة به. كأنما سرت إليه نفحة من وحي الجزائر.
وهكذا تقوم الشواهد كل يوم على أنه لا ثقة بهذه المصالح والهيئات التي لا تتحرك ولا تسكن إلا بالوحي والإيعاز، ومنها مرصد (بوزريعة) الذي يعتمد عليه الشيخ القاضي ويقول عنه لسان حاله: إنه حيث لا هلال في المرصد، فلا هلال في السماء. ونحن لا نثق ببوزريعة ولا بمكبراته، ومتى كان بوزريعة مصدر شريعة؟ ومتى كان مصدر وحي بالصوم والإفطار؟
إن الرصد علم. لم يبلغ بنا الجمود أن ننكره. ولكن الاستعمار يفسد العلم بإفساد العلماء. ويوم يجمع علماء الإسلام على الرجوع في الصوم إلى الحساب والترحيل يكون لهم في علماء الفلك منهم مندوحة عن مراصد الاستعمار التي يشيّدها، ويقيّدها. وعن علمائها الذين لا يسميهم حتى يسممهم.
أصل هذه المهزلة أو المكيدة، وعفتها التي سهّلت على مرتكبيها ارتكابها مهزلة أخرى صنعها الاستعمار صنعًا ليذرّ بها الرماد في العيون، فقد شرع في العام الماضي قانونًا يقضي باعتبار الأعياد الإسلامية أعيادًا رسمية تعطل فيها المصالح والأعمال. ومن ذلك اليوم زيد في اسم (لجنة الأهلة) سطر وهو (والأعياد الإسلامية الكبيرة).
وإلى الآن لم ندر ما مرادهم بالكبيرة؟
لم تبلغ بنا البلاهة إلى حدّ أن تخفى علينا المقاصد الحقيقية من هذه الترهات. فقد فطنا من أول لحظة للقصد من هذا التشريع التافه. وسبق الشيخ أبو القاسم البيضاوي فكتب مقالة في العدد الثامن عشر من "البصائر" كشف فيها الغطاء عن هذه اللعبة، ونبّه الأمّة إلى ما ينطوي عليه هذا القانون من كيد. وأن الغاية منه التوصل إلى العبث بأعيادنا والتحكم في شعائرنا بواسطة لجنة كلجنة الأهلة والأعياد.
كانت المكيدة مفضوحة بنفسها وبأيدي رجالها الذين غفلوا عن موطن النقد فافتضحوا ودلونا على أن الأمر كله وحي وإيعازات.
ذلك أن ليلة الأربعاء هي ليلة الشك. فكان الواجب على لجنة الأهلة أن تنسى الأعياد، وأن تأخذ للأمر حيطته بأربعة أمور:
الأول: أن تبقى مجتمعة في مكتبها إلى ما بعد منتصف الليل لتتلقّى الأخبار لاسيّما وبلاغ الشيخ القاضي يتضمن هذا.
الثاني: أن تتقدم إلى إدارة البريد بإبقاء المكاتب البريدية في القرى الصغيرة مفتوحة إلى ذلك الوقت.
الثالث: أن تتقدم إلى إدارة الراديو بمثل ذلك.
الرابع: أن تكون على اتفاق مع جميع قضاة القطر بأن يتصلوا بها إلى ذلك الوقت. ولو شاءت اللجنة لفعلت ذلك من دون مانع ولا عائق، أولًا لأن للقضاة جمعية ورئيسها
هو رئيس اللجنة. وثانيًا لأن هذه الأشياء الأربعة حكومية، فهي أخوات من الرضاع وقد سمعنا أن جمعية القضاة اجتمعت مرات، ولم نسمع أنهم ذكروا هذه المسألة الخطيرة بكلمة.
غير أن لجنة الأهلة والدعاية لم تفعل شيئا من ذلك، بل فعلت نقيض ذلك. فما جاءت الساعة التاسعة ونصف- العاشرة حتى كانت مكاتب القاضيين والمفتيين بالجزائر كلها مغلقة، وأهلها نائمون. وسرى النوم منهم إلى الراديو فغطّ، كأن الليلة ليست ليلة شك. وكأن الأمّة ليست في انتظارهم وانتظاره وكأن الشيخ القاضي لم يكتب في ذلك بلاغا. ولو أنه انتظر إلى نصف الليل، لَقام عن نفسه بالعذر سواء صدّق خبر قسنطينة أو كذّبه.
وقد طلب مركز جمعية العلماء مكاتب القاضيين والمفتيين مرارًا إلى ما بعد نصف الليل، فلم يجبه أحد، وجاءتنا الأخبار من الآفاق بأن عشرات من الناس طلبوا مكتب اللجنة
عشرات المرات فلم يجبهم أحد. وأن محكمة قسنطينة خاطبته بعد العاشرة لتبلغه الخبر الذي تلقّته بالرؤية فوجدته نائمًا. وبلغتنا الأخبار الصادقة بأن كثيرًا من المحاكم لم تفتح ليلة الأربعاء ولا دقيقة، وأن قاضي سطيف استيقظ في الساعة الثامنة من صباح الأربعاء فبلغه أن الرؤية ثبتت عند قاضي قسنطينة، فأمر مناديًا ينادي في الناس بالإمساك فقابله مفتي البلد به بمناد آخر ينادي بالفطر. وكانت فتنة، وكان تشويش، وكانت سخرية بالغة من الأجانب. وما كان القاضي ولا المفتي يريد بما صنع وجه الله ولا نصر الحق، وإنما هو تنازع على نفوذ موهوم ورياسة زائفة.
ومما يزيد في الحسرة والألم أن جريدة "ديبيش قسنطينة" نشرت صباح الأربعاء خبرين متناقضين في إطار واحد، أحدهما بالحرف الدقيق ومعناه أن قاضي قسنطينة أثبت الصوم، والآخر بالحرف الغليظ ومعناه أن قاضي الجزائر يقول: لا رؤية، ولا هلال، ولا صوم. وجريدة "الديبيش" من ألسنة الاستعمار الحادة، ومن معامل الكيد للإسلام والمسلمين، ومصانع الاستخفاف بهما، والاحتقار لهما. ولها في كل حرف تنشره عنهما حكمة وغرض. ففي نشر الخبرين معًا في إطار واحد بنوعين من الحروف أحدهما يلفت النظر، معان لا تخفى علينا ومغاز لا نستغرب منها، ودلالة على دعايتها لأحد الخبرين، وترجيحًا له. وإننا لا نلومها على شيء خلقت له، فقامت به أحسن قيام. وإنما نلوم هذه الهيئة القضائية المتشاكسة على إدخالها الأغراض الشخصية في مسائل الدين، وعلى هذا التلاعب الذي مهّدت به السبيل للسخرية من الإسلام والمسلمين.
…
أصبحنا لا نثق بهذه الهيئات المسيرة، ولا بهذه الآلات المسخرة. فهل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينظروا لدينهم، ويجمعوا على أمر يشرف الإسلام وينقذه من هذه الفوضى المخزية. وسندلي برأينا في ذلك ونشارك في وضع خطة الإنقاذ.
وقد كنا نشرنا على الأمة منشورًا في العام الماضي، وأعدنا نشره في هذا العام مكنا فيه للثقة بمراكز الإذاعة في تونس والجزائر والرباط، وبالأخبار التي تأتيها من الهيئات الشرعية، حملًا لها ولهم على محمل الأمان والائتمان. ولم نراع في ذلك كونهم قضاة ولا مفتيين. وإنما راعينا كونهم عمالًا مؤتمنين. أما الآن
…
وبعد اطلاعنا على هذه الخائنة منهم فقد بدا لنا فيهم بداء. وما على الأمة بعد هذا إلا أن تعتمد على نفسها، وأن تتبادل الأخبار التلفونية من شاهدين إلى شاهدين، وأن تجتهد في تعميم الأخبار بالوسائل الممكنة.