الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حركة الإسلام في أوروبا *
الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين العقول وبين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى. لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل إفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوروبا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان، من غير استئذان. وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكّنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهًا على الدين. وإنما مكّنت للإسلام طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوّة والعزّة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرّقوه شيعًا ومذاهب، فضعف تأثّرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع.
لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغيّر ما به فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهمها الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي وإصابة الصواب ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.
* "البصائر"، العدد 147، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 19 مارس 1951م.
ولو كان المسلم مسلمًا حقّا لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قوّيًا به في المعنى، كثيرًا به في المادة. ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد. ونكون قد أضفنا إلى هذا العنصر المادي العصري الفوار عنصرًا روحانيًا فوارًا يلطف من حدّته ويخفف من شدته، فيتكوّن منهما مزاج صالح يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم.
إنك لترى للمسلمين وجودًا في كل قطر، وتسمع عنهم نبأ في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطًا للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساسًا للقوّة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون. ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضيقة الآفاق من جنسية وإقليمية في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة، إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية.
…
وهناك في الأقاصي من شمالي أوروبا طوائف من إخواننا المسلمين المتحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جريرة البلقان، ثم مدّت مدّها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في (فنلندا).
ولا نشكّ أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشكّ أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوّته وجدّه، ولكنهم في حياتهم الدينية، مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تقوّي ضعفهم المادي وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم.
ويظهر للقارئ من كلمة الأستاذ محمد فهمي عوض المنشورة في العدد الماضي ومن الصور التي ننشرها اليوم، ومن الرسالة المفصلة التي كتبها إلينا الشيخ حبيب الرحمان شاكر إمام المسلمين في فنلندا، يظهر من ذلك كله ما هم في حاجة إليه، فليس لهم مسجد جامع يؤدّون فيه الشعائر الدينية، وإنما يصلّون الجمعة في قاعة سينما يكترونها لساعات، وليس عندهم من الكتب الدينية العربية شيء إلا المصاحف، وإنما يتمتعون بشيئين مهما تكن قيمتهما غالية فإنهما لا تغنيان عن المفقود. وهما: العقيدة المتينة، والحرية التامة.
وجمعية العلماء تبتهج بهذه الصلة الجديدة بإخواننا مسلمي فنلندا، وتصل بهذه الكلمة وشائج القربى الدينية، وتحرّك بها سواكن همم المسلمين في الشرق والغرب ليلتفتوا إلى هذه الناحية من جسمهم فيداووا علّتها، ويسدّوا خلتها، ويربحوا بها ما يزيد في عددهم، وإن هذا لأقل ما يوجبه الإسلام على المسلم.