الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الفرزدق: خطرت ورائي دارمي وجماري. ونسيت الشطر الأول. ومما يطربني من كلام الشعراء في ذكر الجمرة والجمار قول مهيار الديلمي تلميذ الشريف الرضي في إحدى قصائده:
يا ابنة (الجمرة) من (ذي يزن)
…
في الصميم العِدِّ والبيت الرحيب
وبا بني: إن مما آسف عليه أسفًا لا ينقضي، ضياع هذا العلم من بيننا، علم أنساب العرب وأيام العرب وأمثال العرب، وإنها لكنوز من المعارف وأجزاء كاملة من التاريخ والأدب ومحال أن يزدهر الأدب العربي ويؤثر آثاره المرغوبة في ناشئتنا إلا إذا استكمل الأدباء هذه الأجزاء المفقودة.
وعلى ذكر اختيار العرب في التسمية ضبّة دون ضب، أذكركم بكلام كنت قرأته لبعض علماء اللغة المتبحّرين في فهم أسرارها، وهو أن العرب يلحقون تاء التأنيث بصفات المذكّر كثيرًا كـ"علامة" و"فهامة" و"تكلامة " و"تلقامة" و"رحلة " و"هزأة"، وهي كثيرة في كلامهم، قال: وهم يرون فيما هو منها مدح إلى معنى الداهية، وفيما هو منها ذم إلى معنى البهيمة العجماء، وهو كلام فقيه في العربية محيط بأسرارها ومقاصد واضعيها وخلجات نفوسهم، وأظن أن صاحب هذه النظرية هو ابن الأعرابي أحد فقهاء اللغة المبرزين، ولا أقطع بذلك.
((فصل))
وقد جرى في هذه الرسالة ذكر الوزير المغربي
، وهو رجل يقبح بمتأدب أن يجهله، وهو رجل غريب الأطوار بعيد الهمة عجز المؤرّخون أن يحلّلوا سيرته تحليلًا صحيحًا، ولم يقل لنا التاريخ إلا أنه مغربي، كان أبوه من رجال الدولة الفاطمية بمصر ومن دعائمها وخواصّها، ثم قتله الخليفة الحاكم بأمر الله وهرب ولده هذا إلى القدس وأثارها شعواء على الحاكم بدهائه وكيده، ثم تقلبت به الأحوال ودخل بغداد فأقام الخلافة العبّاسية وأقعدها خوفًا منه وتقلب فيها في عدة ولايات من كتابة ووزارة لبعض ملوك الطوائف فيها، ولا نشكّ في أن أصله من القيروان أو من هذه النواحي، ودخل أسلافه في ركاب الخلفاء الفاطميين إلى مصر حين فتحوها، وكان شعلة ذكاء وحفظ للآداب وأصناف المعارف، واجتمع بالمعرّي وهو صغير بحلب، فانعقدت بينهما ألفة متينة تستشفّ مما تراسلا به بعد الفراق، وحسبك شهادة المعرّي دليلًا على مكانته في العلم والأدب، وقد غمض الكثير من تاريخه وتاريخ أوليته بغموض تاريخ الفاطميين. وكثيرًا ما أذكر هذا الرجل فأذكر بذكره أبا علي الملياني، أحد كتّاب الدولة المرينية وأصله من مليانة، فقد كان يشبه الوزير المغربي في الطموح إلى العلا وفي الاستبداد وركوب العظائم، نوّه به ابن الخطيب في كثير من كتبه ووصفه في كتابه
"التاج المحلى" بقوله: الكاتب الباتك والصارم الفاتك، ثم ذكر من أفعاله الدالّة على بعد همّته مكيدة كادها لبعض أعدائه، وفتكة فتكها بهم ظهر فيها دهاؤه وإقدامه، واشتهر بها تاريخ حياته وقال في آخر الترجمة:
وتركها شنعاء على الأيام وعارًا في الأقاليم على حَمَلَة الأقلام.
هذا ما جرى به القلم مما جر إليه ذكر الضبّ الذي أهديتموه لولدي الصغير، فأحسنتم بذلك إلى شيخ كبير، فقد تذكّر بسببكم بعض ما كان ناسيًا، وأبى إلا أن يشكر إحسانكم بكتابة هذا القدر إليكم عسى أن تستفيدوا منه فائدة، فيكون جزاء على تسبّبكم في الخير، ولو كان هذا لِحَدَثانِ في المطالعات الواسعة أو في وقت الحداثة وامتلاء الحافظة، لكانت هذه الرسالة مزاحمة لرسائل القدماء في الإحاطة وجمع الأطراف.
ولكن عذري عندكم وعند من يطّلع على هذه الرسالة فيجد فيها قصورًا أو وضعًا لبعض الأسماء في غير موضعها أنني أمليتها في ليلة، وما أملاها إلا فكر كليل عن حافظة مختلّة نسيت أكثر ما وعت وضيّعت كثيرًا مما استودعت، مع اضطراب الحال واشتغال البال، وعسى أن تكون هذه الرسالة تذكرة بالحال الذي كتبت فيه والبلدة التي صدرت عنها والزمان الذي أنشئت فيه؟