الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية الثّلاثة*
هَذِهِ -أَكْرَمَكَ اللَّهُ- رِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أُرْجُوزَةٌ أَكْثَرُهَا ((لُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ)) تُمَثِّلُ حَالَةَ ثَلآثَةٍ مِنَ الْأَسَاتِذَةِ، لَا يُدْفَعُونَ عَنْ فَضْلٍ وَلآ أَدَبٍ وَلآ ذَكَاءٍ وَمَا فِيهِمْ إِلَّا بَعِيدُ الْأَثَرِ فِي الْحَرَكَةِ الْإِصْلآحِيَّةِ، وَاسِعُ الخُطَى فِي مَيْدَانِ تَعْلِيمِ النَّاشِئَةِ وَتَرْبِيَّتِهَا.
وَكَانَ لَهُمْ شَيْخٌ يُقَارِضُونَهُ بِرًّا بِبِرٍّ، وَتَكْرِمَةً بِتَكْرِمَةٍ، وَكانَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ يَأْبُوهُمْ وَيَحْبُوهُمْ (1)، وَكَانَتْ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ، يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِهَا حَنَانًا وَلُطْفًا وَتَثْقِيفًا، وَكَانُوا يَعُدُّونَ أَيَّامَ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ- وَهِيَ قَلِيلَةٌ - غُرَرَ أَعْمَارِهِمْ يَتَسَبَّبُونَ لَهَا الْأَسْبَابَ، لِمَا يُفِيضُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَرائِفِ الْأَدَبِ، وَلَطَائِفِ الْحِكْمَةِ وَيُطَايِبُهُمْ بِهِ مِنْ بَارِعِ الُّكَتِ، وَمُلَحِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَفَاكِيهِ، وَغَرَائِبِ اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفونَ فِي تَرْجِيحِ وَزْنِهِ فِي الْمَوَازِينِ وَالْمُغَالَاةِ بِقِيمَتِهِ إِلَى أَبْعَدِ الْغَايَاتِ.
ثُمَّ طَرَقَ الدَّهْرُ بِحَادِثٍ حَالَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا رَسائِلَ تَنْفُضُ عَلَيْها القاوبُ مَا تُكِنُّ، وَتُودِعُهَا النُّفُوسُ والْعَوَاطِفُ مَا تُجِنُّ (2)، فَكَانَ الظَّنُّ بِالثَّلَاثَةِ، أَنَّهُمْ يُجَلُّونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ، وَيَسْبِقُونَ جَمِيعَ النَّاسِ فِيهِ.
وَلَكِنَّهُمْ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ نَسُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ التُّرَابِ دَسُّوهُ، وَقَطَعُوا حَبْلَ الاِتِّصَالِ الْكِتَابِي بِهِ الْبتَّةَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ الشَّيْخِ، أَوْ أَلْقَى هُوَ عَلَى لِسَانِ الشَّيْطَانِ، هَذِهِ الْأُرْجُوزَةَ الطَّوِيلَةَ، وَنَحَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ فُصُولٍ وَمَعَانٍ فِي صُوَرِ مَجَالِسَ، يَتَجاذَبُونَ
* آفلو، 1941م.
1) يأْبُوهُم: يُعاملهم معاملةَ الأبِ لأبنائه. يَحْبُوهم: يُعطيهم.
2) تُكِنُّ: تستر. تُجِنُّ: تُخفى.
فِيهَا أَطْرَافَ الْحَدِيثِ عَنْ هَذِهِ الزَّلَّةِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، فَرَادٌّ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَسَائِلٌ وَمُجِيبٌ وَهَاجِمٌ وَدَافِعٌ، وَبَانٍ وَهَادِمٌ، وَتَنْعَقِدُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُنَاسَبَاتٌ وَأَشْبَاهُ مُنَاسَبَاتٍ، فَتَتَوَالَدُ مِنْ بَيْنِهَا أَغْرَاضٌ فِي الْأَدَبِ، وَمَنَاحٍ فَي النَّقْدِ وَخَبَايَا الْأَنْفُسِ وَالطَّبَائِعِ، وَقَدْ أَلْبَسَ الشَّيْخُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لَبُوسًا خَاصًا فِي كُلِّ مَا نَحَلَهُ مِنْ قَولٍ، وَسَلَكَ بِهِ مَسْلَكًا خَاصًّا لَمْ يَحِدْ عَنْهُ عَلَى طُولِ الرِّوَايَةِ. نَظَمَ الشَّيْخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَتَخَيَّلَ مَعَانِيَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُتَضَارِبةٍ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ وَالْمَلَلُ أَلْزَمَ صِفَاتِهَا، فَجَعَلَهَا مِذَبَّةً لِلْوَحْشَةِ، وَمَجْلَبَةً لِلْأُنْسِ وَأَدَاةً لِلتَّسْلِيَةِ. الثَّلَاثَةُ هُمْ: الشَّيْخُ السَّعِيدُ بْنُ حَافِظٍ مُدِيرُ مَدْرَسَةِ التَّرْبِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ الحُرَّةِ بِقَسَنْطِينَةَ، وَالْأُسْتَاذَانِ: عَبْدُ الْحَفِيظِ الْجَنَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَابِدِ (الجَلَّالِي)، الْمُعَلِّمَانِ بِهَا، وَشَيْخُهُمْ هُوَ مُؤَلِّفُ الرِّوَايَةِ.
كَانَتِ الْفِكْرَةُ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِانْقِطَاعِ الثَّلَاثَةِ وَجَفَائِهِمْ لِلشَّيْخِ إِلَّا الْفَرَنْكُ، أَعْنَي قِيمَةَ طَابَعِ الْبَرِيدِ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ إِلَيهِ، وَهُوَ لَا يَطْمَعُ مِنْهُمْ فَي أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ، وَهُوَ فِي مِحْنَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا أَحْوَجُ إلَى الْمُقَوِّيَاتِ الرُّوحِيَّةِ مِنْهُ إِلَى الْمُقَوِّمَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَكَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ مَا يَعْتَقِدُهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ- وَهُمْ بِحُكْمِ وَظِيفَتِهِمْ مُجْتَمِعُونَ دَائِمًا- الْحَدِيثَ عَنْهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ، وَيَضِيقُونَ ذَرْعًا بِالرِّسَالَةِ مِنْهُ يَأْتِي لِغَيْرِهِمْ.
وَلَكِنَّهُمْ إِذَا حُدِّثُوا بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، أَوْ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، جَمَدَتِ الْعَوَاطِفُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّ الرِّيقُ، وَانْتَصَبَ خَيَالُ الْفَرَنْكِ اللَّعِينِ، فَقَضِى عَلِى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ تَأَلُّمًا نَفْسَانِيًّا، وَتَخِزُهُمْ ضَمَائِرُهُمْ، وَلَكِنْ شَبَحُ الْفَرَنْكِ يَمْسَحُ كُلَّ ذَلِكَ مَسْحَةَ السُّلُوِّ.
كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ كَاتِبٌ، فَلَا تُعْطِي عَمَلِيَّةُ السَّبْرِ عِنْدَ الْاُصُولِيِّينَ إِلَّا عِلَّةً وَاحِدَةً لِهَذَا الْجَفَاءِ وَهَذَا الْجَفَافِ، وَهِيَ (الْفَرَنْكُ)، وَيَطُولُ الْأَمَدُ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُحِسُّ بِلُصُوقِ هَذَا الْعَارِ، وَقُبْحِ أَثَرِهِ، هُوَ الْمُدِيرُ، وَيَرَى أَنَّ الْعَارَ لَحِقَ الثَّلَاثَةَ مُشْتَرِكِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلُوهُ مُشْتَرِكيِنَ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا وَمَا زَالُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْرينِ: حُبِّ الشَّيْخِ، وَحُبِّ الْفَرَنْكِ، فَلْيَجْتَمِعُوا لِيُرَجِّحُوا أَحَدَ الْحُبَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَيَكْتُبُ اسْتِدْعَاءً إِلَى رَفِيقَيْهِ لِلْحُضُورِ وَالْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ الْخَطِيرِ.
وَفِي هَذَا الاِسْتِدْعَاءِ مَخَايِلُ مِنْ تَنَطُّعِ الْإِدَارِيِّينَ وَغَطْرَسَةِ الْمُدِيرِينَ وَسَخَافَةِ الْمُعَلِّمِينَ وَيَصِلُ الاِسْتِدْعَاءُ إِلَى الرَّفِيقَيْنِ مُجْمَلًا، لَا بَيَانَ فِيهِ لِغَرَضٍ، إِلَّا تَهْوِيلًا وَتَطْوِيلًا فَأَلْهَمَهُمَا سِرُّ الْفَرَنْكِ، أَنَّ فِي هَذَا الْجَمْعِ شَرًا سَيَذْهَبُ بِفَرَنْكٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ بِأَبْعَاضِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَهُمْ يَحْفَظُونَ مِنْ تَفَارِيقِ الْأَدَبِ قَوْلَ الْأَعْرَابِي لِابْنَتِهِ:(الدِّرْهَمُ عُشُرُ الْعَشَرَةِ، وَالْعَشْرَةُ عُشُرُ الْمِائَةِ، وَالْمِائَةُ عُشُرُ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفُ عُشُرُ دِيَتِكِ)، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمَا عَلَى طُولِ الرِّوَايَةِ حَذِرَيْنِ
يَقِظَيْنِ لِمَكَايِدِ الْمُدِيرِ يُوجِسَانِ خِيفَةً مِنْ عَرْضِ الْمَقْصُودِ، وخُصُوصًا ابْنَ الْعَابِدِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِرَفِيقَيْهِ مِنْ بَابِ إِلَى بَابٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَسْتَطْرِدُ لِيَبْعُدَ بِالْجَلْسَةِ عَمَّا عُقِدَتْ لِأَجْلِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرٌ مِنْهُ، وَغَطْرَسَةٌ وَشَيْطَنَةٌ، وَهُرُوبٌ مِمَّا كَانَ يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الشَّرِّ وَمَا الشَّرُّ عِنْدَهُ إِلَّا مَا عَلِمْتَ.
عَقَدُوا الْجَلْسَةَ الْأُولَى، وَخَطَبَ الرَّئِيسُ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ بِصِفَةِ الْبَشِيرِ، لِيُنَبِّهَ الْجَمَاعَةَ إِلَى مَا يُقّرِبُهُمْ مِنَ الْحَقِيقَةِ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالٍ، كَمَا يَرْكَبُهَا النَّظَّامُونَ لِلْمُتُونِ، وَكَمَا يُسَمُّونَهَا، فَجَرَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ إِلَى كَلِمَاتٍ، وَجَاءَتْ مُشْكِلَةُ رِئَاسَةِ الْجَلْسَةِ، فَاحْتَلَّتْ مَكَانَ الْمُشْكِلَةِ (3)، وَتَبارَى الْأُسْتَاذَانِ فِي الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ لِلْكَلَامِ، حَتَّى انْتَهَتِ الْجَلْسَةُ الْأُولَى "الطَّوِيَلةُ" بِحَلِّ الْمُشْكِلَةِ الْفَرْعِيَّةِ وَاتَّفَقُوا- بَعْدَ مُحَاوَرَاتٍ وَمُدَاوَرَاتٍ - عَلَى رِئَاسَةِ "الْمُدِيرِ".
وَجَاءَتِ الْجَلْسَةُ الثَّانِيَّةُ، وَالرَّئِيسُ يَحْمِلُ إِحْسَاسًا قَوِيًّا، بِأَنَّهُ لَاقٍ، وَلَا بُدَّ- دُونَ الوُصُولِ إِلَى عَرْضِ الْمَقْصُودِ- عَقَبَاتٍ مِنَ اسْتِطْرَادَاتِ ابْنِ العَابِدِ وَافْتِتانِهِ فِي النَّقْدِ وَالْهُجُومِ وَالْخُرُوجِ. وَأَنَّهُ لَاقٍ أَكْبَرَ مِنْهُمَا، إِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى الْمَقْصُودِ وَعَرَضَ الْقَضِيَّةَ، وَوَقَفَتْ مُشْكِلَةُ الفَرَنْكِ فِي الطَّرِيقِ، وَانْتَهَوْا فِي حَلِّهَا إِلَى طَرْقِ حِمَاهُ (4)، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الإِنْصَافَ الكَامِلَ يقْتَضِيهِمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوهُ أَثْلَاثًا، وَلَكِنَّ الْفَرَنْكَ الْمَلْعُونَ لَا يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةٍ انْقِسَامًا صَحِيحًا، فَمَنْ ذَا يَدْفَعُ الْكُسُورَ "الصَّانْتِيمَاتِ"؟ وَهَذِهِ مُشْكِلَةٌ عَلَى حِدَةٍ. وَالْإِنْصَافُ النَّاقِصُ يَقْتَضِي أَنْ يَدْفَعَ الفَرَنْكَ ابْنُ الْعَابِدِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ أَعْزَبُ، وَهُمَا مُتَأَهِّلَانِ وَلَهُمَا أَطْفالٌ، وَكَانَ الرَّئِيسُ نَفْسُهُ يَتَمَنَّى الْحَلَّ الثَّانِي، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّانَ لَا يُوَافِقُ بِسُهُولَةٍ عَلَى الْحَلِّ الْأَوَّلِ، بِمَا فِيهِ مِنْ مُشْكِلَةِ الْكُسُورِ، وَأَنَّ ابْنَ الْعَابِدِ لَا يُوَافِقُ عَلَى الْحَلِّ الثَّانِي، فَلْيَلْتَجِئْ إِلَى الْحِلِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِنْصَافُ الْكَامِلُ، وَتَقُومُ مُشْكِلَةُ الْكُسُورِ. لِذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ الْجَلْسَةِ مَسْأَلَةُ "الْصَّوْتَيْنِ" لِلرَّئِيسِ، وَجَعَلَهَا فِي مُقَدِّمَةِ الْأَعْمَالِ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا بَعْدَ مَعَاسَرَةِ الْجَمَاعَةِ لَهُ فِيهَا إِلَى أُخْرَى وَهِيَ زِيَادَةُ عُضْوٍ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الرَّفِيقَيْنِ، لِيَتَغَلَّبَ رَأْيَهُ عَلَى رَأْيِهِمَا فِي الْخِلَافِ، وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الْحَلِّ الْأَوَّلِ كَانَ الْعُضْوُ الرَّابِعُ مُصَحِّحًا لِلِقِسْمَةِ، وَمُزِيلًا لِمُشْكِلَةِ الْكُسُورِ، لِأَنَّ الفَرَنْكَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ انْقِسَامًا صَحِيحًا.
وَقَدْ عَاسَرَهُ الرَّفِيقَانِ (وَخُصُوصًا ابْنُ الْعَابِدِ) فِي مَسْأَلَةِ الصَّوْتَيْنِ، وَزِيَادَةِ العُضْوِ، مُعَاسَرَةً شَدِيدَةً، فَاحْتَالَ عَلَى عَوَاطِفِهِ بِقَصِيدَةٍ قَافِيَةٍ، بَلِيغَةِ الْمَعَانِي، تُؤَثِّرُ عَلَى الْأُدَبَاءِ، أَمْثَالِ ابْنِ الْعَابِدِ، فَلَانَ بَعْدَهَا وَمَالَ إِلَى الْمُيَاسَرَةِ.
3) فاحتلّت مكانَ المشكلة: يريد بها المشكلة الأصلية وهي مشكلة فَرنْكِ الْمُكَاتبةِ.
4) ضَمِيرُ حِمَاهُ يَعُودُ عَلَى الفرنكِ.
وَانْتَهَتْ مَسْأَلَةُ الْعُضْوِ بِمُوَافَقَةٍ تَامَّةٍ بِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَصِيدَةُ، وَالثَّانِي إِعْلَانُ الرَّئِيسِ لِاسْمِ الْعُضْوِ الْمَزِيدِ، وَاسْمُهُ مَحْبُوبٌ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَقَدْ تَوَسَّمَ الْخَيْرَ فِي ابْنِ الْعَابِدِ، وَطَالَتِ الْجَلْسَةُ، وَتَعَدَّدَتْ مَشَاهِدُهَا، وَضَاقَ ذَرْعُ الْجِنَّانِ بِهَذَا التَّطْوِيِلِ، فَثَارَ ثَائِرَهُ، وَأَسْمَعَ الرَّفِيقَيْنِ قَوَارِصَ التَّأْنِيبِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَلِّهِ، فَقَدْ بَقِيَ الْمَوْضُوعُ سِرًا مَطْوِيًّا فِي صَدْرِ الرَّئِيسِ، يُرِيدُ أَنْ لَا يُفْشِيَهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْعُضْوُ الْجَدِيدُ.
وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الْجَلْسَةِ، وَتَقْرِيرِ التَّالِيَةِ فِي الْغَدِ، كَتَبَ الرَّئِيسُ اسْتِدْعَاءً مُطَوَّلًا إِلَى الْأُسْتَاذِ بُوشْمَال، وَهُوَ الْعُضْوُ الْجَدِيدُ، يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ فِي الْجَلْسَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَبُثُّ شَكْوَاهُ الْمُرَّةَ مِنْ رَفِيقَيْهِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالْقَصْدِ مِنَ الاِجْتِمَاعِ، بَلْ طَوَى السِّرَّ عَنْهُ كَمَا طَوَاهُ عَنْ رَفِيقَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ.
جَاءَتِ الْجَلْسَةُ الثَّالِثَةُ، وَحَضَرَ أَبُو شِمَالِ، وَفِيهَا كَشَفَ الرَّئِيسُ الْغِطَاءَ عَنِ الْحَقِيقَةِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَتَمْهِيدٍ بَلِيغٍ، فَشَرَحَهَا الرَّئِيسُ، وَسَلَّمَهَا الْجَمَاعَةَ، وَاعْتَرَفُوا بِالْمُشْكِلَةِ وَالدَّاءِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْحِلِّ وَالدَّوَاءِ، جَاءَ الفَرَنْكُ، وَقَعَدَ فِي السَّاقِيَةِ.
وَهُنَا يَشْتَدُّ الْخِلَافُ، وَتَحْتَدُّ الْمُنَاقَشَةُ، وَتَقُومُ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ وَتُعْرَضُ الْحُلُولُ، فَيَكُونُ بوَشْمَالَ مِنْ أَنْصَارِ الْحَلِّ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَقُولُ لِلرَّئِيسِ:
أَهْمِسُ في أُذْنِ الرَّئِيسِ هَمْسَهْ
…
نَقْسِمُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ خَمْسَهْ
وَيَكُونُ الرَّئِيسُ وَالْجَنَّانُ مِنْ أَنْصَارِ الْحَلِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى ابْنِ الْعَابِدِ.
وَيَنْبَرِي ابْنُ الْعَابِدِ لِنقْضِ هَذَا الْحُكْمِ الْجَائِرِ، وَالدِّفآعِ عَنْ نَفْسِهِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْمَشْهَدُ الْأَخِيرُ، فَيَقِفَ ابْنُ الْعَابِدِ، وَيَرْتَجِلَ ذَلِكَ الْفَصْلَ، فِي الدِّفَاعِ عَنْ فَرَنْكِهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ سِوَاهُ، وَيَفْتَنَّ فِي وَصْفِهِ وَإِطْرَائِهِ، لِيُبَرِّرَ ضَنَانَتَهُ بِهِ، وَمِنْ أَبْلَغِ مَا يَقُولُ فِيهِ:
أَعَزُّ عِنْدِي مِنْ وَحِيدِ أُمِّهِ
…
كُلُّ الْمُنَى فِي ضَمِّهِ وَشَمِّهِ
وَيَخْتِمُ الْفَصْلَ بِنُكْتَةٍ، يُحَتِّمُ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ الاِعْتِرَافَ بِهَا، وَهِيَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلشَّيْخِ
…
وَيَصِفُ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ أَبْلغَ وَصْفٍ، لِيَشْرَحَ سَبَبَهَا فَيَقُولُ:
وَهَلْ أَتَاكُمْ- وَالْكِذَابُ يُرْدِي-
…
أَنِّي سَلَلْتُ بُرْدَهُ مِنْ بُرْدِي
لِأَنَّهُ قَدْ سَبَّنِي سَبًّا شَنِيعْ
…
مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كُنْتُ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعْ
وَنَالَ مِنِّي سَجْعُهُ الْقَبِيحُ
…
مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي الْوَرَى مُبِيحُ