الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسل الصحافة المصرية في الجزائر *
تقديم باعزيز بن عمر
ــ
وأخيرًا تحققت الأمنية، وخفق القلب بحبّ مصر إذْ تمّ ما أذاعته الصحف ومحطات الإذاعة منذ أشهر من عزم الحكومة المصرية على السماح لثلّة من أعلام الصحافة المصرية بعقد رحلة صحافية إلى ربوع هذا الشمال الافريقي.
حلّ الوفد الصحافي المصري بالجزائر بعد أن مرّ بربوع الخضراء سريعًا، فاقتبله بمطار الجزائر وفد من ممثلي الصحف الوطنية وهيآتها
…
وكان الوفد يتألف من الأساتذة: حسين أبو الفتح نقيب الصحفيين المصريين ورئيس الوفد، وعزيز بك مِرْزا رئيس تحرير "الأهرام"، وحبيب جاماتي عن دار الهلال، وعبد الحميد يونس عن دار الإذاعة المصرية وهو من أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وجورج زيزوس من شركة الإعلانات الشرقية، وجلال الدين الحمامصي عن "أخبار اليوم"، والدكتور علي الرجال عن "الأساس" لسان حال الحزب السعدي، والسيدة سميرة عبد القادر حمزة عن "البلاغ"، وأنطون نجيب عن "المقطم"، وزكريا لطفي عن "الزمان".
في مركز جمعية العلماء انتظم عقد هذا الجمع الحاشد على الساعة العاشرة من هذه الليلة الزاهرة، فوقف الرَّئِيسُ الجليل محمد البشير الإبراهيمي فحيى مصر العالمة الناهضة، وحيى وفد صحفها الراقية باسم الجزائر كلها تحية أودعها من شريف المعاني وبليغ الكلم ما ذكرنا بعهود العربية المشرقة أيام الجاحظ وابن المقفع، وابن زيدون، وابن خلدون، ورحب بوادي النيل كله في شخص وفده الأمين ترحيبًا نبه الأذهان إلى ما لا يزال قائمًا بين مصر والجزائر من روابط اللغة والدين والجنس، رغم ما حاوله ويحاوله المستعمرون من الضرب
* "البصائر"، العدد 134، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1950م.
بالطمس عليها، وأذكى ببيانه العذب الرائق عواطف الحاضرين، فأبصروا خلال عباراته البليغة ماضي الإسلام والعروبة الزاهر في هذه الديار.
فاستمع إلى ما علق بالذهن من شوارد ألفاظة ومعانيه وهو يرتجل خطابه البليغ:
"أيها الاخوان الأعزة!
إننا نرحب بضيوفنا الكرام، وكلمة الضيف فيها ما فيها من الغربة والتكلف. فإذا ما خاطبت الاخوان بها جريًا على الوضع المألوف فمن المحال أن أخاطبكم بعد الآن بكلمة الضيف.
ذلك أن العربي عربي أينما حل، فالعربي المصري في الجزائر عربي، والعربي الجزائري
في مصر عربي.
أيها الاخوان!
كل هؤلاء متشوق إلى رؤيتكم، وقد أبطأتم عنا بنحو ساعة فوجفت القلوب أن يكون الاستعمار قد حال بيننا وبينكم، إذ ليس من المحال في حقه أن يحول بين المرء وقلبه، وبين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.
أيها الإخوان!
إن للشرق ولمصر وبالأخص لفضلًا عظيمًا على الشمال الأفريقي.
وإننا ما زلنا نحفظ شيئًا كثيرًا عن تاريخ مصر وأدبها وحوادثها، وفيمن ترون من هؤلاء
من يلوكون ألسنتهم بالعربية، ويتبذخون بالتحدث بها عن مصر وأحوال نهضتها، ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إن كل هؤلاء يحفظون قصائد لشعراء مصر والشرق كشوقي وحافظ وغيرهما، ويعرفون ما وقع بين طه حسين والرافعي والعقاد، وفيهم من ينظم الشعر على طريقة البارودي.
وإن التاريخ ليروي أن علماء جزائريين أخذوا العلم الصحيح عن مصر، فالعلّامة المشدالي الذي ما زالت قريته موجودة إلى اليوم في قرى "زواوة" من هؤلاء أخذ العلم من مصر على النظام المعروف يومئذ، ثم رجع إلى وطنه وبث العلم صحيحًا فيه كما أخذه.
أيها الاخوان!
إن الاستعمار أراد أن يجوع عقولنا بنزع العلم من صدورنا، فلم يفلح، سلوه فهو أخبث وأخبر بكل هذا، إذ حاول هذا التجويع العقلي والفكري، فقلنا له كلا، إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلًا.
فمهما جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور فإننا ما زلنا نحتفظ بعربيتنا.
أيها الإخوان الأعزة أساتذة مصر!
كل هؤلاء يمئلون الشعب الجزائري بجميع طبقاته: فيهم المعلّم المجاهد، والسياسي المحنك، والتاجر المقتصد، وفيهم، وفيهم
…
وكلهم يستقبلونكم في دار جمعية العلماء، ولو تَرَامَتْ إليهم أخبار رحلتكم في فسحة من الزمن لرأيتم غير ما ترون: رأيتم جموعًا حاشدة ملتفة حولكم هاتفة باسمكم مقرونًا بالإكبار، وباسم مصر مقرونًا بالتبجيل والاحترام.
نحيّيكم باسم جمعية العلماء، وإنما نحييكم باسم الأمة الجزائرية المسلمة العربية، فما منزلة جمعية العلماء من هذه الأمة إلّا منزلة القلب من الجسد، شَاءَتْ أو أبتْ، فهي ناشرة محاسن الإسلام فيها، وهي مجلية حقائقه وآدابه فيها، وهي حافظة لسانه المبين فيه.
نحيّيكم ونحيّي في أشخاصكم مصر ونوابغها في الأدب والتشريع، وصحافتها الراقية، وأقلامها المشرعة حفاظًا عن الشرق والإسلام والعروبة، وكلياتها التي هي موارد للظماء ومناهل للعلم والعرفان، وشعبها العربي الكريم.
فاحتفظوا بنا، واكتبوا عنّا، واصغوا إلينا.
أيها الإخوان: قد أطلنا عليكم الحديث، ذلك أن المريض الذي يئنّ قد يأرز إلى تسلية نفسه بهذا، فإن الطبيب مهما كان بارعًا في وصف ألم المريض فلن يصفه إلّا وصفًا علميًا بيد أن المريض مع ذلك أدرى بوصف مرضه وألمه.
هذا بعض ما نثره الرَّئِيسُ الجليل من الآيات البينات على مسامع من خفوا إلى مركز جمعية العلماء من ممثلي الأحزاب والهيآت ليحيوا ضيوف الجزائر الكرام.
ولولا ما طغى على الذاكرة من الشعور بالجمال والجلال اللذين غشيا هذا المشهد التاريخي العظيم، لاستطاعت أن تثبت للقارىء أكثر من هذا من جولاته ولفتاته التاريخية التي نقلنا على جناحها بعيدًا، فشاهدنا منازل وربوعًا لا تزال تتعطر المجالس بذكرها، وتهفو إليها الأفئدة والأسماع كلما ذكر مجدها الغابر وعصرها الزاهر.