الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حفل ختام السنة الدراسية
بمعهد عبد الحميد بن باديس
تقديم عبد الرحمن شيبان
ــ
بعد أسبوعين كاملين قضاهما أساتذة المعهد الباديسي في امتحان دقيق للتلامذة، ختم ذلكم النشاط العلمي العظيم باحتفال استعرضت فيه نتائج الأعمال الدراسية التي قام بها المعهد خلال السنة الثانية من عمره الزاهر الميمون.
ففي يوم الثلاثاء 18 شعبان 1368 و 14 جوان 1949 ازدان فناء المعهد بأعيان قسنطينة على اختلاف طبقاتهم: ورؤساء شُعَب جمعية العلماء، وعدد من معلّمي مدارسها من مختلف نواحي العمالة القسنطينية، وهيأة مدرسة التربية والتعليم، وجمهرة من طلبة المعهد، وأساتذتهم، يتصدّر الجميع الشيخان الجليلان: فضيلة الأستاذ العربي التبسي مدير المعهد، وسماحة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء.
افتتح الاحتفال على الساعة العاشرة صباحًا بتلاوة آيات بينات من القرآن الكريم
…
وإثر ذلك قام جناب المدير الجليل الشيخ التبسي فرحّب بالحاضرين شاكرا لهم تلبيتهم للدعوة ثم قال: بهذا الاحتفال يكون المعهد قد اجتاز سنتين من عمره، وهي مدّة قصيرة في زمانها، لكنها عامرة ضخمة بنتائجها، فلقد بلغ عدد التلامذة الملتحقين بالمعهد نحو سبعمائة تلميذ
…
ثم تعرض الخطيب إلى الأساتذة الذين جلبتهم الإدارة لتدريس العلوم الرياضية والقواعد الصحية
…
ثم انتقل الخطيب إلى ذكر ما يجب على الأمة أن تقوم به نحو المعهد الذي هو مؤسستها الدينية والقومية الكبرى
…
ثم دعا الخطيب الأمة إلى محاسبة جميع العاملين في الحقل الوطني العام، فقال: يجب على الأمة أن تضرب على يد كلّ من تسوّل له نفسه الأثيمة بأن يعبث بحركاتها العلمية أو السياسية أو الاقتصادية، فكفانا ما قاسينا من كيد الدخالين، وما تجرّعنا من غصص العابثين
…
وختم مدير المعهد خطابه العامر بقوله: انتهى ما أردت أن أقول لكم، وأما ما تأخذونه بين أيديكم فكلام الشيخ، وهو يشير- بكل تواضع وإخلاص- إلى الإمام الثاني للنهضة الإصلاحية، الأستاذ الرَّئِيسُ محمد البشير الابراهيمي، وهنا سرتْ في نفوس الحاضرين "هزّة" انبعثت من روح الأستاذ الرَّئِيسُ إعلانًا منه (بالإلقاء) واستعدادًا من الحاضرين (للتلقّي)، وما هي إلّا لحظة حتى وجدنا أنفسنا سابحة في روض فلسفي أدبي، تحفّ به النضرة والخصوبة من كلّ جانب!
* "البصائر"، العدد 90، 5 سبتمبر 1949م.
ثم ماذا؟ لا أكاتمك يا قارئي العزيز، فقد حاولتُ أن ألخص لك ما يمكن لي تلخيصه من كلام الأستاذ الرَّئِيسُ، لكن تحليق روحي وراء المعاني الفلسفية الأدبية السامية التي "يرسلها" الخطيب في كلام فني رائع كبّل يدي وأنساني "مهمتي" كمدوّن لما يجري في الاحتفال، على أني لا أضنّ عليك ببعض ما علق بذهني من تلك الشدور والزهور.
قال حضرة الرَّئِيسُ وهو يتحدّث عن فصل الصيف: ما أغرب فصل الصيف، وما أعظم شأنه بين الفصول! يفاخره الربيع بأنه الفصل الذي تبعث فيه القوّة، وتندفع فيه الحياة، وأنه الفصل الذي تهواه النفوس ويتغنّى به الشعراء، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الشتاء بأنه الفصل الذي "تكمن" فيه الحياة، وتستتر فيه القوّة، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الخريف بأنه فصل الخزن والادخار، فلا يأتي بشيء! ذلك لأنّ أمر الصيف أبعد من كل ذلك مدى، وأعمق صدى، فهو الفصل الذي يتحاسب فيه العامل والبطال، فيفور العامل بجني الثمرة، جزاء كدّه وجدّه، وينقلب البطال بالحسرة والندامة، جزاء تقاعسه وتكاسله. وأعجب من ذلك أنّ الصيف فصل "حساب" عام لما يجري في العالمين المادي والأدبي على السواء، ففي الصيف يحصد الفلّاح ما بذر في الحقول، وفيه يحصد المعلّم ما بذر في العقول، فكل من الفلاّح والمعلّم زارع، هذا يزرع العلم وذاك يبذر الزرع، وكلاهما يترقّب هذا الفصل، وهنا محلّ السرّ والاستغراب!
ثم أخذ الأستاذ الرَّئِيسُ في شرح المعنى السامي للامتحان فقال: ما الامتحان إلّا استعراض للمواهب، ووزن للجهود، فبواسطته نعرف مكانة التلميذ من الذكاء ومقداره من التحصيل
…
إن الأمم تتخذ من الامتحان معنيين رمزيين هما: التوديع والاستقبال، فالامتحان توديع لحياة قديمة هي حياة السنة الدراسية التي مضت، واستقبال لحياة جديدة هي حياة السنة الدراسية التي تأتي. والحياة كلّها ما هي إلا سلسلة من المراحل، كلما قطعتَ مرحلة جاءت أمامك مرحلة أخرى، والعاقل مَن ينظر دومًا إلى المستقبل، ولا يلتفت إلى الماضي إلّا على وجه الاتّعاظ والاعتبار.
ثم كأني بالأستاذ الرَّئِيسُ يريد أن يشرح السرّ في النتائج الباهرة التي أسفر عنها نشاط المعهد فقال: إنّي أشهد الله صادقًا أن النتيجة كانت سارّة جدًّا. لماذا؟ لألها مبنية على الحق والصدق أوّلًا، ولأنها ثانيًا وليدة أمور ثلاثة هي: حزم الإدارة، ونشاط الأساتذة، واجتهاد الطلبة. إن مجموع هذا وذاك هو الذي فاجأنا بهذه النتيجة الباهرة! وحاشا المعهد أن يقدّم للأمة نتيجة مزيفة، زيادة أو نقضا، فإنّ ذلك لا يفعله إلّا الغاشّ الماكر.
ثم تعرّض الرَّئِيسُ إلى فضل المعهد على تكييف الطلبة تكييفًا موحّدًا في الغاية والاتجاه، منسجمًا في المظهر والسلوك، وإنْ كانوا من قبل لفي اختلاف مبين في الأخلاق
والميول والأهواء، ومضى في هذا السبيل يقول: وإذا ما وجد بالمعهد شذوذ في بعض الأفكار فإن ذلك مما يرفع من شأنه لأنّ الشذوذ للقواعد العلمية ما هو إلّا دليل على صحّتها. ثم توجّه الرَّئِيسُ بكلمة توجيهية حكيمة إلى رجال التعليم عمومًا فقال: إن أعمالكم أعمال فكرية أدبية، فلا تتركوا للسلطان المادّي مجالًا للتسرّب إلى محيطكم، حتى لا يعبث بإيمانكم، ويحبط جهادكم، بل الواجب أن تكون علاقاتكم بعضكم ببعض، وعلاقاتكم بمهمّتكم الشريفة، علاقات روحية، أسمى ما تكون الروحيات، ظاهرًا وباطنًا، فبذلك تستطيعون أن تؤدّوا رسالتكم العظمى التي هي: بناء الحق وهدم الباطل!
…
ثم ختم الرَّئِيسُ الجليل خطابه، مؤكّدًا ما كان لاحظه فضيلة المدير، من احتياجنا الماسّ إلى العلوم العصرية، فقال: إن لكل عصر سلاحه، فلنتقدم لعصرنا بسلاح عصرنا، فإن العلوم التي عندنا لا تكفي، ولا يقول خلاف ذلك إلّا جهول أو جحود، فإنّ سلفنا الصالح لم يقتصر على العلوم الدينية وحدها، إلّا مع التحقق بأنّ لكل ميدان من ميادين حياتهم، رجاله القائمين بشؤونه، فنحن إذا أردنا الحياة فلا مناص لنا من الجدّ في طلب العلوم التي بها تكون الحياة.