الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني*
هذه - أطال الله بقاء أخي- قطعة من فصل طويل من ملحمة أطول، نُظمتْ في أوقات الفراغ في شهري ناجر من الصيف الماضي، وقد اشتملت على أفانين من الجدّ والهزل، والشخْت والجزل، ووصف الرخاء والأزْل، والولاية والعزل، والنكْث والغزْل، وتراجم لرجال سَواسِيَة في الحس كأسنان الحمار، قد أبصروا بعَماهم، وعرفوا بسيماهم، فإذا رأيت أحدَهم رأيتهم جميعًا، وإذا سمعت اللغو كنت لكلامهم سميعًا، وبذلك أراحوا الناقد والواصف، إذْ يجمعهم قولك: أُشَابَة ومَنَاصِفْ. وان الطائفة من الناس لتشترك في خلال حتى لا يكون خطأً أن تشير إليها بهذا مكان هؤلاء، وكثيرًا ما أفكر في قومي ويذهب بي التفكير إلى أقصاه، فأجدهم كما قال ذو الرُّمَّة في وصف قبيلة تعرف بامرئ القيس:
فَأَمْثَلُ أَخْلَاقِ امْرِئ الْقَيْسِ أَنَّهَا
…
صِلَابٌ عَلَى طُولِ الْهَوَانِ جُلُودُهَا
فهذا من ذلك، وإذا طردنا القياس فما زال الناس كالناس، ولقد تسامى الخيال إلى وصف رجل من طائفة ممتازة وترجمته بأسلوب هزلي ليتسع القول وتتزاحب آفاقه، لأن الحقيقة في هؤلاء أضيق من أفحوص القطاة، فاتسع القول حتى ناهز ألف بيت، ثم عرضتُ جميع أفراد الطائفة على تلك الصفات فوجدتهم نسخًا من كتاب.
ولئن تمتْ هذه الملحمة لتكوننّ أكبر ملحمة عرفت في تاريخ العربية، فقد قرأنا في تاريخ أدب هذه اللغة أن لَأبَان بن عبد الحميد أرجوزة في الحكم والأمثال بلغتْ آلاف الأبيات، وقرأنا منها قطعًا صالحة، وأكثر ما نظم أدباء العربية الملاحم أو شبه الملاحم في
* أرسلت هذه الرسالة من تلمسان في بداية سنة 1945، وبعض أبيات الأرجوزة نُشرت في "البصائر"(أنظر الجزء الثالث (عيون البصائر، [ص:484]).
بحر الرجز، وانّي لَأستعذبه رغمًا عن عدّ المعرّي إياه من سفساف القريض، قصَّرتم أيها النفر فقصَّر بكم.
وأنا لا أستعذب من الرجز إلّا ما سلس وسهلت أجزاؤه كرجز ابن الخطيب في "نظم الحلل" ورجز شوقي في "دول الإسلام"، ولم أسمع ولا قرأت رجزًا أعذب ولا أسلس من رجز الشناقطة.
حاولت أن أنظم تاريخ الإسلام- وأنا في المنفى- وهيأتْ لي خواطري ملحمة تبلغ عشرات الألوف من الأبيات، وقد رضت القوافي في عدّة وقائع شهيرة كبدر واليرموك والقادسية في أول الإسلام والارك والعقاب بالأندلس، ونظمتُ في دخول الإسلام إلى افريقية وبناء القيروان وموت عقبة ووصف مرابطة الثغور وفي طارق وموسى وطريف عدة فصول أبلغها وصف في جبل طارق لمحت فيه إلى الأحداث التاريخية التي كان سببًا فيها، ولكن القريحة جمدت من عيد الفطر فلم أصنع بيتًا واحدًا.
إذا قرأتم هذا الفصل وأعجبكم فإني أوافيكم مع كل رسالة بفصل، وستجدون في فصول الشيطان ما يضحككم في هذا الزمن العابس.
…
يَا دِينُ إنَّ الدَّيْنَ ليس ينْسَى
…
بَلْ يُقْتَضَى مُعَجَّلًا أَوْ يُنْسَا
يَا دينُ إنَّ الصّبغَ لَنْ يَحُولَا
…
وإن عندك لهم ذُهولَا
وعندك التِّراث والطوائِلْ
…
مما قَرى الأوائِلُ الأوائلْ
وهذه أَخلافهم تداعتْ
…
بصورة قد أفظعتْ وراعتْ
تألَّبوا عنك لأخذ الثار
…
وأجلبوا في القسطل المُثار
ونَصبوا لكيدك الأشراكَا
…
من ألف عام لم تَزلْ دِراكا
يا كَيْدةً كادوا لهذا الدينِ
…
مجتاحةً لولا صلاحُ الدينِ
ووقعةٌ بالسهل من حِطِّينِ
…
دماؤهم في تُربها كالطينِ
تكوّنوا من بعد ما استكانوا
…
واخشوشنوا من بعدِ ما استلانوا
واتصلوا من بعد ما فصَلْتا
…
ونبتوا من بعد ما استأصَلْتا
لم يُنْسِهِم طولُ المدى السيوفَا
…
لَامعةً والخيلَ والزُّحوفَا
ونظروا في أصلك اعتبارا
…
ليفقهوا الحِكمَ والأَسرارا
واقتبسوا منك الأصول والسُّنَنْ
…
ففرعوا بها الهضابَ والفُنَنْ
وأخذوا في الكون بالأسبابِ
…
وإنْ غدوا في الدين في تَبَابِ
كأنّهم في الرأي والإعدادِ
…
من عُصْبة الزبير والمقدادِ
ومنه:
قد تحركتَ فقالوا: حيُّ
…
كما استجاش للنذير الحيُّ
فحذروا أنْ تستعيدَ الكره
…
وأن تعيد للعوالي الجره
وأن هذي الثَّورةَ الروحيَّه
…
تُعيدُ تلك الفَوْرَةَ النوحيَّه
وذكروا آثارك الخوالدَا
…
ومَجْدَك الفذَّ الصريحَ التالدَا
وذكروا أنَّهُم في القِدَمِ
…
لم يدركوا شأوك في التقدمِ
وذكروا ما فيك من إصلاح
…
للجمع والفرد ومِنْ فَلاِحِ
وذكروا كيف طويتَ المغربَيْن
…
في فجّك الأغرّ بعد المشرقيْن
وكيف خرَّجتَ رُعاةَ الأمَمِ
…
من أمَّة كانت رُعاة غَنَمِ
ومنه:
ثم استعانوا من بنيك بثُبَاتْ
…
ليس لهم في موقف الحق ثَبَاتْ
استجلبوهم بِالدَّها والَكَيْدِ
…
واستدرَجوهم للزُّبَى كالصيدِ
استضعفوهم واستخفوا شَانَهُمْ
…
وألبسوهم- ضلَّةً- ما شَانَهُمْ
وسحَروا أعينَهم واسترهبُوا
…
ورغَّبوا بعاجل ورهَّبوا