الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقامة في رثاء الإمام ابن باديس
مناجاة مبتورة لدواعي الضّرورة*
تقديم محمد الغسيري
ــ
الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يفي للأموات، لأن النسيان غالبًا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم.
وما رأينا في حياتنا رفيقين جمع بينهما العلمُ والعمل في الحياة، وجمع بينهما الوفاء حين استأثر الموت بأحدهما، مثلما رأينا إمامي النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، رحمَ الله الميت، ومدّ في عمر الحي حتى يحقق للجزائر أمنيتها.
من أعلى ما امتاز به أستاذنا الجليل، ورئيسنا الأكبر، محمد البشير الإبراهيمي من شرف الخلال (نكرانُ الذات) فهو لا يزال يعمل الأعمال التي تعجز عنها الجماعات وتنوءُ بها العصَب، وهو مع ذلك لا ينسب الفضل إلا لإخوانه ورفقائه الأموات والأحياء.
يصرّح بذلك في خطبه الدينية، ومحاضراته الجامعة، ويقول: إن كل فضل في هذه الحركة العلمية النامية يرجع إلى جمعية العلماء، وإنه لولا جمعية العلماء لما كان هو. ونحن أبناؤه نشهد، وإخوانه يشهدون أنه لولا علمه ولسانه وصبره وتأثيره الذي يشبه السحر، لما كانت جمعية العلماء، ولولا براعته في التصريف والتسيير لما سار لجمعية العلماء شراع في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن.
…
مات ابنُ باديس، في حين كان رفيقه، في الجهاد وقسيمه في العلم والعمل محمد البشير الإبراهيمي منفيًّا في قرية "آفلو" من الجنوب الوهراني، بحيث لم يحضر دفنه، ولم
" نُشرت في العدد 76 من جريدة "البصائر"، 18 أفريل 1949م، وقد كتبت في أفريل 1941م.
يؤبّنه بكلمة، فعوّض ذلك برسائل تعزية كتبها إلى إخوانه بثَّ فيها حزنه للمصيبة، وصوّر فيها آثارها، ولم تنسه الفجيعة ما يجب من النصائح بالثبات، واستمرار السير، فجاءت رسائلَ من ذلك الطراز الساحر الذي لا يحسنه إلا الإبراهيمي، ولا أدري أيحتفظ إخواني بتلك الرسائل الفنية أم ضيّعوها؟!
ولما مضت على موت الأستاذ سنة، ورفيقه لا يزال في المنفى، أرسل الرَّئِيسُ الجليل من منفاه هذه المقامة إلى مقيمي الذكرى الأولى لابن باديس وتلاها في حفل مختصر كاتب هذه الكلمة، فأبكت العيون، وجدّدت الأسى.
رغبنا إلى أستاذنا أن ننشر هذه المقامة في ذكرى هذه السنة، إذْ كان عاجزًا عن كتابة كلمة خاصة بها لمرضه واشتغاله، فأذن- أبقاه الله- بعد امتناع لأن أستاذنا- حفظه الله- لا يرى السجعَ معبّرًا عن النوازع العميقة، وإن كان هو، إمامَ العصر بلا منازع في هذه الطريقة الأندلسية البديعة التي لا يحسنها إلا من جمع بين الطبع والصنعة، وملك أزمة اللغة والغريب
…
وحلّت في الأخير رغبتنا منه محل القبول، حرصًا على هذه المقامة أن تضيع إن لم تسجّل، وكم من نفائس مثل هذه المقامة، وكم من رسائل، وكم من تحف فنية من أدب الهزل والنكتة، وكم من ملاحم شعرية، بلغت الآلاف من الأبيات! ما زالت مطمورة في أوراق الأستاذ، وفي حافظته العجيبة، وإذا لم يحرص أمثالنا من تلامدة الأستاذ على استخراجها ونشرها ضاعت، وخسر الأدب والعلم خسارة لا تعوّض، وها هي ذي المقامة الباديسية، وننبِّه إلى أن الأستاذ حذف منها كثيرًا مما لا تسمح الظروف بنشره.
تلمسان
محمد الغسيري
…
سلام يتنفس عنه الأقاح بإزهاره وايراقه، ويتبسم عنه الصباح بنوره وإشراقه.
وثناءٌ يتوهج به من عنبر الشجر عبيره، ويتبلج به من بدر التمام، على الركب الخابط في الظلام، منيره.
وصلوات من الله طهورها الروح والريحان، وأركانها النعيم والرضوان. وتحيات زكيات تتنزل بها- من الملإ الأعلى- الملائكة والروح، ونفحات ذكيات تغدو بها رسل الرحمة وتروح، وخيرات مباركات يصدّق برهانُ الحق قولها الشارحَ بفعلها المشروح.
وسلام من أصحاب اليمين، وغيوث من صوادق الوعود، لا صوادق الرعود، لا تخلف ولا تمين. وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها، وكتائب من المبشرات تزجى مواكبها.
وسوافح من العبرات تنحلّ عزاليها، ولوافح من الزفرات تسابق أواخرها أواليها.
على الجدث الذي التأمتْ حافتاه على العلم الجم والفضل العد، ووارَى ترابه جواهر الحجا والذكاء والعزم والجد، وطوَى البحر الزخار في عدة أشبار، فأوقف ما لا حدّ له عند حد، واستأثر بالفضائل الغزْر، والمساعي الغرّ، والخلال الزهر، فلم يكن له في الأجداث ند، وأصبح من بينها المفردَ العلم كما كان صاحبه في الرجال العلمَ الفرد.
وسلام على مشاهدَ كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت ظلال رعايته وتعهّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر، ونوره الزاهر، مغمورة، وعلى جمعيات كان شملها بوجوده مجموعًا، وكان صوته الجهير، كصوت الحق الشهير، مدوّيًا في جنباتها مسموعًا.
مشاهد كان يراوحها للخير والنفع، وكانت آفاقها بأنواره مسفرة.
ومعاهد كان حادي زُمَرها إلى العلم، وهادي نُزَّاعها إلى الإحسان والسلم، فأصبحت بعده مقفرة.
ومدارس، ما مدارس، مهدها للعلم والإصلاح مغارس، ونصبها في نحور المبطلين حصونًا ومتارس، وشيّدها للحق والفضيلة مرابطَ ومحارس.
وسلام على شيخه الذي غذّى وربّى، وأجاب داعيَ العلم فيه ولبّى، وآثر في توجيهه خير الإسلام، فقلّد الإسلام منه صارمًا عضبًا، وفجّر منه للمسلمين معينًا عذبًا، فلئن ضايقته الأيامُ في حدود عمره. فقد أبقت له منه الصيت العريض، والذكر المستفيض، ولئن سلبته الحلية الفانية فقد أَلْبستْه من مآثره حُلل التاريخ الضافية، ولئن أذاقتْه مرارة فقده، فقد متّعته بقلوب أمّة كاملة من بعده، ولئن حرمته لذة ساعات معدودة، فقد أسعدته به سعادةً غير محدودة.
وسلام على إخوان كانوا زينة ناديه، وبشاشةَ واديه، وكانوا عمَّار سامره، والطيبَ المتضوع من مجامره، والجوارحَ الماضيةَ في تنفيذ أوامره.
وسلام على أعوان كانوا معه بناة الصرح، وحماة السرح، وكانوا سيوف الحق التي بها يصول، وألسنة الصدق التي بها يقول، أبتْ لهم عزة الإسلام أن يضرَعوا أو يذلّوا، وأبتْ لهم هداية القرآن أن يزيغوا عن منهاجه أو يضلّوا، وأهلك العالمَ زللُ العلماء فتقاسموا بشرف
العلم أن لا يزلوا، تشابهت السبل على الناس فاتخذوا سبيل الله سبيلًا، وافترق الناس شيعًا فجعلوا محمدًا وحزبه قبيلًا.
…
ولقد أقول على عادة الشعراء- وما أنا بشاعر- لصاحبين من تصوير الخيال أو من تكييف الخَبال، تُمثِّلهما الخواطر تمثيلَ صفاء، وتقيمهما في ذهني تمثالَ وفاء: بكِّرا صاحبي فالنجاح في التبكير، وما على طالب النّجْح بأسبابه من نكير، تنجحا لصاحبكما طِيةً، لا تبلغ إلّا بشد الرحل وتقريب المطية، فقد خُتِمت- كما بُدئت- الأطوار، بدولة الرحال والأكوار، فادفعا بالمهرّية القود، في نحر الوديقة الصيخود، ولا تخشيا لذْع الهواجر، وإن كنتما في شهريْ ناجر، ولا يهولنَّكما بعد الشُّقة، وخيال المشقَّة، ولا الفلَوات يصمّ صداها، ويقصر الطرف عن مداها، ولا السراب يترجرج رقراقُه، ويخدع الظامئ المحرور مُراقه.
سيرا- على اسم الله- في نهار ضاح، وفضاء منساح، ضاحك الأسرة وضّاح، وتخلّلا الأحياءَ فستجدان لاسم من تنتجعانه ذكرًا ذائعًا في الأفواه، وثناءً شائعًا على الشفاه، وأثرًا أزكى نماءً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل، فإذا مسّكما الملال، أو غشّى مطيّكما الكلال فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط، وينتشر الاغتباط، وتغْنيا بها عن حمل الزاد، وملء المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل، من أفناء دراج ونائل (1).
سيرا- روحي فداؤكما من رضيعيْ همة، وسليليْ منجبة من هذه الأمّة- حتى تدفعا في مسي خامس، له يوم الترحل خامس، إلى الوادي الذي طرّز جوانبه آذار، وخلع عليه الصانع البديع، من حَلْي الترصيع، وحلل التفويف والتوشيع، ما تاه به على الأودية فخلع العذار.
وأتِيا العُدوة الدنيا فثمَّ المنتجعَ والمرَاد، وثمّ المطلب والمراد، وثمّ محلة الصدق التي لا يصدر عنها الوُرّاد، وثمّ مناخ المطايا على حُلّال الحق، وجيرة الصدق، وعشراء الخلود، الذين محا الموت ما بينهم من حدود، اهتفا فيها بسكان المقابر عني:
ما للمقابر لا تُجيب الداعي
…
أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي
1) أولاد دراج، مجموعة قبائل ترجع أصولها إلى هلال بن عامر جد القبائل العربية التي أغارت على شمال أفريقيا، فخربوا، ولكنهم عربوا، ومواطن أولاد دراج إلى الآن هي ما بين المسيلة (المحمدية) وطُبْنة من مقاطعة قسنطينة، وأولاد نائل مثلهم ولكنهم أكثر منهم عددًا، ومواطنهم تتصل بمواطن إخوانهم أولاد دراج ولكنها تتسع في مقاطعة الجزائر، ولا تزال المخايل والسمات العربية ظاهرة في هذه القبائل.
وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع، فقولا له عني:
يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال، إلى الاعتدال، بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر.
يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلمًا ملأ الدنيا في شبر!
يا قبر، ما عهدنا قبلك رمسًا، وارَى شمسًا، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكًا دائرًا، وتحبس كوكبًا سائرًا.
يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خطّ التواء، لا خطّ استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء.
يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمّة، في رُمّة، وعلى عالم في واحد.
يا قبر، أيدري من خطّك، وقارب شطّك، أيّ بحر ستضُم حافتاك؟ وأيّ معدن ستزن كفتاك؟ وأيّ ضرغامة غاب ستحتبل كفتاك؟ وأيّ شيخ كشيخك وأيّ فتى كفتاك؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا؟ وويحَ المشيّعين من ذا شيّعوا إليك يوم شيّعوا؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة، وودّعوا عامر أعمال بقفرة، وشيّعوا خدن أسفار، وطليعة استنفار، إلى آخر سفرة.
يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نستدعي لترويض ثراك المثقلات الدوالح، والغوادي والروائح، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي، فنستعير للنبت جنينًا ترضعه المراضع، من السحب الهوامع، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء، فنبذتهم بالعراء، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه، وراغوا عن طينته ومزاجه. بل تلك بقية من بقايا الجهل، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل.
…
قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح، نجوى نضو طليح، صادرة عن جفن قريح، وخافق بين الضلوع جريح، يتأوبه في كل لحظة خيالك وذكراك، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك، اللهب والريح، وتؤدّي عنهما شؤونه المنسربة، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح.
إن من تركت وراك، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات، ما عان كمستريح!
يا ساكن الضريح، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح؟ إن بُعدك، أتعب من بَعدك. لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية، ويستذرون من كفاءتك للمهمات
بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم، وأيم الله لقد تلفتت بعدك الأعناق واشرأبت، وماجت الجموع واتلأبت، تبحث عن إمام لصفوف الأمّة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصفر العيبة.
يا ساكنَ الضريح، مت فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحقد، ولكن لم يمت الإسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشرُد، ولا الذكر الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان.
مات الرسم، وبقي الإسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم.
وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها، وأصلحت فسادَها، ونفقت كسادَها، وقوّمت منآدها، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها، وحملتها على المنهج الواضح، والعلمَ اللائح، حتى أبلغتها سدادَها، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق، ومثلك مَن بنى العقائد وشادها، أعليت اسمها بالعلم والتعليم، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم.
ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة (2).
وهنيئًا لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تستكفيهم، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم، من إخوانك العلماء العاملين، الصالحين المصلحين. فهم- كعهدك بهم- رُعاة لعهد الله في دينه، وفي كتابه، وفي سنّة نبيّه، دعاةٌ إلى الحق بين عباده، يلقَوْن في سبيله القذى كحلا، والأذى من العسل أحلى.
وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في العلماء العاملين، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.
آفلو (3)، 22 ربيع الأول 1360هـ/ 9 أفريل 1941.
2) هي القيام بثورة جارفة تكتسح الاستعمار الفرنسي، وتنتزع بها منه حريتها واستقلالها، فهذه هي الأمنية التي كنا نتناجى بها ونعمل لتصحيح أصولها، وقد حقّقت الأمّة الجزائرية الماجدة هذه الأمنية بعد نحو أربع عشرة سنة على أكمل وجه.
3) آفلو: قرية نائية في جبل العمور من الجنوب الوهراني، وهذه القرية هي التي اختارتها السلطة العسكرية الفرنسية منفى لكاتب هذه الكلمات في أول الحرب العالمية الثانية قضى فيها ثلاث سنوات.