الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيها الإخوان:
كلمة صريحة مريحة، إن كنتم جادين في هذه النهضة، مؤمنين بنتائجها وغاياتها، فكونوا مؤمنين بأنه لا يتم لها تمام بالأقوال وتخطيط البرامج على الورق، وإنما يتوقف كل شيء فيها على المال، وان المطلع على بواطن الحالة عندنا ليأخذه العجب من سير هذه الحركة العتيدة بهذه المبالغ الطفيفة من المال، أما غير المطلع فقد يظن الظنون، وقد تطايرت منذ سنوات أخبار عن جمعيتكم عرفنا مصدرها ومغزاها، وبلغت إلى مصر والعالم الشرقي، وتقول هذه الأخبار ان جمعية العلماء تملك خمسمائة مليون من الفرنكات، وانحط بها بعضهم إلى ثمانين مليونًا، وكأن ناقلي هذه الأخبار ومصدقيها يعتقدون أن جمعية العلماء شركة تتجر في المواد الرائجة، وما علموا أنّه لو اجتمع لجمعية العلماء هذا المبلغ من المال لأنفقته في سنة واحدة على تشييد المدارس لهذا الجيش المتشرد من أبناء الأمة، لأن ادخار المال، لا يكون إلّا بعد استكمال الأعمال، ونحن لم نصل بعد هذا الجهد المضني في عشرين سنة إلّا إلى تحقيق جزء من رغائب الأمة، وإخراج نحو مائة ألف من سجن الأمية، ولكننا نقوم بواجبنا، على قدر حالنا، ونذر المتخرصين ينطقون عن الهوى، ويخوضون في ضحضاح الأوهام.
المعهد الباديسي
من غرر أعمال المجلس الإداري في هذه السنوات الخمس إنشاء المعهد الباديسي بقسنطينة، بحيث إذا عدت أعمال جمعيتكم كان درة تاجها، ونكتة انتاجها، وذبالة سراجها والمرقاة العليا في معراجها، والبرهان القاطع على بلوغ الجمعية رشدها، والأمة أشدها.
قضينا عن الأمة بإنشاء هذا المعهد حاجتين في النفس: إحياء اسم أخينا واضع الأس في بناء النهضة التعليمية في الجزائر الإمام الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس بنسبة المعهد إليه، وتسجيل الاعتراف بفضله علينا وعلى الأمة، وان الاعتراف بفضل الرجال، من دلائل الكمال، ومن أوثق ما يربط الأجيال بالأجيال.
والثانية إقامة قنطرة يمر منها أبناء الأمة الذين قطعوا مرحلة التعليم الابتدائي- إلى التعليم الثانوي، وهو النتيجة الطبيعية لنهضة التعليم الابتدائي إذا طرد سيرها، ولم تقف العوائق في طريقها.
وان بين هذا المعهد وبين من أطلقنا عليه اسمه- لصلة من الأمل، تجسمت فكانت كالعمل، حتى كأنه- رحمه الله أنشأه بيده، فقد نبتت في ذهن الإمام المرحوم فكرة شغلت عليه فكره، فكان يكثر من ذكرها، ويجعلها منتهى آماله في الحياة، ويقربها منه الرجاء، فكأنها منه في قبضة المتناول، تلك الفكرة هي إنشاء كلية إسلامية عربية في الجزائر تدرس فيها أسرار البيان العربي، وحقائق القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، والفضائل الإسلامية مفصلة على الغاية التي ترمي إليها حركة الإصلاح الديني والاجتماعي التي استفحل أمرها في الجزائر، لتخرج للإسلام- الرجل المصلح السلفي الكامل وتنبت للعروبة من جديد ألسنة تخب في الدعاية وتضع، وتطير في آفاقها وتقع، وكنا نشركه في هذه الفكرة فنتجاذب أطراف الحديث عنها إذ اجتمعنا، ويغمرنا الرجاء بتحقيقها، وكان- رحمه الله أوسعنا استرسالًا مع الخيال في تشييد الكلية، حتى أنه ليطوي مراحل التمهيد الطبيعية ووسائل الإعداد الضرورية، كأنها طويت بالفعل، وإنا لنتحدث ذات غداة عن التعليم الابتدائي، والشوط الذي قطعناه فيه، ولم يكن لنا إذ ذاك إلّا بضع عشرة مدرسة فقفز بنا إلى الكلية، ولزوم المبادرة بالدعوة والترويج لها في أوساط الأمة، فعارضناه بأن تحقيق هذا الأمل يتوقف على مرحلتين تسبقانه طبعًا ووضعًا، وهما تعليم ابتدائي متقن واسع، فإذا تم وانتشر وكثر الحاملون لشهادته تطلب بطبيعته تعليمًا ثانويًّا، فإذا توجهت الأمة إليه، وجدت وآمنت بضرورته لحياتها اندفعت إلى تأسيس مدارسه، لأن العلم إذا انتشرت تباشيره في الأمة، وخالطت بشاشته أرواحها، أصبح كالسيل المتدافع، يقذف تيارًا بتيار، وحينئذٍ يجب التفكير في الكلية والتعليم العالي، وستكون الأمة إذ ذاك مندفعة إلى هذه المرحلة بما سبقها منساقة إليها بطبيعة الحال، ولم يكن- رحمه الله ممن ينكر هذا بذوقه وشعوره، وإنما كان لقوّة أمله، وفيضان إحساسه، وصدق ثقته بنفسه وبربه وبأمته- يسمو إلى النهايات، ثقة منه بتكامل البدايات.
بقي ذلك الأمل عالقًا بأذهاننا، مستوليًا على شعورنا، حتى لحق الأستاذ الرَّئِيسُ بربه وخلفناه- معشر إخوانه- على حمل هذه الأمانة العظيمة، فوضعنا نصب أعيننا ذلك الأمل، وأخذنا في إعداد وسيلته الطبيعية الأولى وتقويتها، وهي تكثير المدارس الابتدائية، وترقية برامجها، بما يحتمله الوسع، وأعاننا على ذلك إقبال الأمة على العلم، وشعورها بضرورته، تأثرًا بالدعاية التي اضطلعت بها الجمعية، حتى بلغت المدارس وتلامذتها إلى الحد الذي سمعتم، فكان هذا مما عجل التفكير في إنشاء المعهد لنسد به بعض الحاجة ولنجعله نواة للتعليم الثانوي الذي ما زلنا لا نملك أسبابه الكاملة، ولنرضى به رغبات طائفة من أبنائنا الذين أتموا الدراسة الابتدائية، حتى لا تنتكس النهضة وتتراجع ولنمتحن به صدق الأمة وجدّها في النهضة، وقدرتنا على اقتحام المرحلة الثانية في التعليم، وقد أسفر الامتحان من