الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية
في الأمم المتحدة *
في مساء الثلاثاء29 جانفي 1952 أقامت شعبة جمعية العلماء بباريس مأدبة عشاء بنزل "العالَمين"(دو موند) في شارع الأوبرا على شرف الوفود العربية والإسلامية في منظمة الأمم المتحدة، وقد ألقيت في هذا الحفل ثلاث خطب: الأولى للأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية، والثانية للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس علماء الجزائر، والثالثة للأستاذ فارس الخوري رئيس الوفد السوري.
وقد ألقى الأستاذ الإبراهيمي خطبته ارتجالًا ولخّصها الأستاذ أحمد بن سودة تلخيصًا وافيًا بحيث لم يند عنه إلا القليل من ألفاظها ومعانيها:
ــ
حضرات أصحاب المعالي الوزراء،
حضرات أصحاب السعادة والعزة،
حضرات الزملاء حملة الأقلام،
حضرات الإخوان:
هذه ليلة ارتفعت فيها الكلف، وغاب عنها العواذل، وغفل عنها الرقباء- إن شاء الله- فاسمحوا لي أن أخرج عن الوضع المتعارف في رسوم الخطاب، فأنا بصفتي رجلًا مسلمًا دينيًا أمثل الإسلام في بساطته وسماحته واعتباراته الروحية، يحلو لي أن أخاطبكم بما جاء به الإسلام في آدابه الراقية، ومثله العليا، وهو وصف الأخوة.
إن النبوّة هي أكمل الخصائص الإنسانية، وأشرف المواهب الإلهية، ولكن الله حين يرفع ذكر الأنبياء يضعهم في الدرجة الأولى من معارج الرقي، وهي درجة العبودية لله، فمحمد عبد الله قبل أن يكون رسوله، وفي القرآن:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} ، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} .
* "البصائر"، العدد 183، السنة الخامسة من السلسلة الخامسة، 18 فيفري 1952م.
فأنا حين أخاطب إخواني الكرام الذين أتاح لي الحظ السعيد أن أقف أمامهم في هذه اللحظة، لا يحلو لي إلا أن أخاطبهم بهذا الوصف الجليل، وهو وصف الأخوة الذي منذ فقدناه لم نجد أنفسنا، وكأننا حبات انقطع سلكها فانتثرت فأصبحت كل حبة منها في كف لاقط، فمعذرة إلى إخواني الذين أعتزّ بأخوتهم ان خرجت عن النمط المألوف في رسوم الخطاب، وخاطبتهم بيا أيها الإخوان (تصفيق متواصل).
أيها الإخوان المتلاقون على هوى واحد هو هوى الوطن الجامع، المتعبّدون بعقيدة واحدة هي عقيدة تحرير هذا الوطن الجامع، الطالعون كالكواكب من أفق واحد هو هذا الشرق الذي اطلعت سماؤه الشمس والقمر، وأطلعت أرضه الأنبياء والحكماء.
أحييكم باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وباسم شعبتها المركزية بباريس، تحية العروبة التي هي أكرم ما أنجبت البشرية من سلائل، وتحية الإسلام الذي هو أصفى ما تشظت عنه صدفة الوحي من لآلئ، وتحية الشرق الذي أعتقد مخلصًا أنكم أزكى نباته، وأنكم الصفوة المختارة من بُناته. وأحييكم باسم الجزائر العربية المسلمة المجاهدة الصابرة، التي هي غصن فينان من دوحة الإسلام، وفرع ريّان من شجرة العروبة، وزهرة فوّاحة من رياض الشرق (تصفيق حاد)، تغرّبت هذه الزهرة كما تغربت قبلها نخلة عبد الرحمان الداخل، فلم تشنْها غربة، وما زالت متّصلة بالشرق العربي، تستمدّ منه القوّة والفتوّة، وما زالت متّصلة بالشرق الإسلامي، تستصبح بأنواره، وتتغنّى بأمجاده، وتعيش على ذكرياته، وهي على صلة بالشرق متينة، كانت وما زالت متمسّكة بحبله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (تصفيق)، وما زالت قائمة على غرس عقبة والمهاجر وحسّان بن شريك، بالتعهّد والحفظ، وما زالت ناطقة بلسان هلال بن عامر بن صعصعة منذ طغت موجة أبنائه عليها
…
تلك الموجة التي يسميها المؤرّخ المجحف إغارة على الأوطان، وتخريبًا للعمران، ويسمّيها المؤرّخ المنصف إنارة للأذهان وتعريبًا للسان، فحيثما حل هلال من سهولها حلّت العروبة، وأينما سار، سار في ركابه البيان العربي الذي من بقاياه ما تسمعون.
هذه هي الجزائر التي أحييكم باسمها، والتي ترون أبناءها أمامكم بين شيخة وشباب، يلتقيان في غاية واحدة، وإن نزغ بينهما الشيطان، فكما ينزغ بين الأخوين، ولكنهما في النهاية إلى التجمّع والاتحاد، وهؤلاء أبناء الجزائر الذين أحييكم باسمهم يا إخواننا، وأستحي أن أقول: يا ضيوفنا، فإننا جميعًا في دار غربة، وكم وددنا لو اجتمعت هذه الوفود في دارنا (الجزائر) فترون ما يشرح صدوركم، ويبهج خواطركم من ارتباط الجزائر بالشرق والعروبة والإسلام.
أيها الإخوان
…
أيها الزملاء حملة الأقلام!
أحقيقة ما ترى عيناي أم خيال؟ إخوة طوّحت بهم الأقدار، وفرّقتهم صروف الدهر في الأقطار، حتى ما يلتقي رائح منهم بمبتكر، ثم يجتمعون في هذه الليلة وفي هذه البلدة على غرة وعلى غير ميعاد، كما تجتمع أشتات الزهر في إبّانها وفي مكانها، تختلف منها الألوان والأشكال، ويجمعها الشذى والطيب والجمال.
أحق أن باريس- وهي منبع شقائنا، وهي الصفحة العابسة في وجوهنا- تنزل لحظة عن عادتها فتتيح لنا أن نجتمع بين حناياها هذا الاجتماع الرائع؟ فلولا حقوق للأوطان في أعناقنا، ولولا عهود يجب أن نرعاها لديارنا، لكنّا نغفر لباريس جميع ما جرّته علينا من جرائر، ونمحو لها بهذه الحسنة جميع السيّئات، ولكن تأبى علينا ذلك دماء في تونس تسيل (تصفيق وتأثّر)، وشعب في المغارب الثلاثة يعذب، وشباب تفتح له السجون والمعتقلات، وتغلق في وجهه المدارس والمعابد، ودين في الجزائر ممتهن الكرامة، فهيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المر من ثمراتها، وهيهات أن يسمّيها دار العلم، من لم ير منها إلا الظلم، وهيهات أن يدعوها عاصمة النور من لم تغشَهُ منها إلا الظلمات، وهيهات أن يلقّبها دار المساواة من لم تعامله إلا بالإجحاف.
أيها الإخوان!
ها هو الشرق رمى باريس بأفلاذ كبده، يدافعون عن حماه بالحق، ويجادلون عن حقّه بالمنطق، وما منهم إلا السيف مضاء، والسيل اندفاعًا، وإن وراءهم لشبابًا سينطق يوم يسكتون، وسيتكلم بما يخرس الاستعمار ويسوءه، وان بعد اللسان لخطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال وإن أجدادنا دوّخوا العالم، ولكن بالعدل، وسادوه، ولكن بالإحسان، وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدّخرة سيجليها الله إلى حين.
رمى الشرق باريس بهذه الأفلاذ، فخاطبوا الأمم وخطبوا في منظمة الأمم، هذه المنظمة التي سمّيت بغير اسمها، وحليت بغير صفتها، وما هي إلا مجمع يقود أقوياؤه ضعفاءه، ويسوق أغنياؤه فقراءه، وما هي إلا سوق تُشترى فيه "الأصوات" بأغلى مما كانت تشترى به أصوات "الغريض" و "معبد"، غير أن الأصوات القديمة كانت فنًا يمتزج بالنفوس، وموسيقى تتسرّب إلى الخواطر، أما هذه الأصوات فإنها تنصر الظلم، وتؤيد الاستعلاء والطغيان، وشتّان ما بين الصوتين، وتباع فيه الذمم والهمم والأمم بيع البضائع في السوق السوداء، وما هي إلا مجلس نصبوه للشورى فكان للشر وعقدوه للعدل والتناصف، فكان فيه كل شيء إلا العدل والتناصف.
رمى الشرق باريس بأفلاذ كبده فعز على المغرب العربي أن يبقى بعيدًا مع قرب الدار، فرمى باريس بأفلاذ من كبده ليلقى الأخ أخاه فيتناجيان بالبر والتقوى، ويتطارحان الألم والشكوى. ويهش وجه لوجه، ويخفق قلب لقلب، وتصافح يد يدًا، وترد تحية عن تحية، ثم يقوى ساعد بساعد ويشتدّ عضد بعضد، ويمتزج ضعف بضعف فينبثقان عن قوّة، وضعيفان يغلبان قويًا (تصفيق).
أيها الإخوان!
لم يؤثر الفاتحون المتعاقبون على الشمال الأفريقي، ولا أثّرت الأديان الراحلة إليه، جزءًا مما أثر الإسلام، وأثرت العروبة، ذلك لأن الفاتحين لهذا الوطن قبل الإسلام إنما جاءوه بدين القوة وشريعة الاستغلال، أما الإسلام فقد جاء بالعدل والإحسان، وجاء وافيًا بمطالب الروح، ومطالب الجسم، وجاء لإقرار الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض، لذلك كان سريع المدخل إلى النفوس، لطيف التخلّل في الأفكار، قوي التأثير على العقول، ولذلك طال في هذا الشمال أمدُه، وسيبقى ما دامت الفوارق قائمة بين الإنسان والحيوان.
وإن هذا الشمال الأفريقي كل لا يتجزأ (تصفيق) تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحارى، وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط، واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فكيف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرّق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغريبة بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء ينتظم المغارب في سلك. إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الأفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وإن العنوان الدال على ما وراءه هو اجتماع جميع حركات الشمال الأفريقي في هذا المحفل الزاهر، وان البشير بتحقّق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبِّر، وقلب يفكّر، وآذان تسمع، وإنّا لنرجو أن تكون قلوينا غدًا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (تصفيق متواصل).
…
أيها الإخوان!
يقول المستعمرون عنا: إننا خياليون، وإننا- حين نعتزّ بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتّكل على الموتى، يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا، أو في
معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكرًا. ما يرمون إليه، أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا، لم نجد ماضيًا نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضرهم، وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم
…
هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزّون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلًا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد وهذه متاحفهم تردّد الشهادة.
إن القوم يحتقرون حاضرنا الذي أوصلونا إليه، ويعتقدون أننا صبيان، فيتذكّرون ماضيهم ليبنوا عليه حاضرهم ومستقبلهم، وينكرون علينا ذلك، فمن حقّنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة، فنعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر؟، ونعرف ما صنع عقبة وحسّان وطارق وموسى وطريف في الغرب، وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق.
ألا أنهم يذكِّرون أبناءهم بماضيهم، ويلقّنونهم سِيَر أجدادهم وأعمالهم، وإنهم يذكرون أبناءنا المتأثرين بعلومهم وصناعاتهم بذلك، ويأتونهم بما يملأ عقولهم ونفوسهم حتى لا يبقى فيها متّسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن نابوليون، ولا يعرف شيئًا عن عمر، ويحفظ تاريخ "جان دارك" عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن عائشة وخديجة، وإن هذه لهي الخسارة التي لا تعوّض، وإني أتخيّل أن لهم في تحريف الكثير من أسماء أعلامنا مأربًا يوم كانوا يأخذون العلم عنّا، كأنهم ألهموا من يومئذ أن الزمان سيدول وأن دورة الفلك علينا بالسعد ستنتهي، وأننا سنعود إلى الأخذ عنهم، فحرّفوا أسماءنا لتشتبه على أبنائنا، فلا يعرفون أن "افيرويس" هو ابن رشد، وأن "افيسن" هو ابن سينا، وان "جيبرال طار" هو جبل طارق، وهكذا يتكلم أبناؤنا اليوم بهذه الأسماء، وهكذا ينطقون بها، ولا يهتدون إلى أصحابها حتى يقيّض الله لهم من يكشف الحقيقة، ثم يبقى أثر الشك في نفوسهم، لما يصحب تثقيفهم الأجنبي من تحقير لجنسهم وحكم على تاريخهم بالعقم الفكري
…
وإنها لمصيبة يجب علينا أن نتنبّه إلى خطرها، ونبادرها بالعلاج، وان دواءها الوحيد هو تثقيف أبنائنا تثقيفًا عربيًا شرقيًا موحّدًا، وأقول موحّدًا لأنني أعتقد أن الخلافات السياسية التي مُني بها الشرق، يرجع معظمها إلى اختلاف الثقافات، فالمثقّف ثقافة انكليزية يحترم انكلترا، والمثقّف ثقافة فرنسية يحترم فرنسا، وهكذا وزّعنا الاحترام على الغير، فلم يبق من احترامنا لأنفسنا شيء، وكأننا استبدلنا بجنسيتنا الواحدة جنسيات متعددة، كلها غريبة عنّا، وكلّها مجمعة على اهتضامنا وهضمنا، ولولا نزعات موروثة عن الأجداد الذين قهروا الرومان في أفريقيا، ودفعوا الصليبيين عن الشرق، لم يبق لنا من ذلك التراث الغالي شيء، بفعل التجهيل الذي هو غاية الاستعمار فينا، وبفعل هذه التعاليم الغريبة عنّا.
أيها الإخوان!
ليس من سداد الرأي أن يضيع الضعيف وقته في لوم الأقوياء، وليس من المجدي أن يدخل معه في جدل. إن من تمام معنى اللوم أن يتسبّب في توبة، أو يجر إلى إنابة، ونحن نعلم أن القوم لا يتوبون ولا يذكرون، فالواجب أن نلوم أنفسنا على التقصير، ونقرعها عن الانقياد لآراء هؤلاء القوم ولإرشادهم
…
أما لومنا إياهم فهو لوم الخروف للذئب، وأما طمعنا في توبتهم فهو طمع الخروف في توبة الذئب، فإن أردتم أن تروا المثل الخارق من توبة الذئب فقلّموا أظافره، واهتموا أنيابه، كذلك إن أردتم توبة القوي فاحتقروا قوّته، واحذروا أن تكونوا زيادة فيها، فإنه يتصاغر ثم ينخذل، ثم يساويكم فإذا هو أقل منكم وأضعف. إن هذه هي الأمثال التي يعقلها الطغاة، وإن هذه هي التوبة التي يجب أن يُحملوا عليها حملًا، ويلجأوا إليها إلجاءً.
كذلك يجب أن لا نقضي أعمالنا في التلاوم، وأن لا نكون كمن قال فيهم القرآن:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} فإذا تلاومنا فليكن ذلك زجرًا عن الشر، وردعًا عن الخلاف، ثم رجوعًا سريعًا إلى الحق، ولقد نهى شوقي إخواننا المصريين حينما كانوا يتلاومون فيشغلهم التلاوم عن قضيتهم والاستعداد، وبرأهم في موقف تجب فيه المؤاخذة الوطنية، ليردّهم إلى سبيل الرشاد، فقال:
لا يلم بعضكم على الخطب بعضًا
…
أيها القوم، كلكم أبرياء
فلندع اللوم والعتاب جانبًا، ولنفعل ما يفعله الصاحي حين يستيقظ من النوم من حزم وتشمير وجد، فبذلك يلحق القوافل المبكّرة، لا بالتباطؤ والإخلاد ولعن الشيطان ومعاودة النوم.
إن شبابنا هم أحق الناس باستجلاء هذه العبر، وهم أحق بوصل مبتدئهم بالخبر، وهم أحق بأخذ مواعظ الحياة عن المتنبي، وبتلقّي دروسهم الفطرية البدوية عنه، وأن لا يكونوا شبابًا- بالمعنى الذي يملأ هذه الكلمة- حتى يؤدّوا امتحانًا في الحياة على منهج المتنبي وطريقته، إذ يقول:
وأهوى من الفتيان كل سميدع
…
نجيب كصدر السهمري المقوَّمِ
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت
…
به الخيل كُبَّات الخميس العرمرم
فإن فعلوا ذلك فأنا كفيل لهم أن يدخلوا هذا البحر المتلاطم من حضارة عصرهم ولا يغرقوا، وأن يعبّوا من هذه التعاليم المتباينة في حياة عصرهم ثم لا يشرقوا
…
(تصفيق).
أيها الإخوان!
إن القوم درسونا وفهمونا، وتيقّنوا أننا لن نضيع ولن نفنى ما دمنا متمسّكين بالعرى القوية من الإسلام والعربية والشرق، فرمونا بالوهن في مقوّماتنا حتى تضعضعت وبدأوا بالدين فسخّروا علماءه بوسائل شتى حتى أضعفوا سلطانهم وأزالوا هيبتهم من نفوس المسلمين، ووجدوا ثغرًا قديمة من ضلالاتنا فيه فوسّعوها وأدخلوا فيه ما ليس منه، وشجّعوا البدع المحدثة في الدين بتشجيع أهلها، وأعانهم على ذلك كله الانحطاط العام الذي ابتليت به العلوم الإسلامية من المائة الثامنة إلى الآن، فكاثروها بعلومهم المادية حتى غمروها وزهدوا أهلها فيها وأصبحت عقيمة جامدة ثم عمدوا إلى الكبراء فأغووهم بالأموال والألقاب والرتب، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، وشغلوهم بالتوافه عن العظائم، وببعضهم عن الأجنبي، وبأنفسهم عن الشعوب، فما استفاقوا وما استفقنا إلا وأوطاننا مقسّمة، وقسمتنا هي القليلة، وممالكنا كثيرة، ولكن معانيها للأجنبي، وألفاظها لنا، ثم عمدوا إلى الشباب فرموه بهذه التهاويل من الحضارة الغربية وبهذه التعاليم التي تأتي بنيانه الفكري والعقلي من القواعد، وتحرف المسلم عن قبلته، وتحول الشرقي إلى الغرب، وإن من خصائص هذه الحضارة أن فيها كل معاني السحر وأساليب الجذب، وحسبكم منها أنها تفرّق بين المرء وأخيه والمرء وولده، فأصبح أبناؤنا يهرعون إلى معاهد العلم الغربية عن طوع مِنَّا يشبه الكره، أو عن كره يشبه الطوع، فيرجعون إلينا ومعهم العلم وأشياء أخرى ليس منها الإسلام ولا الشرقية، ومعهم أسماؤهم، وليس معهم عقولهم ولا أفكارهم، وإن هذه لهي المصيبة الكبرى التي لا نبعد إذا سمّيناها مسخًا، وليتها كانت مسخًا للأفراد، ولكنها مسخ للأمم ونسخ لمقوّماتها.
…
أيها الإخوان!
إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزيّنوه لنا كما يزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكتاب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعًا ودولًا وممالك، كما توزّع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبّرة، وأيدينا المسخّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة
نطوف بها ونلتزم أركانها، لما نالوا منّا نيلًا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة، أما وقد بلغوا من تقسيمنا ما يريدون، وأصبحنا في درجة من الضعف المادي والضعف العقلي نعتقد فيها أن الله خلقنا خلقة الأرنب، وخلقهم خلقة الأسد، وجفّ القلم، ولا تبديل لخلق الله. فأول واجب علينا، بل أول نقطة يجب أن نبتدئ منها السير، هي أن نكفر بهذا الانقسام، ونكفر عليه بضدّه، وهو الوحدة الشاملة لجميع الأجزاء، وكيف يكون ذلك وقد بُنيت على ذلك التقسيم أوضاع جديدة وممالك وملوك وحدود، وان تغيير الممالك لصعب، وإن فطام الملوك عن لذة الملك لأصعب منه؟ فلنلتمس مفتاح قضيتنا من بين هذا الركام من الأدوات البالية، ولنعتصم بالأمر الميسور، وهو أن نوحّد التعليم ومناهجه، والتجارة وأوضاعها، ولنطمس هذه الحدود الفاصلة بين أجزاء الوطن الواحد، وليرتفق بعضنا ببعضنا، فيما يزيد فيه بعضنا على بعضنا، ولنكن يدًا واحدة على الأجنبي، ولنعتبر المعتدي على جزء منا معتديًا على جميع الأجزاء، وعدو العراق هو عدو مراكش، ولنذكر من خصال الأمم ما فعلته ايطاليا في ضم أجزائها، وما فعلته ألمانيا، وما فعلته فرنسا التي لم تنم لها عين ولم ينعم لها عيش في قضية الألزاس واللورين، ولو أن معتديًا اعتدى على جزء من انكلترا (وهي كجزيرة العرب) لتداعى الإنكليز من أطراف الأرض لاسترجاعه، فلمَ لا نكون كذلك؟
إنهم إن علموا ذلك منّا، وعلموا جدنا فيه تابوا عن سيرتهم فينا وأقلعوا، أما من لان للأكل فليس من حقّه أن يلوم الأكلة.
…
والذي روحي بيده
…
ما يسرّني أن للعرب ثماني دول، ولا أن للمسلمين عشرين دولة، ما داموا على هذه الحالة، وإنما يسرّني ويثلج صدري أن يكون المسلمون كلهم شعبًا واحدًا بحكومة واحدة، وعلى عقيدة في الحياة واحدة، وعلى اتجاه إلى السعادة واحد، فإذا وجد هذا الشعب لم يبق لهؤلاء الأقوياء إلا أن يقولوا: إن في الشرق قومًا جبّارين، وإنه لم يبق لنا بينهم موضع.
إن القوم استضعفونا ففرّقونا فأكلونا لقمة لقمة، فأوجدوا هذا الشعب الموحّد تَحيوا وتُحيوا العالم به، أوجدوه تُسعَدوا وتُسعِدوا العالم به
…
إن العالم اليوم مريض، وانه يتلمّس الشفاء، فأروه أن في الإسلام شفاءه، وانه في خصام منهك، وانه يلتمس الحكم، فأحيوا الإسلام الصحيح يكن حكمًا في مشكلة هذا العصر
…
مشكلة الغنى والفقر
…
تكتّلوا ففي استطاعتكم أن تتكتلوا
…
تكتّلوا يمدّكم العصر بروحه
…
انه عصر التكتّل، وان الأقولاء لم
تغنِ عنهم قوّتهم شيئًا فأصبحوا يلتمسون أنواعًا من التكتّل مع القريب ومع الغريب، فهذه انكلترا تتكتّل، وهذه أمريكا، وهذه روسيا
…
فكيف لا يتكتّل الضعفاء.
إننا ضعفاء، ومن القوة أن نعترف بأننا ضعفاء، لأن من كتم داءه قتله، فمن الواجب علينا أن لا نتعاظم بالكذب، ما دمنا لا ننال إلا الفتات من مائدة الحياة.
…
أيها الإخوان!
إذا حدّثتكم عن الإسلام، أو أجريته على لساني، فلست أعني هذه المظاهر الموجودة بين المسلمين، وإنما أعني تلك الحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها العالم، تلك الحقائق التي سارت الإنسانية على هداها قرونًا فما ضلّت عن سبيل الحق ولا زاغت، إنما أعني تلك الآداب التي صحّحت العقل والفكر، وصحّحت الاتجاه والقصد، ووحّدت القلوب والشواعر. فإن أردتم أن تستبدلوا السعادة بالشقاء فعودوا إلى ذلك الطراز العالي المتّصل بالسماء، إن السعادة منبثقة من النفوس، وان الشقاء لكذلك، وإن إرادة الإنسان هي زمامه إلى الجنة أو إلى النار.
إن أول من يجب عليه أن يؤذن بهذا الصوت جهيرًا مدويًا هم علماء الإسلام، فكل عالم مسلم لا يدعو إلى اتحاد المسملين، وإلى إحياء حقائق الإسلام العالية، وإلى إسعاد الشرق بها فهو خائن لدينه، ولأمانة الله عنده. وإن العالم المسلم الذي يسكت عن كلمة الحق في حينها والذي لا يعمل لإقامة الحق، ولا يرضى أن يموت في سبيل الحق، جبان، والجبن والإيمان لا يلتقيان في قلب مؤمن.
إن عهد الله في أعناق علماء الدين لعهد ثقيل، وان أمانة الإسلام في نفوس علمائه لعظيمة، وإنهم لمسؤولون عليها يوم تنشر الصحائف في هذه الدار، وفي تلك الدار.
…
أيها الإخوان!
إن الكلام لطويل، وإن الوقت لقصير، فليكن آخر ما نتواصى به: الحق والصبر والاتحاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.