الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ذلك أن الشيخ بلقاسم بن روَّاق- مدير مدرسة جمعية العلماء بمدينة بعلباس- أطلعني على رسالة جاءته من الشيخ البشير الإبراهيمي من أفلو، يعلن فيها أنه بصدد تأليف كتاب عن حياة ابن باديس في ثلاثة وعشرين فصلًا، وأنه يحتاج- لأجل ذلك- إلى مراجع يرجوه أن يزوّده بما يتيسر له منها، وقد كان من فصول الكتاب فصل خصّصه لعقد مقارنة بين ابن باديس وابن العميد الذي كان يُلَقَّب بالأستاذ الرَّئِيسُ كما يقول المتنبي:
فدعاك حسّادك الرَّئِيسُ وأمسكوا
…
ودعاك خالقك الرَّئِيسُ الأكبرا
وقد كان القصد من هذه المقارنة توجيه أبناء الحركة الإصلاحية إلى أن يطلقوا على إمامهم عبد الحميد بن باديس لقب الأستاذ الرَّئِيسُ عوضًا عن الأستاذ الإمام، الذي كانوا ينعتونه به في تلك الحقبة، وذلك لاعتبارين:
أولًا: أن لقب الأستاذ الإمام قد شاع إطلاقه في المحافل الإصلاحية- مشرقًا ومغربا- على الشيخ محمد عبده.
ثانيًا: أن لقب الأستاذ الرَّئِيسُ أَدْعَى لتذكير الناس بجمعية العلماء التي أنشأها ورأسها ومات مجاهدًا في تحقيق أهدافها.
غير أن هذا الكتاب لم نعثر له على أثر، لأنه قد يكون من جملة ما اندثر من آثاره.
فلسفة الإصلاح:
إن الإصلاح- كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام- هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس، قال شعيب لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك:{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} الآية 88 من سورة هود.
ويضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر- بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد- صلوات الله عليه وسلامه- وخلفائه الراشدين- علماءُ الأمة الإسلامية، عملًا بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما:«العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (شرح السنّة للبغوي، ج1، ص 276).
والإصلاح الديني المنشود هو عمل وقائي وعلاجي، أي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أمانة في ذمة المؤمنين والمؤمنات ما دامت السموات والأرض. قال
تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية 71 من سورة التوبة.
ومعنى هذه الآية الكريمة الجامعة أن الإصلاح وقبول الإصلاح واجب على كل مؤمن ومؤمنة.
لكن قيادة العمل الإصلاحي للجماعات والشعوب والأمم لا يتولاه إلا من أوتي الأمانة والكفاءة أسوة بما جاء في القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام، إذ رشّح نفسه ليتحمّل مسؤولية شؤون المالية والاقتصاد بأرض مصر بعد أن أحس بتقدير الملك لمواهبه. قال الله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} الآيتان 54 - 55 من سورة يوسف.
وقد أوتي القائد الثاني للحركة الإصلاحية في الجزائر الأستاذ الإبراهيمي- مثل سلفه ابن باديس- من شروط القيادة ما يجعله بحق يحظى بمكانة مرموقة في فقه الإسلام وعلومه، وملك ناصية اللغة وأدبها وفنونها، واستيعاب تاريخ الأمة الإسلامية ومذاهبها، في شؤونها الدينية والاجتماعية، فاستحق بكل ذلك وغيره من الكمالات، العضوية في المجامع العلمية واللغوية بدمشق والقاهرة وبغداد، وتقدير الأوساط العلمية والأدبية والسياسية في بلده الجزائر وفي المغرب والمشرق.
وقد قال فيه الفيلسوف المرحوم الأستاذ منصور فهمي حينما استمع إلى محاضراته: "إن هذا المنبر الذي يقف فيه الشيخ ساحة مقدسة، ينبغي أن يدخلها الناس كما يدخلون الحرم، وقال: إنه لم يسمع ولم يرَ- في حياته- من هو أفصح أو أبلغ من الشيخ الإبراهيمي، ودعا جميع العلماء والأدباء في الوطن العربي إلى أن يلقوا إليه مقاليد اللغة والبيان، ثم خاطب الشيخ قائلًا: "أنت ملك العربية لهذا العصر، ملكت ناصيتها ونواصينا"، وبعد ذلك أعلن الأستاذ كامل الكيلاني المبايعة.
وكتب الإمام الشهيد سيد قطب في البصائر- العدد 214، في 7 جمادى الأولى 1372هـ/ 23 يناير 1953م- مقالًا ينوّه فيه بجهاد جمعية العلماء ورئيسها الشيخ الإبراهيمي، جاءفيه:
"لقد وجّه الاستعمار همّه في الجزائر إلى سحق العقيدة وسحق اللغة، وعن هذا الطريق كاد يصل إلى غايته، فلما انتفضت الجزائر بالحياة كانت العقيدة هي المشعل الذي أضاء لها الطريق، وكانت اللغة هي الحبل الذي تتماسك به الجموع الشاردة في الظلام.