الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة "البصائر" الجديدة *
تستقبل "البصائر" بهذا العدد عامًا جديدًا من عمرها المديد بالأعمال لا بالأقوال، العامر بالحقائق لا بالخيالات، وبالجد لا بالهزل، وبالبناء لا بالهدم، سائلة من
الله تعالى- في اخبات المؤمن، وخشوع القانت- توفيقًا ينير السبيل، وإعانة تسهل العسير، وتأييدًا يشد الأزر، ومددًا روحانيًّا يقوى العزائم ويغذي اليقين، ويثبت الأقدام.
تستقبل "البصائر" هذه المرحلة الجديدة من مراحل جهادها، وهي على أشد ما كانت عليه من الإيمان واليقين والاستبصار والحزم والثبات والصبر، وهي الخلال التي اتسمت بها من يوم نشأت، ولم تزدها ممارسة الأيام والحوادث إلّا شدة فيها، واستمساكًا بها، فكانت عدتها في الشدائد، وسلاحها في مواطن البأس واليأس، حين تهفو الأحلام وتطيش الآراء، وتزيغ البصائر، ولا تظن نفس بنفس خيرًا.
…
قطعت البصائر عامها الأول من عهدها الجديد في مقارعة الاستعمار، في الميدان الديني والعلمي كثيرًا، وفي الميدان السياسي قليلًا. كشفت نياته وألاعيبه في قضايا فصل الدين الإسلامي عن الحكومة، وحرية التعليم العربي والحج، وفضحت مكايده في وضع الدستور الجزائري ومهازل الانتخاب، ولم تعف أعوانه في الميدانين، المتسترين منهم والمجاهرين، ثم شاركت بجهد المقل في قضية فلسطين بتلك المقالات التي أمدها اللسان العربي بقبس من بيانه، وأمدها البلاغ الإسلامي بقوّة من برهانه، وأمدها التاريخ الصادق بفواصل من فرقانه، ثم طافت في فترات العام المتقطعة بموانع الاهتمام من شؤون الجزائر، فوضعت في
* "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948م.
كل جرح دواء، ورفعت لكل غادر لواء، وأعطت في كل حدث رأيًا، ولكل مشكلة علاجًا، ونصبت في كل ميدان جنديًّا، كل ذلك بقدر ما وسعه جهدها، وانفسح لعمله ذرعها، ثم لم تغفل يومًا عن وظيفتها الأصلية وهي خدمة التعليم العربي ومدارسه ورجاله.
…
والبصائر حين تضع تلك الشارة الثمينة على صدرها، بل ذلك التاج اللامع على رأسها، وهو كلمتا: العروبة والإسلام- لا تضعها رمزًا بلا حقيقة، ولا عنوانًا بلا كتاب، ولا حلية على عجوز، بل هي حقيقة صادقة، ومزنة وادقة، وأعمال مبرورة للعروبة والإسلام. لا تزيد فيها ولا مبالغة. فالبصائر هي مجلى البيان العربي بهذا القطر، وهي حارسة الهدي المحمدي بهذا القطر، وهي المؤتمنة على الفضائل الشرقية بهذا الوطن في وقت أجلب فيه الاستعمار بخيله ورجله على هذه الثلاثة، ينتقّصها ليزهد فيها، وينقصها ليبيدها. تمالئه على ذلك نزعتان خبيثتان، كلاهما من غرس يده: نزعة الالحاد التي هي شر ما نسلت الحضارة الغربية، ومن آثارها قطع الصلة بيننا وبين الشرق وروحانيته، ونزعة أخرى تلبس باسم الشرق العربي، وتأكل الخبز باسمه، زخرف القول غرورًا، ولكنها لا تعمل ما يرضيه، ولا تبني ما يعليه، وإنما ترفع العقيرة باسمه فتفضحها رطانة الأنباط، وتربط نفسها معه بمثل خيط العنكبوت فينحل الرباط، وتمتحن بخصائصه فإذا هي
…
كما قيل في حجام ساباط.
والبصائر ترى أن الشرق العربي شركة مساهمة، للمغرب العربي حق المساهمة فيه برأس مال، ليس منه الأقوال ولا الخيال، وأن جمعية العلماء التي تمثلها جريدة البصائر هي الهيأة الوحيدة التي قدمت حصتها كاملة للشركة العربية من رأس المال، بما أصلته للعروبة من أصول، وبما فصلته لها من فصول، وبما أقامته لها من معالم. نقول هذا ولا نبخس الهيآت العاملة أشياءها، وإنما نقول: ان رأس المال الذي نعتبر به شركاء في هذه الشركة العظمى- لا يتحقق بالبرقيات، ولا باحتفالات يوم العروبة. إذ غاية ما يدل عليه ذلك إثبات أننا عرب، وهذا تحصيل حاصل، وليس فيه في حدّ ذاته حاصل، وإن تأسيس مدرسة عربية، لأفصح في الدلالة على الاتصال من ألف برقية.
إن هذه التهاويل والقشور هي من أسوأ ما جلبه إلينا الاستعمار من ضلال الحضارة الغربية. يلهينا بها عن الواجبات، ويحجب علينا بها الحقائق، وقبلها رمانا بالسم القاتل من فكرة الوطنيات الضيقة، ليضيع علينا الوطنية العامة. فلما ضاعت من أيدينا وأفكارنا- ابتلعنا لقمة، ولو حافظنا على الوطنية الكبرى العامة لما مزق أوصالنا هذا التمزيق الشنيع. فهل نعتبر؟ وهل نذكر؟
إن أعظم فائدة نجنيها من الجامعة العربية هي استبدال الوطنيات المحدودة بالوطنية الجامعة الواسعة، ولا تضع الجامعة العربية رجلها في طريق الفلاح إلّا يوم توحد التعليم ووسائل الثقافة والقضاء والنقد والجيش والتمثيل السياسي، ولو وفقت إلى ذلك من قديم لوجد "وسيط" الأمم الظالمة صفًا واحدًا، وإمامًا واحدًا، ولسانًا واحدًا، ولما رأيناه يطير كالديك من غصن إلى غصن ويؤذن على كل غصن بأذان
…
ويا ويح فلسطين، إذا كان يدافع عنها شركاء متشاكسون.
و"البصائر"- بعد هذا كله- ستعالج في عامها الجديد مشكلة التعليم العربي في أقطار العروبة وستمد يدها وبصرها إلى ما وراء الحدود، وستدلي برأيها- بكل إخلاص- في التعليم الجامعي بجامعاتنا الدينية العزيزة وستتوسع في القول بضرورة توحيد المناهج، والعناية بالتربية الخلقية في جامعاتنا ومدارسنا الابتدائية ولها في هذا الاستعداد القوي الذي استحكم في نفوس رجال العلم والعمل- أكبر أمل في النجاح.
…
و"البصائر" ستشتد في مقاومة هذه "الاستعمارات" المقاومة للتعليم، وسيجدونها غصةً وشجًا وسمًا ناقعًا وغيظًا، وسيجدونها عن العلم نضاحة، ولأعدائه فضاحة، وسيجدونها- ما داموا على ذلك- حيث يجد العدو عدوه، لا حيث يجد الصديق صديقه.
…
و"البصائر" جريدة العروبة والإسلام، فلتبق جريدة العروبة والإسلام.