الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهة الأمة عن تشجيع مؤثر، له خطره وستسمعون مصداقه من أخينا الأستاذ أمين المال، في فصل المعهد ومؤسساته ونفقاته، ولو اتسع المجال، ولم تتوال الأزمات على الأمة في السنوات الأخيرة، لتقدمنا إليكم اليوم بثلاثة معاهد للذكور، وبمعهد على الأقل للإناث، وإنني لا أخرج من العهدة إلّا بمصارحتكم بأن الأمة لا تستبرىء لدينها، وأمانة الله عندها إلّا بخطوة ثابتة سديدة إلى تعليم ثانوي منظّم، فإن غاية التعليم الابتدائي رفع الأمية وتكثير القارئين، وإثارة الشوق إلى العلم، فإذا لم تفتح في وجوه تلامذة هذا النوع أبواب التعليم الثانوي- انكسرت رغباتهم، وفتر شوقهم، وأدى ذلك إلى موت الأمل في نفوسهم، ثم إلى نوع خطير من الزهد في العلم، والرجوع إلى الأمية المريحة، ولا عذر للأمة في هذا بفقر ولا قلة، فإنها باجتماعها كثيرة غنية غير فقيرة، وان الحجة قائمة عليها بما تنفقه في اللهو وتبدده في الكماليات المباحة، والشهوات المحرمة.
إن أمة تنفق مآت الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها في السنة على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها- لأمة كاذبة على الله سفيهة في تصرفاتها، ومن عدل الله فيها أن لا يغير ما بها، حتى تنوب وتثوب، وقد ضربنا لها الأمثال، وسقنا العبر، وحذرناها من التمادي في الغي، وبشرناها بابتسام الحياة لها إن هي رجعت إلى الله، ولبت داعيه، وأقمنا لها الدليل من هذه البواكير الطيبة لحركتنا التعليمية وإننا نبرأ إلى الله من أمانة مغشوشة ونصيحة مدخولة وبلاغ خاطىء.
والمعهد الآن يستقبل سنته الخامسة يحنو على سبعمائة تلميذ من أبناء الأمة واثني عشر مدرسًا من علمائها، ويسير بخطوات وئيدة، ولكنها سديدة، معتمدًا في حياته على الأمة متوكلًا على فضل الله.
"
البصائر
"
كان من أعمال المجلس الإداري لجمعيتكم في أوائل هذه الحقبة- إنجازًا للوعد الذي قطعه على نفسه في اجتماع سنة 1946 - إصدار "البصائر" في طورها الجديد، ولقي في إصدارها ما لا يدركه إلّا المباشرون لمثل هذه الأعمال، وأصعبها وأثقلها محملًا- المطبعة- ولكنه صمم وعزم، فخرجت من أول يوم مولودًا كاملًا، واحتلت من أول يوم مكان الصدارة من بين الجرائد العربية في الشمال الافريقي، ودخلت الشرق العربي فرحبت
بها المحافل العلمية والأدبية التي اتصلت بها، وانهالت على إدارتها رسائل الإعجاب والتقدير من أئمة الكلام وحملة الأقلام، واعتبروها نموذجًا فنيًّا راقيًا، ثم دخلت الشرق الإسلامي فتفتحت لها القلوب المؤمنة، وتهللت لها وجوه المسلمين وعدوها لسانًا من ألسنة الإسلام، نطق حين أجرت المطامع الألسنة، وسيف من سيوف الإسلام انتضى حين أغمدت الرغبة والرهبة سيوفه، ودخلت النوادي العربية في الأميركتين فكانت سفيرًا موفق السفارة بين الجزائر وبين أبناء العروبة في تلك البلاد التي حيزت إليها الدنيا بحذافيرها، وزويت لها الأرض من أطرافها، وأَعْدَتْ كل داخل إليها بجنون المادة فكانت "البصائر" هناك قبسًا من روحانية الشرق ودعوة محبوبة إليه، تتداول الأيدي العدد الواحد منها حتى يبلى، ولو أن الناس هناك كانوا يقرأون العربية لأحدثت انقلابًا يكون مآله الرجوع إلى أحكام الروح.
ثم دخلت أوروبا وتغلغلت إلى أقاصيها الشمالية، فكأنما طلعت منها على الجاليات الإسلامية هناك شمس ثانية، وكأنما امتد منها حبل واصل بين المسلمين هنا إلى إخوانهم النازحين الغرباء هناك، وقد بلغت من المكانة عندهم أن جملها أصبحت نماذج تنتزع منها الدروس الدينية والخطب الجمعية.
وقفت "البصائر" في القضايا الجزائرية وفي قضايا العروبة والإسلام مواقف شريفة لم تقفها صحيفة عربية ولا أعجمية، وقاومت الاستعمار بالتشنيع عليه وهتك أستاره وكشف سرائره، ولم يثنها عن ذلك وقوع المكروه فضلًا عن توقعه، وكانت شجًا في حلقه وغصة في لهاته، وغيظًا في صدره، وخصمًا لا تلين قناته.
ووقفت في قضية فصل الدين عن الحكومة مواقف صادقة فضحت فيها نيات الاستعمار المبيتة، وكشفت عن مقاصده الخبيثة، وواجهته بحقائق لم يستطع لها إنكارًا ولا ردًا، وسكت سكتة السارق الذي فضحه نور الفجر، وإذا لم تحصل الأمة بعد تلك الحملات الصادقة على طائل، فذلك راجع إلى عناد الاستعمار المعروف، ،وإلى علة أخرى في الأمة ما زلنا نطب لها، ولم نصل إلى نهاية العلاج بعد، وهي أن إيمانها بحقها ما يزال ضعيفًا، ولو أنها عوفيت من هذه العلة، وتم برؤها منها- لأجرت ألسنتنا وأقلامنا بعزمة مصممة، تفصل القضية في يوم أو بعض يوم، ولتركت الاستعمار يقول ما قاله إمامه الأول فرعون: آمنت أنه لا إله إلّا الذي خلق الأمة الجزائرية.
ووقفت في قضية حرية التعليم العربي مواقف مشهودة، سيحفظها التاريخ وتحمدها العربية فيما تحمد، من مواقف النصرة لها، والدفاع عنها، وسيحمدها المنصفون من العرب وأنصار العروبة يوم تجتمع أطراف الأخبار، وتتجلى الحقائق، وبعلم أولئك الأنصار أن
عصابة قليلة العدد في الجزائر قامت بمكرمة عرفت عند العرب فأحيت الموءودة
…
أحيت البيان العربي في ألسنة أدارها الاستعمار على رطانات غريبة ومكن لها فيها، ليسقط الضاد من مخارجها، وأنها أرجعت طائفة من أبناء العروبة إلى حظيرة العروبة.
ووقفت من قضية فلسطين موقف المجاهد المستبسل الكرار وأتت في القضية بما لم تأته صحيفة عربية، وجلت من وجوه الرأي الصريح ما لم يجله مفكر عربي، وسددت سهام النقد إلى المتخاذلين من قادة العرب، فكشفت دخائلهم وقبحت سيرهم وأعمالهم وانخداعهم لدسائس أوروبا وأحيت معهم سنن السلف الناصحين من نصيحة صادعة، وكلمة حق قارعة، وقالت لهم ما يغضبهم ولكنه يرضي الله.
ووقفت مع المغرب الأقصى في محنته الأخيرة موقف الأخ الصادق الأخوة يظاهر ويناصر وكأنه يحامي عن داره، لا عن دار جاره، وحملت على الاستعمار وعلى أنصاره الحاطبين في حبله حملات شعواء أقلقت باله وأَقَضَّتْ مضجعه، فلم ينعم له صباح، حتى منع رواجها بالمغرب، وأوصد دونها أبوابه.
ووقفت من الشاب المسلم الجزائري موقف الأب المرشد الناصح المشفق تدعوه إلى تعاليم دينه، وبيان لغته، ومعرفة تاريخه، والمحافظة على ميراثه الجنسي وخصائصه وأخلاقه، وأن يفهم الحياة ويواجهها بحقائقها، وأن يجمع شمله على الشبيبة وحب الوطن ونفعه، وأن يزاحم الأجنبي في علمه وعمله بالمنكب القوي، وأن لا يكون فارغًا في هذا الزمان الملآن، ولا عابثًا في هذا العصر الجاد، وأن يكاثر شباب العالم علمًا بعلم وعملًا بعمل، وأن يتجه إلى سمت، ويعمل له في صمت، وأن يعمل بدستور شوقي للشباب:
هَلْ علمتم أمة في جهلها
…
ظهرت في المجد حسناء الرداء
باطن الأمة من ظاهرها
…
إنما السائل من لون الاناء
فخذوا العلم على أعلامه
…
واطلبوا الحكمة عند الحكماء
واحكموا الدنيا بسلطان فما
…
خلقت نضرتها للضعفاء
وَاقْرَأوا تاريخم واحتفظوا
…
بفصيح جاءكم من فصحاء
وأما والله لو أن شبابنا كانوا على حظ من فهم لغتهم، وكانوا يقرأون "البصائر" لما تفرق لهم شمل، ولا ضل بهم سبيل، ولتلاقوا على حب دينهم وهوى وطنهم.
ووقفت من الشرق موقف المتعصب لأمجاده، الناشر لروحانيته وحكمه وفضائله، المردد لأصدائه وأصواته، الفاخر بأبطاله في الحرب، وعباقرته في العلم، ودهاته في السياسة، المثبت لإمامته للغرب وسيادته عليه.