الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياق التاريخي (1940 - 1952)
بسم الله الرحمن الرحيم
رأينا في السياق التاريخي للجزء الأول من هذه الآثار بعض ما قام به الإمام الإبراهيمي من أعمال قبل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأهم نشاطاته بعد تأسيسها، وأشرنا إلى بعض ما جاء في تقارير المسؤولين الفرنسيين عن نشاطه في تلمسان التي تمكن "أن يكسب نصف سكانها"(1)، وأن يسيطر منها على الناحية الغربية للجزائر (2)، وعرفنا محاولة الفرنسيين لشراء ذمته واستنزال همته، وأنهم لما استيأسوا منه خلصوا إلى نفيه، وعلمنا كيف تلقى الإمام- بصبر أولي العزم- ذلك النفي والتفريق بينه وبين صاحبته وبنيه، فما وَهن لما أصابه في سبيل الله ولا هان، ولا ضعف لما ناله في سبيل الجزائر ولا استكان، فلم يضرع للطاغين، ولم يذل للباغين.
وبعد بضعة أيام من نفيه تلقى خبرًا فَاجعًا هزه من الأعماق، وبرّح بقلبه، وأسال عَبَراته - وهو العصي الدمع-؛ ذلك الخبر هو وفاة أخيه الإمام عبد الحميد بن باديس يوم 16 أفريل 1940.
لم يكن الموت هو الذي أَجزع الإمام الإبراهيمي، فله من متانة العقيدة وحصانة الإيمان واستبحار العلم ما يحول بينه وبين الجزع من قضاء الله وقدره، ولكن الذي آلمه وهَيَّجَ أشجانه هو عدم تمكنه من وداع رجل كان يعتبره "العَلَم الفرد"، وكان يراه "أمة في رُمَّة"، لأنه "أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَر، ودينًا لآبَسَتْه المحدثات والبدَعُ، ولسانًا أكلته
1) عبد الكريم بو الصفصاف: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
…
قسنطينة، دار البعث 1981، [ص:393]، وهو ينقل عن تقرير فرنسي مؤرخ في 4 - 1 - 1941.
2) شارل أندري جوليان: افرلقيا الشمالية تسير، تعريب المنجى سليم
…
الجزائر، ش. و. ن. ت 1976، ص 135.
الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه وَرَثَةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب" (3).
كان الفرنسيون متأكدين أن رئاسة جمعية العلماء ستؤول إلى الإمام الإبراهيمي، فسعوا جهدهم لمنع ذلك، وبذلوا من زخرف القول وخُلَّب الوعود ما بذلوا لكي تُصْرَف رئاسة الجمعية إلى غيره، وقد "اقترح علينا الكولونيل شون ( Shoen) وابن حورة- المبعوثان من طرف الوالي العام الفرنسي- تقديم شخصٍ معَيَّنٍ لرئاسة الجمعية خلفًا للشيخ ابن باديس، نظرًا لما يتمتع به من مرونة وبُعد نظر، وستجدون من السلطات كل عون ومساعدة"(4). ولكن إخوان الوفاء عزموا وصمموا أن ليس للجمعية من دون الإبراهيمي رئيس، وأنه أحق بها وأهلها، فانتخبوه- وهو غائب- لرئاستها، وقدَّموه- وهو المغضوب عليه من فرنسا- لقيادتهم. إن مثَل الرجل العظيم كَمَثَل المغناطيس، هذا تنجذب إليه المعادن لقوة جاذبيته، وذاك يلتف حوله الرجال الكُمَّلُ لقوة شخصيته، وعلو همته، وكمال مروءته.
إن من آيات الله التي أراها الناس في هذه الجمعية أن رئيسَيْها الأول والثاني اصطفاهما إخوانهما لرئاستها من غير أن يسعيا إليها، واختاروهما لقيادتهم وهما غائبان، في الوقت الذي كان أعضاء الأحزاب والجمعيات الأخرى يصطرعون على رئاسة أحزابهم وجمعياتهم، ويكيد بعضهم لبعض، بل وبقتل بعضهم بعضًا لَهْثًا وراء رئاسة أو تشبُّثًا بها. إن العظيم الحق هو من تطلبه الرئاسة، ويقدمها إليه الخِيَرةُ من الرجال.
وهنا ملاحظة ينبغي الإشارة إليها لما لها من دلالة، وهي أن الفرنسيين لم يحاولوا فرض رئيس على حزب أو جمعية، أو إبعاد شخص عن رئاسة حزب أو جمعية إلا بالنسبة لجمعية العلماء؟ فقد ساوم مِيرَانْتْ- مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة- الإمام ابنَ باديس على ترك الجمعية (5)، وضغطوا لإبعاد الإمام الإبراهيمي عن رئاستها. كل ذلك لأنهم كانوا مستيقنين
3) انظر مقال "الرجال أعمال" في الجزء الئالث من هذه الآئار.
4) الشيخ محمد خير الدين: مذكرات، الجزائر، مطبعة دحلب، 1985، ج1، [ص:345]. ولم يذكر الشيخ اسم الشخص المُعَيَّن الذي اقترحه مَبْعُوثا الوالي العام. وانظر أيضًا الشيخ عبد الرحمن شيبان: في الذكرى المائوية لميلاد الشيخ الإبراهيمي، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3827، لندن في 21/ 5/ 1989.
5) يذكر تلاميذ الإمام ابن باديس أن ميرانت استدعاه، وعندما حضر وجد والده عند ميرانت الذي قال للإمام: إن والدك معرَّضٌ للإفلاس ولا ينقذه منه إلا فرنسا، وشرطها لإنقاذ أبيك أن تتخلى عن الجمعية. انظر أنور الجندي: الفكر والثقافة المعاصرة في شمال افرلقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965، [ص:57]. وقد رفض الإمام هذه المساومة رغم حراجة موقفه أمام والده
…
وعندها قال الإمام: اليوم- فقط- أدركت سِرَّ يُتْم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إشارة إلى موقفه مع أبي طالب، إذ لو كان والده في مكان عمه لكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر حرجًا
…
"أن العلماء يمثلون أكبر الخطر على الفكرة الفرنسية في الجزائر"(6)، وكانوا مدركين أن الأحزاب الأخرى- وإن رفع بعضها شعار الاستقلال السياسي- كانت تتبنى أفكار فرنسا الحضارية، وتستلهم قِيَمَها المادية، وتستوحي مبادئها اللائكية، وإذا كان بعض مناضلي تلك الأحزاب تبنوا القيم الحضارية للجزائر من دين ولغة وأخلاق فقد تبنوها عن عاطفة، لأنهم كانوا يجهلونها، ومن جهل شيئًا عاداه، وإن لم يعاده لم يخلص في خدمته والتمكين له، وإن أخلص في خدمته ضره- بجهله- من حيث يريد نفعه
…
وقد دلت الشواهد والتجارب على ذلك
…
وهذا ما نفسر به دفاع بعض الفرنسيين عن الحركة الوطنية الجزائرية في المجال السياسي، ونضالهم معها قبل إعلان الثورة وفي أثنائها، في حين لم نجد فرنسيًا واحدًا دافع ويدافع عن مبادئ جمعية العلماء إلا أن يكون ممن شرح الله صدورهم للإسلام، وأحسن مثال على هذا ذلك الصمت الذي قابل به الفرنسيون- أحزابًا، ومنظمات إنسانية، ونقابات، وشخصيات، وصحافة- عملية اختطاف الشيخ العربي التبسي- نائب رئيس جمعية العلماء- سنة 1957، الذي لم يظهر له أثر إلى يوم الناس هذا، وهذه هي الحقيقة التي أكدها القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
لبِثَ الإمام الإبراهيمي في المنفى بِآفْلُو ثلاث حِجَج، وكانت السلطات الفرنسية في أثنائها تراقبه مراقبة صارمة، حيث "منع (حاكم البلدة الفرنسي) الناس من الاتصال به، وبَثَّ بواسطة عملائه في الجمهور أن هذا الرجل عدو لأولياء الله الصالحين، وهو يحاربهم، ولا يعترف بهم ولا بفضلهم وكرامتهم
…
وأمر هذا الحاكم من جهة أخرى الموظفين والأعيان بأن يقاطعوه تمامًا لأنه عدو لفرنسا ( Anti-Français)) (7)، ولكن ذلك كله "لم يمنعه من متابعة نشاطه الإصلاحي بصورة خفية"(8)، وتحت هذه المراقبة الصارمة كان الإمام يسَيِّر شؤون الجمعية- بقدر ما تسمح به ظروف الحرب- عن طريق زواره من آله وصحبه، الذين تأذن لهم السلطات الفرنسية بزيارته.
ولم يشغله همه الخاص عن التفكير في همِّ وطنه ومعاناته، وكان يتمنى أن تأتيه الأخبار بما يثلج صدره، وهو قيام ثورة تعصف بالوجود الفرنسي في الجزائر، فقد سأل ذات مرة
6) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية ط 3، الجزائر، م. و. ك. 1986، ج 3 ص 151، وهو ينقل عن تقرير أمْني فرنسي بعنوان:"الجزائر في نصف قرن".
7) أحمد قصيبة: الشيخ الإبراهيمي في منفاه
…
مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1983، صص 278 - 279.
8) أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
…
الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1983، ص 134، وهو ينقل عن تقرير فرنسي رقمه 31، وتاريخه 4 مارس 1941، وهو موجود بمصلحة الوثائق بولاية وهران، بالجزائر.
الأستاذ أحمد قصيبة: "هل بلغك أو سمعت شيئًا؟ هذا هو الوقت الذي يجب أن يستغله الشعب الجزائري"(9)، كما كان يفكر في بعث نشاط الجمعية بعد الحرب، ويفكر في الرجال الذين يدفع بهم إلى الصفوف المتقدمة في المعركة الحضارية الشرسة، التي تخوضها الجمعية لإفشال المشروع الفرنسي في الجزائر، ومن ذلك قوله للأستاذ أحمد قصيبة:"إن قدر الله أن نستأنف حركتنا فإنني لن أتركك بالأغواط"(1).
استغل الإمام الإبراهيمي ذلك الفراغ الذي فرضه عليه العدو، فسلَّى نفسه بكتابات كثيرة، تدل بقيتها على قيمتها، وكان يسلِّم ما يكتبه إلى تلامذته الذين كانوا يزورونه، وللأسف الشديد فإن أكثر هذه الكتابات قد ضاع، فأما ما استعاده الإمام من هذه الكتابات فقد "سطا على بعضها الجيش الفرنسي في إحدى مداهماته لبيت الشيخ فمزقها شر ممزق"(11)، وأما ما بقي عند تلامذته فقد أحرق كثير منهم أوراقهم- في أثناء حرب التحرير مخافة بطش الفرنسيين- أو خزنوها تحت الأرض (12) مما عرضها للتلف.
ومن أهم ما كتبه الإمام في هذه الفترة عدة فصول من كتاب عن أخيه الإمام عبد الحميد بن باديس، فقد روى فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان أنه اطلع على رسالة بعثها الإمام الإبراهيمي من منفاه إلى الشيخ بلقاسم بن رواق- المشرف على الحركة الإصلاحية تعليمًا وإرشادًا في مدينة بَلْعبّاس- يخبره فيها بانكبابه على تأليف ذلك الكتاب. ولا شك أن خسارة العلم والتاريخ بضياع هذا الكتاب لا تعوَّض، لأنه ليس هناك من هو أعرف بالإمام ابن باديس، وأقدر على الكتابة عنه مثل أخيه الإمام الإبراهيمي.
وقد ذكر الأستاذ محمد الغسيري أن الإمام الإبراهيمي - عندما كان في المنفى- "وضع برنامجًا حافلاً للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمنه أصولاً عظيمة من علم التربية، وقد سألناه أن يُجَرِّدَ لنا منه فصولاً عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية، ففعل وسلَّمه لنا لنطبعه
…
(و) عاقنا عن طبعه عدم استعداد مطابعنا لطبع مثله
…
وها نحن نتعجل بنشر المقدمة التي صدره بها استاذنا الجليل" (13). ولا نعلم- لحد الآن- إن كان هذا البرنامج ما يزال ضمن أوراق الأستاذ محمد الغسيري- رحمه الله أم لعبت به يد الأيام كغيره من آثار الإمام.
9) أحمد قصيبة، مرجع سابق، صص 283 - 284.
10) نفس المرجع، [ص:284].
11) عبد الرحمن شيبان: في الذكرى المائوية لميلاد الشيخ الإبراهيمي، جريدة الشرق الأوسط، عدد 3827، لندن في 21 - 5 - 1989.
12) أحمد قصيبة
…
مجلة الثقافة عدد 87، [ص:290].
13) انظر مقدمة مقال: "مرشد المعلمين" في هذا الجزء من الآثار.
أما القليل من إنتاج الإمام في مرحلة آفلو؟ الذي نجا من الضياع فهو موجود في هذا الجزء، وهو ذو طابع أدبي، ومنه رواية الثلاثة، التي يقول عنها الشيخ محمد الصالح رمضان: "وأما رواية الثلاثة الشعرية الهزلية النقدية فقد نسخ منها الشيخ الجيلالي الفارسي فصلين فقط وسحبها
…
وهي غير تامة إذ ينقصها الفصل الثالث والأخير" (14).
في أوائل سنة 1943 - وبعد نزول قوات الحلفاء في الجزائر في نوفمبر 1942 - حدث نوع من الانفراج السياسي، فعاد الإمام الإبراهيمي من المنفى، ولكنه وُضِع تحت المراقبة الإدارية حتى انتهاء الحرب، وفي تلك السنة- 1943 - تمكنت الجمعية بقيادة الإمام الإبراهيمي من تشييد سبعين مدرسة (15)، وهو عدد ضخم، نظرًا لظروف الحرب المقيدة للحركة، وللمسغبة التي كان يعانيها الشعب الجزائري.
ومن أهم مواقفه في هذه الفترة ردُّه على ما تقدم به الجنرال دوغول في شهر مارس 1944 من إصلاحات، وأهمها ما سُمِّي آنذاك بحق المواطنة الفرنسية للجزائريين، الذي "ندد به الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء، على أنه خطوة نحو إدماج لا يرضى به الشعب المسلم بأي ثمن"(16).
كما أسهم الإمام مساهمة كبيرة في لَمّ شمل السياسيين الجزائريين، لتكوين هيئة سياسة تجادل عن حقوق الشعب الجزائري، حيث "تَمَّ بسعيه- وسعي إخوانه العلماء- في وقت لا يقل حرجًا وضيقًا عن وقتنا هذا جمع الأحزاب في هيئة أحباب البيان"(17)، التي ضمت جميع القوى الوطنية في الجزائر باستثناء الشيوعيين.
إذا كانت مؤامرة فرنسا لإفشال المؤتمر الإسلامي سنة 1936 قد استهدفت أفرادًا، فإن مؤامرتها لإفشال تجمع "أحباب البيان" قد استهدفت الشعب الجزائري كله، فكانت حوادث 8 مايو 1945، و"هي حوادث محكمة التدبير، مبيتة، مجمع عليها من جامعة المعمرين بإملاء رجال الحكومة أو مُمَالَأتِهِم"(18).
لقد قُتل في هذه الحوادث- في بضعة أيام- أكثر من خمسة وأربعين ألف جزائري، "ودمَّرت الطائرات (بأمر من وزير الطيران شارل تيون الشيوعي) 44 مَشْتَى (قرية) "(19)، واعتقل
14) محمد العيد تَاوَرْتَه: نثر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ج 2، ملحق 2، وهي رسالة ماجستير غير منشورة.
15) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في الجزء الرابع من هذه الآثار.
16) شارل أندري جوليان: افرلقيا الشمالية تسير
…
[ص:326].
17) انظر مقال "دعوة مكررة إلى الاتحاد" في الجزء الثالث من هذه الآثار.
18) انظر مقال "وَيْحَهم
…
أهي حملة حربية" في الجزء الثالث من هذه الآثار.
آلاف الجزائريين، و"كان الإبراهيمي على رأس القائمة"(20)، الذي سيق إلى السجن العسكري بمدينة الجزائر، حيث وضِع في زنزانة انفرادية تحت الأرض لمدة سبعين يومًا، لا يخرج منها إلا ربع ساعة في اليوم، ثم نُقل إلى قسنطينة ليوضع في زنزانة أخرى- في انتظار محاكمته- حتى ساءت حالته الصحية، فكان ينقل منها إلى المستشفى العسكري ويعاد إليها طيلة أحد عشر شهرًا، مما أدى إلى تدهور صحته، وإصابته بأمراض بقي يعاني منها إلى أن توفاه الله.
ومن أعمال فرنسا عقب حوادث 8 ماي 1945 سَنُّ قانون لا يوجد فيما عرف الناس من قوانين أكثر قسوة ووحشية منه، والغريب العجيب أن المؤرخين وشهود تلك الحوادث أهملوا الإشارة إلى هذا القانون رغم بشاعته، ولم يشِر إليه ويندد به- فيما نعلم- إلا الإمام الإبراهيمي، الذي ذكر أن فرنسا "سنَّتْ قانونًا مَتْنُه من وحي الرومان، وشرْحُه من فقه الإسبان يقضي بمنع أيَامَى القتلى من التزوج، وبعدم قسم المواريث المتخلفة عنهم، وبعدم السماح لأهل البر والإحسان بتبني يتاماهم"(21).
أُعلن العفو العام! وأُفرِج عن المساجين، فخرج الإمام الإبراهيمي من السجن يوم 16 مارس 1946، وقبل أن يستعيد جزءًا من قوته، ويسترد شيئًا من صحته عاود النشاط بعزيمة أمضى، وإرادة أقوى، فملأ بنشاطه المكان والزمان، وجاب الجزائر كلها: سهلها وحَزْنَها، تلَّها وصحراءها، حواضرها وبواديها، يؤسس المدارس، ويشيد المساجد، ويفتح النوادي، ويصلح بين الناس، ويؤلف بين القلوب، ويشحذ النفوس، وبفضل ذلك النشاط الدائب والعمل الهادف صارت جمعية العلماء تمثل ضمير الأمة، وحافظة شخصيتها، وحامية كيانها، ومُحْيِيَةَ مقوماتها، دمالى هذه المعاني أشار الشاعر مفدي زكريا- أحد قادة حزب الشعب الجزائري-:
جمعية العلماء المسلمين ومَنْ
…
للمسلمين سواكِ اليوم منشود؟
خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي
…
بالعبء، مُذْ فرَّ دجال ورعديد
سيروا، ولا تهنوا، فالشعب يرقبكم
…
وجاهدوا، فَلِواءُ النصر معقود
أمانة الشعب، قد شُدَّت بعاتقكم
…
فما لغيركمُ، تُلقَى المقاليد (22)
وأصبح الإمام الإبراهيمي زعيمًا لهذه الأمة، تُلقي السمع لقوله، وتسترشد برأيه، وتهتدي- فيما تأتي وتترك- بفكره، وتنزل في قضاياها على حُكمِه، وتتخذه أسوة حسنة لها
20) عبد الرحمن بن العقون: الإبراهيمي فقيد العروبة والإسلام، مجلة الثقافة، عدد 87، [ص:406].
21) انظر مقال "وَيْحَهم
…
أهي حملة حربية؟ " في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالتبني هنا هو الكفالة.
22) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، [ص:268]، والقصيدة بتاريخ 25 أكتوبر 1953.