الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكبر زلّة تقترفها لجنة الأهلة *
لم تتحرّك هذه اللجنة إلا بعد أن صدر العدد 157 من "البصائر" وفيه كلمة عن رؤية هلال رمضان، وما قرّرته جمعية العلماء في قضية الصوم، وقضية الصوم هذه هي (العمل) الذي تحتكره اللجنة، وتعدّه من حقوقها، أو من خصائصها على الأقل، بحكم القانون الجمهوري الفرنساوي، لا بحكم الإسلام، ولا بحكم جماعة المسلمين.
ولكن رئيس هذه اللجنة التي تدّعي استحقاق هذا الحق، لم يتحرّك لإثبات حقه إلا حين بقي بيننا وبين رمضان ثلاثة أيام، ولولا أننا (افتتنا على حقه) وأزعجناه بما كتبنا لاسترسل في سكونه وسكوته إلى الساعة التاسعة من ليلة الشك، كما تسمّيها اللجنة لا كما يعرفها الفقه، وفيها يجمع الرَّئِيسُ لجنته الاجتماع التقليدي الذي ينتهي بانتهاء الساعة العاشرة من تلك الليلة، والنتيجة دائمًا هي هي: توفد اللجنة الشيخين المفتيين (1) إلى راديو الجزائر الموضوع تحت تصرفها، ليذيعا على مستمعيه جملتين تقليديتين، إحداهما: لم يثبت رمضان، والأخرى: لا تسمعوا للمشوّشين، والمشوّشون- بالطبع- هم هذه "الأمّة" التي تسمّى جمعية العلماء.
هذا هو التقليد المتّبع في هذه اللجنة، وإن خالفته هذه السنة ببقائها حصة زائدة في الانتظار تمويهًا وتضليلًا، ولعلّ هذه المخالفة من آثار إزعاجنا لها، فمعذرة- أيتها اللجنة- فإن الأعمال بالنياّت، وما نوينا قط الإساءة ولا الإزعاج، وما نتمنى لك إلا النوم الهادئ والأحلام اللذيذة.
…
* "البصائر"، العدد 160، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 18 جوان 1951م.
1) الشيخين المفتيين: أي المفتي المالكي والمفتي الحنفي.
كانت حركة رئيس اللجنة في هذه المرّة بمعنى آخر من معاني الحركة في اللغة وهو الاضطراب وعدم الاستقرار على رأي، فقد أعلن في ثلاثة أيام إعلانات متناقضة في قضية واحدة: أعلن في الجرائد الفرنسية أن شعبان ثبت بالاثنين، بعد أن لم يبق من شعبان إلا ثلاثة أيام، فأين كان حضرة الرَّئِيسُ؟ أم أين كان شهر شعبان؟ أم انقطعت الصلة بين الموجود والزمان؟ أم أن حضرة الرَّئِيسُ ليس بـ"موجود"؟ وأذاع أنه سيتصل بالمغرب وتونس، وأنه سيعمل برؤية الأقطار الإسلامية، ثم أعلن في الجرائد أنه لا يعتمد إلا على رؤية القطر الجزائري على أيدي قضاته
…
وأنه سيصعد إلى "بوزريعة" ليستقبل هلال رمضان بنفسه.
وذهب الفضوليون مذاهب شتى في اقدام رئيس اللجنة على ذكر الأقطار الإسلامية فقال قوم: إنها شجاعة، وقال قوم: إنها رجوع إلى الحق، وقال العقلاء والعارفون: إنها نزوة عابرة، وفلتة عارضة، اعترت صاحبها في فترة الوحي، فلما هبط الوحي نسخها بما يناقضها، والوحي الحقيقي الذي لا يلقى فيه الشيطان، هو ما جاء في البلاغ الأخير، وفحواه:(إن رمضان الجزائري، لا يثبت إلا برؤية جزائرية يعدلها قضاة جزائريون)، وإنها لنزعة "استقلالية" تشكر عليها اللجنة ورئيسها، لو بقي في الجزائر من يشكر الإحسان، ولو رزق الله الوطن بمن يفهم هذه المنازع الدقيقة لأنزل أصحابها منزلة الأئمة لدعاة الاستقلال، لأن مغزى هذه النزعة بدء الاستقلال من السماء
…
ونسخ كلمة "فصاعدًا" المبتذلة بكلمة "فهابطًا"
…
ولكن أين من يفهم؟
يُستنتج من هذا الاضطراب المتدلّي أنه لو حبس رمضان ركائبه يومين آخرين واتسع الوقت لبلاغ آخر لكان نصّه قريبًا من هذه الصورة: (تعلن لجنة الأهلة أنها لا تعتمد إلا على الرؤية التي تثبت في العاصمة وأحوازها المحدودة بالحراش شرقًا، وبوزريعة والأبيار غربًا، والمرسى شمالًا، والجنوب معروف، مع ملاحظة أن من رآه من البحر لا يُعدّ في حكم المرسى، وأن ابن عكنون لا يدخل في الأحواز).
يشهد لصدق هذه الصورة تتبّع أحوال هذه اللجنة وأعمالها، فكلها تدلّ على أنها لا صلة لها بالقطر ولا بقضاته، وأن همها كله منحصر في العاصمة، كأنها تريد أن تجعل منها دائرة نفوذ خاصة، أو ميدان تجربة لقوّتها، لذلك نراها تعتني بها كثيرًا، ولا تكتفي بإعلان رأيها في الصوم والإفطار في الراديو، بل يتفقد بعض أعضائها المقاهي والمجتمعات ليروا بأعينهم ثمرة نفوذهم، وقد شاهد الناس منهم يوم الثلاثاء (أول رمضان) ما يقضي بالعجب، وشاهدوا في ذلك اليوم إمامًا من أنصار اللجنة متنكرًا في هيئة "باش آغا"، وطالما التبس على الناس بذلك، وقد ظلّ جالسًا في مقهى بحي "العقيبة" ساعات وهو يحتسي القهوة أمام المفطرين والصائمين، وكأنه يحرس شعبان أن تنتهك حرماته
…
وإننا لا نعجب من هذا ما
دامت اللجنة من أدوات العاصمة، وما دامت تكميلًا لأجهزة لازمة للعاصمة، وتعميرًا لركن خال من "دار العجائب"(2) فيها.
إن السماجة التي لا يستسيغها ذوق هي اعتبار القطر الجزائري وحدة دينية بحدوده الجغرافية، وأسمج من هذا وأسخف، اعتباره وحدة (هلالية)، فإن أطرافه الشرقية هي أقرب إلى تونس منها إلى الجزائر، وكذلك يقال في الأطراف الغربية بالنسبة إلى فاس، ولا أسمج من هذين إلا اعتبار لجنة الأهلة للعاصمة وحدة (صومية) أو (إفطارية).
…
وثبت رمضان بالثلاثاء في مصر وتونس وبلغتنا أخبار الرؤية بالطرق الشرعية فعممناها بما نستطيع، وأصبحت عمالة قسنطينة على صوم، إلا شراذم من المكابرين لايصومون لله وإنما يتبعون أهواءهم ويعاكسون أهل الحق، وصام على أخبارنا معظم العمالة الوهرانية، ولم تتخلّف إلا طائفة من الجامدين، أو ممن لم يبلغهم الخبر، ثم ثبتت رؤية الهلال في معسكر وفي سيق، وعمّ الخبر بها في صباح الثلاثاء فأمسك كل من كان مفطرًا، وأعلنها مفتي وهران رسميًا فأمسك أصحاب الصوم الحكومي، وأصبح معظم العمالة الجزائرية صائمًا إلا من لم يبلغه الخبر، أو لم يفارقه الجمود، وبقيت العاصمة
…
وهي ميدان العراك ونقطة الاشتراك، في نظر اللجنة، وفي العاصمة خصائص، وفيها تيارات، وفيها الشطر الأول من هذا البيت: تسقط الطير حيث ينتثر الحب، وفيها مناخ القوافل التي ترد مثقلة، وتصدر مخفة، وفيها ملتقى أسباب الرغبة والرهبة، ومع ذلك فقد كان مركز الجمعية ومراكز الإصلاح خلايا نحل، أو قرى نمل. وما انصرف الناس حتى ثبت الصوم فبلغوا وعمّموا ما استطاعوا، وأصبح غالب سكان العاصمة صائمًا، ولم يفطر إلا المتساهلون المسترسلون في شهواتهم، يتخذون من بلاغ اللجنة في الراديو رخصة لأهوائهم، وحسب هذه اللجنة زللًا أن تكون قدوة لأصحاب الأهواء، وإننا لنعرف أن في هذا الجراد المنتشر في العاصمة، الذي نقله الاستعمار من الرقاع الخصيبة، إلى الرباع الجديبة، طوائف تكون دائمًا آخر من يصوم، وأول من يفطر، فلا تغترن اللجنة بأنهم أكلوا على ندائها، وشربوا على غنائها، ولا تغترن بأصحاب المقاهي وأصحاب المطابخ، فأولئك يعلمون من أمر هذه اللجنة ما يجهله كثير من الناس يعلمون أن البوليس السرّي والعلني من ورائها ومن أمامها، وأن كل من يخالف رأي اللجنة فقد خالف أمر الحكومة، وإنْ وافق أمر الله، وأن من وراء تلك المخالفة نزع الرخصة وانتحال الأسباب للتغريم، فهم مكرهون، في صورة مختارين.
2) دار العجائب: الاسم الذي يطلقه بعض الجزائريين على المتحف.
وأفعال العقلاء تصان عن العبث
…
فما الحكمة في تكدير راحة رئيس اللجنة ساعة أو ساعتين من العام؟ وما الحكمة في اجتماع اللجنة ساعة أو ساعتين من السنة؟ ولا ندري ماذا تنتظر في تلك الساعات؟ فإن كانت تنتظر أخبار العالم الإسلامي فهي قد أعلنت أنها مقطوعة الصلة به، ولا تعمل برؤيته، وإن كانت تنتظر الأخبار من داخل القطر، فهذا تعب ضائع، إِنَّ تسعين من المائة من قضاة القطر يكونون نائمين ملء عيونهم في تلك الساعة، أو منهمكين في أعمال ليلية حرّة، ولا يهمهم من أمر رمضان شيء، ولأجل هذه المعاني فيهم انقطعت صلة الجمهور بهم إلا في الخصومات الضرورية، وكوّنت العوائد السيئة بين الفريقين نفرة، فأصبح الناس يرون الهلال ولا يشهدون بالرؤية أمام القاضي، وقد يراه جار المحكمة أو من تجمعهم بالقاضي بلدة، ولكن لا يبلغون ولا يشهدون. ويرجع بعض السبب إلى أنهم لم يروا منهم العناية بالشؤون الدينية، ومنهم من لا يفتح المحكمة ليلًا لأن ذلك مخالف للقانون، ومنهم من لا يشارك المسلمين في مساجدهم وشعائرهم، ومنهم من يقارف- على أعين الناس- أمورًا منكرة في الدين قادحة في المنصب، منافية للشرف.
…
أسباب بعضها من بعضها، تراكمت فأثمرت هذه الحالة التي نأسف لها، ونحمل القضاة تبعتها، وإن كنا نعتقد أن البريء منهم أخذ بذنب المجرم، ولكن المسلم الفطري له منطق مخصوص، ولا لوم عليه إذا اعتقد أن القاضي الذي لا يشارك المسلمين في صلاتهم، لا يشاركهم في صومهم، وهو- لذلك- لا يكون أهلًا لتعديل الشهادة وهو مجروح.
…
وهل أتى لجنة الأهلة أن هلال رمضان رُئِي في (معسكر) وفي (سيق) وأن مفتي وهران عمل بتلك الرؤية؟ ونسأل اللجنة- في إحراج وإزعاج- لو بلغك خبر الرؤية نهارًا مثل يوم الثلاثاء بدء رمضاننا هذا، فهل تثبتينه، وتعممين الخبر به، وتسعين إلى الراديو لإذاعته، ليمسك الناس، كما هو واجب شرعًا؟ أم تسكتين وتصرّين على الإثم؟
أجابت اللجنة أو لم تجب فإننا على يقين من أن الأخبار تبلغها فتسكت حياء من الشريك أو "المعلم"، لأن الرأي الذي أعطته متفق عليه مبتوت فيه من قبل أن يخلق الهلال، ولا تستطيع أن تخرق الإجماع وحدها، وآية الليل عند هذه اللجنة تمحو آيه النهار
…
***
وبورك هلال هذا الشهر في الأهلة، لكأنه كان جبارًا عنيدًا، لم يعترف به الجاحدون فأراهم نفسه في الليلة الثانية ومعه شهادة الميلاد. فما قول لجنة الأهلة فيه؟
ألم يخجلها بجماله ونوره وترعرعه؟ أما العجائز فقد رأينه وأكبرنه وحكمن أنه ابن ثلاث، وهن أعرف بالمواليد
…
ولَعَنَّ من كان سببًا في إفطارهن، وأما اللجنة فستقول: إن الكبر والارتفاع لا عبرة بهما
…
ومن أين لها أن تعلم أن ما زاد على نصف السبع فهو من ليلة ماضية؟
…
...
والزلّة التي لا تغفر لهذه اللجنة، هي أنها تسبّبت لطائفة من المسلمين في انتهاك حرمة رمضان بالإفطار في يوم من أيامه الثابتة التي لا ينازعه فيها شعبان، بعذر أقبح من الذنب، وهو أن الرؤية خارجية، ثم ثبتت الرؤية الداخلية فلم تخبر الناس بها ليمسكوا، ورضيت لهم أن يتمادوا على الإفطار، وباءت بآثامهم جميعًا.
إن هذا لأعظم غشّ للمسلمين في ركن من أركان الدين، فليتنبه المسلمون وليحذروا هؤلاء الغشاشين المتسترين بالألقاب، وليعلموا أنهم مسخَّرون لهذا الغش، مأجورون بأموال المسلمين، على هدم الإسلام، والتفرقة بين المسلمين.