الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموعة الأولى وهي مقدمة السورة:
وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلَاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
التفسير:
الرَّحْمنُ الله المتصف ببالغ الرحمة
عَلَّمَ الْقُرْآنَ الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فيسر حفظه وفهمه على من رحمه، وقدمه في الذكر لأنه أعظم نعمه على هذا الإنسان. قال النسفي: (عدد الله عز وجل آلاءه، فأراد أن يقدم أول شئ ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وصنوف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الصحيح الفصيح المعرب عما في الضمير، والرحمن مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة،
وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التمديد كما تقول زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ما تنكر من إحسانه).
خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال الحسن البصري: يعني النطق، ورجح ابن كثير ذلك فقال:(لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها). أقول: وفي كتابنا: (الرسول صلى الله عليه وسلم بينا في مقدمته أن الإنسان مخلوق متفرد، ومن جملة تفرده تفرده بالبيان، فكل الحيوانات لا تخرج إلا أصواتا مبهمة، ومن يخرج حرفا كالببغاء يخرجه محاكاة، أما الإنسان فإنه يخرج أصواتا مبهمة، ويخرج ثمانية وعشرين حرفا تتركب منها مليارات المليارات من الكلمات في كل لغات العالم، والملاحظ هاهنا أن خلق الإنسان ذكره الله عز وجل بين تعليمين: تعليمه القرآن، وتعليمه البيان، وفي ذلك إشارة إلى أن ميزة الإنسان الأساسية استعداده للعلم، وتقديمه ذكر القرآن يفيد أن أعظم ما يتعلمه الإنسان القرآن، والتصريح بخلق الله الإنسان رد على من يزعم أن إنساننا الحالي لم يكن بخلق الله المباشر. وبعد ما مر تبدأ السورة تعرض علينا تتمة آلاء الله على الإنسان
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب معلوم، وتقدير سوي، وفي ذلك منافع للناس لا تحصى: منها أنه لولا ذلك لما أمكنت الحياة أصلا، ومنها أن يعلم الإنسان- بواسطة ذلك- عدد السنين والحساب. قال ابن كثير:(أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب)
وَالنَّجْمُ أي: النبات الذي لا ساق له وَالشَّجَرُ النبات الذي له ساق يَسْجُدانِ قال النسفي: (أي ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده
…
) وفي ذكر أن الشمس والقمر بحسبان، وذكر سجود النبات لله تعالى تناسب وتقارب، قال النسفي:(وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. وإن السماء والأرض لا تزالان قرينتين، وإن جري الشمس والقمر بحسبان، من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر). أقول: وفي المن على البشر بسجود النبات لله وانقياده له تبيان أن لهذا الانقياد علاقته بانتظام حياة الإنسان؛ إذ لولا انتظام حياة النبات على سنن واحدة لما أمكنت حياة اقتصادية منتظمة في الحياة البشرية ولا غيرها
وَالسَّماءَ رَفَعَها أي: جعلها مرفوعة عن الأرض، وفي ذلك إبعاد للخطر عن الأرض وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال ابن كثير: يعني العدل، وقال
النسفي: (أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها
…
وقال: أي خلقه موضوعا على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وعطائهم) أقول: وفي ذكر وضع الميزان بعد ذكر رفع السماء إشارة إلى أن من جملة الموازين، موازين اكتشاف أبعاد السماء، والموازين التي يزن بها الإنسان أبعاد الزمان والمكان، وفي ذكر الميزان في هذا السياق إشارة إلى أن الميزان من نعم الله الجليلة التي تعدل المنن الكبرى الأخرى على البشرية، وفي هذا السياق يأتي الأمر التكليفي الوحيد في هذه السورة
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي: ألا تتجاوزوا العدل في الميزان. قال ابن كثير: أي خلق السموات والأرض بالعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي: وأقيموا وزنكم بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي: ولا تنقصوه، قال ابن كثير: أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط. قال النسفي: (أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي: للخلق أي جعلها بحيث تلائمهم وتناسبهم قال ابن كثير: (أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات؛ لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها)
وقد فسر الوضع للأنام بالآيتين التاليتين: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يتفكه به من فواكه مختلفة الألوان والطعوم والروائح وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الأكمام هي أوعية الثمر، أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وغير ذلك، قال النسفي:(وكله (أي: النخل) منتفع به، كما ينتفع بالمكموم من ثمره، وجماره، وجذوعه) قال ابن كثير:(أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطبا ويابسا) وكما جعل في الأرض الفاكهة والنخل، جعل فيها الحب والريحان للطعام والجمال
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ العصف: هو ورق الزرع أو التبن وَالرَّيْحانُ الذي يشم أي فجعل لكم ما تتفكهون به وما تقتاتون وما تتلذذون بمنظره ورائحته، وذلك كله من مظاهر جعل الأرض موضوعة للأنام
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما أي: نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تُكَذِّبانِ فلا تعبدان ولا تتقيان، قال ابن كثير:
(أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها).
أقول: وإذ كان الأمر كذلك فعليكم أن تشكروا خالقها وموجدها، وذلك بعبادته وتقواه.