الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: كالطين المطبوخ بالنار، وهو الخزف، قال النسفي: ولا اختلاف في هذا وفي قوله: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ*، مِنْ طِينٍ لازِبٍ، مِنْ تُرابٍ* لاتفاقها في المعنى؛ لأنه يفيد أنه خلقه من تراب، ثم جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. أقول: وفي ذكر خلقه من صلصال نفي صريح لزعم من زعم أن جنس الإنسان الحالي قد تطور عن خلق آخر
وَخَلَقَ الْجَانَّ أي: أبا الجان مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ المارج من النار هو طرف لهبها. قال النسفي: هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما يا معشر الجن والإنس تُكَذِّبانِ فلا تشكران فتعبدان وتتقيان وهو الخالق لكما.
كلمة في السياق:
بعد أن أجمل في أول السورة خلق الإنسان، ذكر هنا بالتفصيل من أي شئ خلق الإنسان والجان، مذكرا بنعمته في ذلك، منكرا على من يكذب نعمه ولا يعمل بما تقتضيه، وصلة ذلك بالمحور واضحة، فالمحور يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهاهنا ذكر بدء الخلق، مع الإنكار على من يجحد النعم؛ فلا يعمل بما تقتضيه من شكر، والشكر عبادة وتقوى وتوحيد.
…
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ في كل لحظة يوجد شروق وغروب، فحين تغرب الشمس على إنسان تشرق على آخر، ففي لحظة واحدة يكون شروق وغروب، ومن ثم
تحدث الله عز وجل عن أنه رب المشارق والمغارب، وتحدث عن أنه رب المشرق والمغرب، وهاهنا ذكر أنه رب المشرقين ورب المغربين، لأن الإنسان يستطيع أن يدرك تلقائيا مشرقين ومغربين، فحيث ما تشرق الشمس عليه يكون غروب على غيره، وحيث ما تغرب الشمس عنه يكون شروق على غيره وغروب عليه، والتذكير بأنه رب المشرقين ورب المغربين تذكير بنعمة الليل والنهار اللذين هما من أجل النعم.
قال ابن كثير: ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا الله وتتقياه
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسلهما قال ابن كثير: والمراد بقوله البحرين: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. أقول: وفي قوله تعالى: مَرَجَ يوجد معنى الجعل مع الإرسال، ومن ثم قال: يَلْتَقِيانِ أي: يلتقي البحر المالح
بالبحر العذب، وكأن مجموع المياه العذبة في العالم تشكل بحرا، وهذا البحر مرجعه في النهاية إلى البحر الملح
بَيْنَهُما أي: بين البحر العذب والملح بَرْزَخٌ أي:
حاجز لا يَبْغِيانِ أي لا يتجاوزان حديهما، قال ابن كثير: (أي وجعل بينهما برزخا وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه، أقول: ولعل الحاجز بينهما هو عالم الأسباب الذي يجعل ماء البحر يتبخر وحده بلا ملح، وحيلولة اليابسة دون امتداد ماء البحر، ووجود قوانين المد والجزر التي لها صلة بمكان القمر من مجموع الأرض، فالبحران يلتقيان في حال، وبينهما برزخ في حال، وفي ذلك كله من المصالح لخلق الله الكثير، فلو كان البحر العذب لا يلتقي مع البحر المالح لجف المالح على المدى البعيد، ولأنتن البحر العذب وغمر اليابسة في العالم، ولتعذرت الحياة على الأرض،
ومن ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا،
ثم حدثنا تعالى عن نعمة أخرى من نعمه في البحرين فقال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي: يخرج من مجموعهما اللؤلؤ والمرجان، واللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: إما صغار الدر، وإما نوع آخر من الجواهر أحمر اللون. قال النسفي:
(وإنما قال منهما وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشئ الواحد جاز أن يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر، ولكن من بعضه، وتقول:
خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله). وفي ذكر اللؤلؤ والمرجان اللذين لهما علاقة بقضية الزينة والجمال لفت نظر إلى دقائق من النعم الجمالية، أودعها الله في هذا الكون، ليرينا تكامل النعم علينا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران فتعبدان وتتقيان،
ثم ذكر نعمة أخرى على الإنسان مرتبطة بالبحار فقال: وَلَهُ الْجَوارِ يعني: السفن التي تجري الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ أي: المصنوعات في البحر كَالْأَعْلامِ أي: كالجبال الطويلة في كبرها، وفي هذه الآية أكثر من معجزة قرآنية سنراها في الفوائد، والآية تذكر بتسخير الله الأشياء للإنسان، حتى استطاع أن يصنع منها مثل هذه السفن العظيمة التي تخدم مصالحه الكبيرة في هذا العالم، من نقل وانتقال وجلب
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: كل من على الأرض من الأحياء ميت، وليس المراد بالفناء الانعدام بالكلية كما فهمه بعض الجهلة
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ أي:
ذو العظمة والسلطان وَالْإِكْرامِ أي: وذو الإكرام وذو الإحسان. قال
ابن كثير: (نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة أنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف) وقد فسر ابن عباس الجلال والإكرام بالعظمة والكبرياء، وفي الفناء نعم كثيرة. قال النسفي:(النعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم والسرور). أقول: ولولا الموت لتعذرت الحياة، فلو أن ذبابتين اثنتين تتوالدان بلا موت خلال خمس سنوات لشكلتا طبقة من الذباب حول الكرة الأرضية سمكها خمس سنتيمتر.
قال ابن كثير: (ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا).
…
في ذكر خلق الإنسان والجان في هذه المجموعة صلة بالمحور في قوله تعالى:
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وفي ذكر المشارق والمغارب، والبحرين:
العذب والمالح، واللؤلؤ والمرجان، والسفن والموت، صلة بالمحور في قوله تعالى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً
…
فكل هذه الأشياء لها صلة بكون الأرض فراشا وطيئا للإنسان، فالصلة واضحة بين ما مر معنا من المجموعة، وبين ما ذكرنا من محور
السورة ثم قال تعالى:
…
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال النسفي: (أي كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي: كل وقت وحين يحدث أمورا، أو يجدد أحوالا. قال ابن كثير: (وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن
…
). أقول: فالآية تدل على افتقار خلقه إليه، وعلى إعطائه لخلقه، وإمداده لهم، وذلك من إنعامه،
ومن ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا.
…
في آخر آيتي المحور ورد قوله تعالى بعد أن عدد نعمه: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
…
تصريح بأن الخلق كلهم عند الاحتياج إليه موحدون، فصلة ذلك بمحور السورة واضحة، ومن ثم فإنكاره جل جلاله على من يكذب من الإنس والجن بعد ذكره سؤال الخلق كلهم له إنكار على شرك من أشرك، وعلى من لم يعبده ويتقه، وبعد أن عرض الله عز وجل آلاءه التي تقتضي توحيده وعبادته وشكره، وأنكر وعجب ممن يكذب بها فلا يعمل بما تقتضيه تبدأ السورة بالإنذار، ثم تثني بالتبشير، تبدأ بالترهيب أولا، ثم بالترغيب، لتحمل الإنسان على التوحيد والعبادة والتقوى، أي: على الشكر. ويبدأ الترهيب بالإنذار فتنتهي به المجموعة الثانية، ثم تأتي المجموعة الثالثة فترهب وترغب في أمر الآخرة فلنر تتمة المجموعة الثانية.
…
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي: أيها الإنس والجن. قال النسفي: (مستعار من قول الرجل لمن يتهدده سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، والمراد: التوفر على النكاية فيه، والانتقام منه). قال ابن كثير: قال الضحاك: هذا وعيد.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران ولا تعبدان ولا تتقيان، كأنه لا حساب ولا عقاب، ولا رب محاسب
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا أي: فاخرجوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي: لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان منا نعطيه لكم
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي: لهب مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي:
ودخان، وعن مجاهد أنه النحاس المعروف كمعدن فَلا تَنْتَصِرانِ إذا لم نعطكم سلطان النفوذ، ومن ثم نلاحظ أن رواد الفضاء في عصرنا يلاحظ في تركيب بذلاتهم وملابسهم الخارجية، وفي تركيب الغلاف الخارجي للمركبات الفضائية أن تكون قادرة على تحمل الشهب
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران من علمكم قضية النفوذ من أقطار السموات والأرض، ولنا عودة إلى هذه المعاني في الفوائد، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية في الآخرة، وليس الأمر كذلك، فالسياق لا يدل عليه، والآية كما أنها تدل على النفوذ المقيد فإنها تدل على العجز عن النفوذ المطلق، وفي ذلك تذكير للإنسان بعبوديته، ومحدوديته التي تقتضي منه الخضوع بالعبادة، والتقوى لله رب العالمين، ومن ثم كان المعنيان الأخيران فيهما طابع التهديد والوعيد، والتذكير