الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة، والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها. دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعظم من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا منها شئ جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل فتبارك الله أحسن الخالقين، وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف؛ لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام). أَفَلا تُبْصِرُونَ أي: أفلا تنظرون نظر من يعتبر
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي: في المطر؛ لأنه سبب الأقوات وَما تُوعَدُونَ قال النسفي:
أي: الجنة، فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقال: أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء، والتفسير الأول هو الذي اقتصر عليه ابن كثير.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ أي: الموعود لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي: مثل نطقكم، قال ابن كثير:(يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه فلا تشكوا فيه، كما أنكم لا تشكون في نطقكم حين تنطقون)، قال الألوسي في قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (أي مثل نطقكم، كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك، وهذا كقول الناس إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع).
كلمة في السياق:
1 -
إن فهم قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يتوقف عليه شئ كثير في فهم السياق الخاص والعام للسورة، لقد رأينا أن قتادة ذكر أن الخطاب في هذا النص للكافرين، وأن الضمير في كلمة (عنه) يعود إلى القرآن، وأن القول المختلف هو: في القرآن، وعلى هذا القول فإن السياق يقرر اختلاف الكافرين في القرآن، وانصرافهم عنه، وإذ يتقرر ذلك فإن الله عز وجل يبين استحقاق الكافرين المرتابين الجاهلين الغافلين للقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأما المتقون فإن لهم الجنات والعيون بسبب إحسانهم الموصوف في السورة.
وصلة ذلك بمحور السورة واضح، من حيث إن محور السورة هو قوله تعالى:
الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، إذ المجموعة تتحدث عن اضطراب قول الكافرين في القرآن، وانصرافهم عنه، وعن شكهم وعن غفلتهم وعن جهلهم، كما تحدثت عن تفصيلات في موضوع الصلاة والإنفاق، وما يستحق أصحاب ذلك عند الله، وأما صلة مقدمة السورة بهذه الفقرة فمن حيث إن المقدمة قررت مجئ اليوم الآخر، والفقرة الأولى بينت اختلاف الناس في القرآن الذي يتحدث عن اليوم الآخر، فانقسم الناس- كأثر عن ذلك- إلى قسمين: كافر وتقي، هذا ما جزاؤه؟ وهذا ما جزاؤه؟.
وواضح أن الربط بين المقدمة والفقرة الأولى كان على اتجاه قتادة في تفسير قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ في أن الضمير في (عنه) يعود إلى القرآن، أما النسفي فإنه يربط بين آيات الفقرة الأولى وآيات المقدمة بما يلي:
(أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد، ثم قال: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك). وعلى هذا القول فالفقرة من بدايتها تتحدث عن اليوم الآخر، واختلاف الناس فيه، وانصراف بعض الناس عنه، وما يستحقون بسبب ريبهم وشكهم وغفلتهم واستبعادهم وقوعه من عقاب، بينما المتقون المحسنون يستحقون الثواب، وإذ يتقرر ذلك فإن الله عز وجل يذكر المؤمنين بالآخرة بآياته التي يرونها في الأرض وفي الأنفس، مما يستدلون به على هذا اليوم الآخر، وبهذا تعرف صلة قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ
…
بما قبله من سياق السورة، وعلى هذا:
فالفقرة الأولى كالمقدمة في كونها تتحدث عن اليوم الآخر، وما للمؤمنين به العاملين له من أجر، وما على الكافرين به من وزر، وماذا في الكون والأنفس من آيات تدل على اليوم الآخر، وعلى هذا فالصلة بين ما مر من آيات السورة واضحة، والصلة بين السورة وبين محور السورة واضحة؛ فمحور السورة الذي يصف المتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تفصل فيه هذه الآيات، فقد فصلت الآيات في صفات المتقين، وبينت أن أهل اليقين بالآخرة يرون في الأرض وفي أنفسهم من الآيات الكثير الكثير.
هذان مذهبان في فهم آيات الفقرة الأولى، قد عرفناهما وعرفنا معهما صلة آياتها بمقدمة السورة وبمحورها، وعندي اتجاه آخر أعرضه فيما يلي:
2 -
إن من حمل قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ على اختلافهم في القرآن لا دليل له من السياق، لأن القرآن لم يذكر في السياق أصلا، ومن قال: إن القول المختلف هو في شأن اليوم الآخر فله وجهه؛ لأن المقدمة تتحدث عن اليوم الآخر، ولكن إرجاع الضمير في (عنه) إلى اليوم الآخر بعيد؛ لأن الظاهر أن الضمير يعود على القول المختلف، لا على اليوم الآخر المذكور في المقدمة، ولذلك لم يطمئن قلبي لهذين التفسيرين، ومن ثم فإنني أفهم الآيات على الشكل التالي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ أيها الكافرون لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي: متناقض مضطرب لأنكم على باطل، والباطل مضطرب متناقض، ولا يجمع الناس إلا الحق، والقرآن هو الحق أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يؤفك كأثر عن القول المختلف المضطرب من أفك، إن عقوبة التناقض والاضطراب في القول أن يصرف الله بعض الناس، ولكن يصرفهم عن أي شئ؟ هنا يبقى الإطلاق على إطلاقه أي: يصرفهم عن القرآن والإيمان، فصار المعنى: بسبب هذا القول المختلف: يصرف من صرف عن الحق في شأن القرآن واليوم الآخر، فإذا عرف ماذا يترتب على القول المختلف من انصراف عن الحق كله يأتي قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ* يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ* ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. فبين بهذه الآيات ما يستحقه المرتابون الغافلون المستبعدون لليوم الآخر، أي: الذين صفاتهم عكس صفات المتقين، فالمتقون كما وصفتهم أوائل سورة البقرة لا يرتابون في القرآن، ولا يرتابون في الغيب، ولا يرتابون في الوحي، ولا يرتابون في اليوم الآخر، وهؤلاء عكس ذلك تماما، فإذا اتضح ما لهؤلاء من عذاب، ذكر الله عز وجل المتقين المحسنين بما يعطينا زيادة تفصيل على أوصافهم في سورة البقرة، وبما يفسر فلاحهم فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ .... وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة وبسياق السورة واضح على ما ذكرناه، فإذا وصل السياق إلى ذلك يكون قد استقر في القلب والعقل أن الحال الصحيح هو حال المؤمنين المتقين المحسنين العاملين للآخرة الموقنين بها، ومن