الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قائمة، فههنا يرينا الله عز وجل حال الناس عند الرجوع إليه، وإذ كان الأمر عظيما، فإن السورة تختم بالأمر: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
2 -
قلنا إن محور سورة الواقعة آت في سياق الآيات الآمرة بالعبادة والتقوى والتوحيد، والتي بنت ذلك على أن الله هو الخالق، وأنه منزل القرآن، وأن له جنة أعدها للعاملين، وأن له نارا أعدها للكافرين، وقد فصلت سورة الواقعة في هذا فبرهنت على أن الله هو الخالق، وبرهنت على اليوم الآخر، وبرهنت على أن القرآن من عند الله، وإذا استقامت هذه الأصول فقد فصلت فيما أعده الله للكافرين والشاكرين في ابتداء السورة ونهايتها، مقيمة الحجة على الكافرين، ومدللة على صحة سير الشاكرين، كما أمرت السورة بتسبيح الله عز وجل، وهو نوع من أنواع العبادة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل هذا التسبيح في الركوع، كما سنرى في
الفوائد
، وفي ذلك تفصيل للأمر (اعبدوا) بتبيان بعض ما يدخل فيه.
3 -
يلاحظ أن سورة الواقعة انتهت بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وأن سورة الحديد الآتية بعدها تبدأ بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك من مظاهر ارتباط أواخر السور السابقة ببدايات السور اللاحقة، مع أن السورة اللاحقة كما سنرى بداية مجموعة جديدة من مجموعات المفصل.
الفوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال ابن كثير: (أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السدي: هم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار- عياذا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه عز وجل، وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم (أي: السابقون) سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ولهذا قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في
قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه، روى سفيان الثوري عن ابن عباس في قوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال: هي التي في سورة الملائكة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ. وقال ابن جريج عن ابن عباس: هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة، وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال:
أصنافا ثلاثة، وقال مجاهد: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً يعني: فرقا ثلاثة. وقال ميمون ابن مهران: أفواجا ثلاثة، وقال عبيد الله العتكي عن عمر بن الخطاب: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً اثنان في الجنة، وواحد في النار. وروى ابن أبي حاتم عن النعمان ابن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: الضرباء كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله وذلك بأن الله تعالى يقول: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال: هم الضرباء.
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ
…
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فقبض بيده قبضتين فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي» وروى الإمام أحمد- أيضا- عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟، قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» وقال محمد بن كعب وأبو حرزة يعقوب بن مجاهد وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هم الأنبياء عليهم السلام، وقال السدي: هم أهل عليين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي حاتم عن سفيان ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به. وروى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الذين صلوا إلى القبلتين. ورواه ابن جرير من حديث خارجة به، وقال الحسن وقتادة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي: من كل أمة، وقال الأوزاعي عن عثمان ابن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ثم قال
أولهم رواحا إلى المسجد، وأولهم خروجا في سبيل الله، وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا كما قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وقال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان، ولهذا قال تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة: يا رب جعلت لبني آدم الدنيا، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة، فقال: لا أفعل، فراجعوا ثلاثا فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ثم قرأ عبد الله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية ولفظه: فقال الله عز وجل: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان).
2 -
بمناسبة قوله تعالى عن السابقين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال ابن كثير: (وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين، فقيل:
المراد بالأولين: الأمم الماضية، وبالآخرين: هذه الأمة، هذا رواية عن مجاهد والحسن البصري رواها عنهما ابن أبي حاتم وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد، ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عن أبي هريرة قال:
لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني» ورواه الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة فذكره.
وقد روى من حديث جابر نحو هذا. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة ولله الحمد والمنة، وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر
الأمم والله أعلم، فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: من مصدر هذه الأمة وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي: من هذه الأمة. روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي بكر المزني قال: سمعت الحسن أتى على هذه الآية وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فقال:
أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: قرأ الحسن وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة، ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم، كل أمة بحسبها، ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» فهذا الحديث- بعد الحكم بصحة إسناده- محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني؛ ولكن العمدة الكبرى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض، ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك» والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها، وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها، ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وفي لفظ:«مع كل ألف سبعون ألفا- وفي آخر- مع كل واحد سبعون ألفا» وقد روى الحافظ أبو القاسم عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود، زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام» ).
3 -
بمناسبة قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ قال ابن كثير: (هذه
الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ويدل على ذلك حديث عكراش ابن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده عن عبد الله ابن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: «بعثتني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة، فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال: «من الرجل؟» قلت: عكراش بن ذؤيب، قال:«ارفع في النسب» فانتسبت له إلى مرة بن عبيد، وهذه صدقة مرة بن عبيد، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«هذه إبل قومي هذه صدقات قومي» ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة، وتضم إليها، ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال:
«هل من طعام؟ فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر، فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمني فقال:
«يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد» . ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب- شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا- فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: «يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد» . ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ثم قال:
«يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار» . وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعا
…
به وقال الترمذي: غريب. وروى الإمام أحمد عن ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقالت: يا
رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان- فسمعت اثني عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك- فجئ بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذج، قال: فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاءوا، فما يقلبوها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فجاء البشير من تلك السرية فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال:«قصي رؤياك» . فقصتها وجعلت تقول فجئ بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة من
الجنة عادت مكانها أخرى»).
4 -
بمناسبة قوله تعالى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة فقال: «آكلها أنعم منها- قالها ثلاثا- وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل ابن علي الحطمي عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى؟» قال: الله ورسوله أعلم قال: «طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل يقع عليها الطير كأمثال البخت» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هناك لطيرا ناعما؟ قال: «أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى» وقال قتادة في قوله تعالى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون، قال:«من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر» . وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال:
«نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر» فقال عمر إنها لنا عمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آكلها أنعم منها» وكذا رواه الترمذي وقال: حسن عن أنس. ثم روى ابن أبي حاتم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت، يأكل من ثمرات الجنة، ويشرب من أنهار الجنة، فيصطففن له، فإذا اشتهى منها شيئا أتى حتى يقع بين يديه فيأكل من خارجه وداخله، ثم يطير لم ينقص منه شئ؛ صحيح إلى كعب، وقال الحسن بن عرفة عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا» ).
5 -
بمناسبة قوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجار عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم قال: أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وما هي؟» قال:
السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الله تعالى يقول: فِي
سِدْرٍ مَخْضُودٍ خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرا ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر». (طريق آخر) روى أبو بكر بن أبي داود عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرا أكثر شوكا منها- يعني: الطلح- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون الآخر» ).
6 -
بمناسبة قوله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد: طلح منضود قال: الموز، قال وروي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه قال مجاهد وابن زيد وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح ولم يذكر ابن جرير غير هذا القول).
7 -
بمناسبة قوله تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال ابن كثير: (روى البخاري عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به وكذا رواه البخاري. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين- أو مائة- سنة هي شجرة الخلد» وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها واقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» إسناد جيد ولم يخرجوه وهكذا رواه ابن جرير والبخاري كلهم عن محمد بن عمرو به وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحيم بن سليمان به.
وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ فبلغ ذلك كعبا فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما، إن الله تعالى غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه،
وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» وكذا رواه البخاري بسنده، وكذا رواه أبو داود الطيالسي بسنده، وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها» فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله، وروى الترمذي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب» ثم قال: حسن غريب. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام، قال: فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، قال:
فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب وإسناده قوي حسن).
8 -
بمناسبة قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ قال ابن كثير: (وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر، وفيهما أيضا عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة، وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت قال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» ، وروى الحافظ أبو يعلى عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه، ثم تناول شيئا ليأخذه، ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه قال: «إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه» . وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه.
وروى الإمام أحمد عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول:
جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة، ثم قال الأعرابي فيها فاكهة. قال: نعم، وفيها شجر تدعى طوبى. قال: فذكر شيئا لا أدري ما هو، قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليست تشبه شيئا من شجر أرضك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتيت الشام؟ قال: لا. قال: تشبه شجرة بالشام تدعى
الجوزة، تنبت على ساق واحد وينفرش أعلاها. قال: عظم العنقود؟ (أي: في شجرة طوبى) قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر. قال: ما عظم أصلها؟
قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما.
قال: فيها عنب؟ قال: نعم. قال: فما عظم الحبة؟ قال: هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما، قال: نعم. قال: فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فقال: اتخذي لنا منه دلوا؟. قال: نعم. قال: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال: نعم وعامة عشيرتك).
أقول: من قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه عرضت علي الجنة
…
فتناولت قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه» فهمت أن الجنة غيب من الغيب، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند ما دنت له، ولم يرها غيره، وإذ كانت الجنة جزءا من السماء السابعة فهذا يفيد أن السموات السبع غيب من الغيب. فهذا الحديث أحد أدلتي فيما ذهبت إليه في هذا التفسير أن السموات السبع التي أخبرنا عنها القرآن سماوات غيبية محجوبة عن الإنسان، فهي موجودة ولكنها مغيبة عنا، والسماء المرئية لنا هي السماء اللغوية فكل ما علاك فهو سماء، وندر من الناس من يعرف كيف يحمل لفظ السماء إذا ورد في كتاب أو سنة، فقد يرد ويراد به مطلق العلو، وقد يرد ويراد به السحاب، وقد يرد ويراد به مجرات هذا الكون، وقد يرد ويراد به السموات السبع.
9 -
بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً* لِأَصْحابِ الْيَمِينِ قال ابن كثير: (أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصا صرن أبكارا عربا، أي بعد الثيوبة عدن أبكارا، عربا متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة. وقال بعضهم: عربا أي غنجات، قال: موسى ابن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنا أنشأناهن إنشاء قال: نساء عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا» رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفان وروى ابن أبي حاتم عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً يعني: الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا، وروى عبد ابن حميد
…
عن الحسن قال أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» قال: فولت تبكي قال:
أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد. وروى أبو القاسم الطبراني عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ قال: «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت: أخبرني عن قوله تعالى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ قال:
«صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» قلت: أخبرني عن قوله: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ قال: «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت:
أخبرني عن قوله: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشرة وهو الغرقئ» قلت يا رسول الله: أخبرني عن قوله تعالى:
عُرُباً أَتْراباً قال: «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصا شمطاء خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات أترابا على ميلاد واحد» قلت:
يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة» ، قلت: يا رسول الله وبم ذاك! قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل. ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير.
بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب: يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت يا رسول الله: المرأة هنا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا، فتقول: يا رب إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة، فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله، وثنتين وسبعين من ولد آدم، لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما الله في الدنيا يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب، مكلل باللؤلؤ، عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وأنه
لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبده لها مرآة- يعني: وكبدها له مرآة- فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية، فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أن لك أزواجا غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شئ أحسن منك، وما في الجنة شئ أحب إلي منك». وروى عبد الله بن وهب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال له: أنطأ في الجنة؟ قال: «نعم:
والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا» وروى الطبراني عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» .
وروى أبو داود الطيالسي: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء» قلت يا رسول الله: ويطيق ذلك؟ قال: «يعطى قوة مائة» ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب، وروى أبو القاسم الطبراني عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال:
«إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم).
…
جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» وروى الإمام أحمد والطبراني واللفظ له عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع» . وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة» ثم قال: حسن غريب، وروى ابن وهب عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا
وكذلك أهل النار» ورواه الترمذي. وروى أبو بكر ابن أبي الدنيا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك! على حسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون» وروى أبو بكر بن أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جردا مردا مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم» ). ا. هـ.
أقول: بمناسبة ما ورد هنا أن آدم عليه السلام طوله ستون ذراعا: حاك في صدري سؤال هو: هل بقي آدم عليه السلام على طوله عند ما أهبط إلى الأرض، أو تغير؟ وكان الأمر عندي محتملا، غير أن ما ذكره الدكتور حسن زينو في كتابه (التطور والإنسان) حول العثور على هيكل للإنسان العملاق الذي يعدل حجمه ستة أضعاف إنساننا الحالي، وما ذكرته بعض الإذاعات (1) من العثور على هيكل إنسان تبلغ خطوته مترين، كل ذلك رجح لدي أن آدم بقي على طوله وحاله عند ما أهبط إلى الأرض.
10 -
بمناسبة قوله تعالى عن أهل اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال ابن كثير: (أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين. وروى ابن أبي حاتم عن عمران
بن حصين عن عبد الله بن مسعود قال- وكان بعضهم يأخذ عن بعض- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي في العصابة! والنبي في الثلاثة، والنبي وليس معه أحد- وتلا قتادة هذه الآية أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ- قال حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل، قال: قلت: ربي من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل، قال: قلت: رب فأين أمتي؟ قال انظر عن يمينك في الظراب قال: فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت؟ قال: قد رضيت رب، قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت، قلت رضيت رب، قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» قال: وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدريا قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهم اجعله
(1) إذاعة الأردن في العشر الأخير من جمادى الآخرة 1400 هـ.
منهم»، قال أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «سبقك به عكاشة» قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن استطعتم- فداكم أبي وأمي- أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا، وإلا فكونوا من أصحاب الظراب، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت ناسا كثيرا قد ناشبوا أحوالهم ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» قال فكبرنا ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال فكبرنا فقال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: فقلنا: بيننا من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا قال فبلغه ذلك فقال: «بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» .
وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرهما. روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما جميعا من أمتي» ).
11 -
يلاحظ أن اللام قد دخلت في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً على كلمة جعلناه، بينما لم تدخل على جعلناه من قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال النسفي في تعليل ذلك: (ودخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما، ونزعت منه هنا لأن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة الشرط كإن، ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به، وتساوي حالي حذفه وإثباته، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب؛ للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب).
12 -
بمناسبة قوله تعالى عن النار نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ قال ابن كثير: (قال مجاهد وقتادة: أي تذكر النار الكبرى قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم» قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال: «إنها قد ضربت بالبحر ضربتين أو مرتين حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها» وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وروى الإمام مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» رواه البخاري ومسلم وفي لفظ لمسلم: «والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» وقد روى أبو القاسم الطبراني
…
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين ضعفا» قال الضياء المقدسي: وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على شرط الصحيح).
13 -
وبمناسبة قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال صاحب الظلال: (ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. ومن ثم قال لهم: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به نصيبا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون. وإن كنا نحن أيضا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم.
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، يقول لنا: إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدودا. مجموعة واحدة- هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية- تبلغ ألف مليون نجم!
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل.
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم، وهو أكبر كثيرا جدا مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة. وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم!).
14 -
بمناسبة قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «وتجعلون رزقكم يقول: شكركم، أنكم تكذبون تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا» وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن إسرائيل به مرفوعا، وكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه. وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا؛ يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وروى مالك في الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:«هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب» أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي كلهم من حديث مالك به. وروى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا» انفرد به مسلم من هذا الوجه، وروى ابن جرير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا» قال محمد- هو ابن إبراهيم- فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس، يا عم رسول الله، كم أبقى من نوء الثريا؟ فقال العلماء: يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا، قال:
فما مضت سابعة حتى مطروا، وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده).
وروى ابن جرير عن إسماعيل بن أمية- فيما أحسبه أو غيره- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ومطروا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد فقال: «كذبت بل هو رزق الله» . ثم روى ابن جرير عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين- ثم قال- وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ يقول قائل: مطرنا بنجم كذا وكذا» . وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعا: «لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدع» . وقال مجاهد: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال: قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا يقول:
قولوا: هو من عند الله وهو رزقه وهكذا قال الضحاك وغير واحد، وقال قتادة أما الحسن فكان يقول: بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
أقول: يستدل لمصلحة الأرصاد الجوية بسؤال عمر، فهو سؤال عن عالم الأسباب، فالعرب قديما كانت تعرف من خلال علامات معينة قرب نزول المطر وقلته وكثرته، وهذا الذي أصبح الآن علما برأسه، له أجهزته واختصاصيوه، وهذا العلم يقدم الآن نشرات جوية لمدة طويلة أو قصيرة، وهذه النشرات قابلة للصواب وللخطإ، ولا اعتراض عليها، ولا زال كثيرون من الناس يشركون بالأنواء كأولئكم الذين يقولون مطرنا بتيار كذا وكذا معتقدين أنه ليس لله دخل في ذلك، أولئك المشركون، أما المؤمنون فيثبتون عالم الأسباب ويعرفون أن الله هو الفاعل.
15 -
عرض صاحب الظلال قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عرض هذه الآيات بأسلوبه الرائع مبرزا الحجة في الآيات فقال: (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
…
كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ.
هنا. في هذه اللحظة. وقد فرغت الروح من أمر الدنيا. وخلفت وراءها الأرض
وما فيها. وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا إلا ما ادخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر.
هنا. وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى. وقد انفصلت عمن حولها وما حولها. الجسد هو الذي يراه الناظرون. ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئا.
هنا تقف قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر.
هنا يعرفون- ولا يجادلون- أنهم عجزة عجزة. قاصرون قاصرون.
هنا يسدل الستار دون الرؤية. ودون المعرفة. ودون الحركة.
هنا تتفرد القدرة الإلهية، والعلم الإلهي. ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ!
وهنا يجلل الموقف جلال الله، ورهبة حضوره- سبحانه وتعالى وهو حاضر في كل وقت. ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر. فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله. فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع.
وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجئ التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ!
فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا حساب ولا جزاء. فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين. فدونكم إذن فلترجعوها- وقد بلغت الحلقوم- لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء. وأنتم حولها تنظرون. وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون!
هنا تسقط كل تعلة. وتنقطع كل حجة. ويبطل كل محال. وينتهي كل جدال.
ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري، فلا يصمد له، إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل!).
16 -
بمناسبة قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قال ابن كثير: (وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وبعض المباحات فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي فلهم روح
وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما تقدم في حديث البراء:«إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان وجنة ورب غير غضبان» قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فَرَوْحٌ يقول: راحة، وريحان يقول: مستراحة، وكذا قال مجاهد: إن الروح الاستراحة، وقال أبو حرزة: الراحة من الدنيا، وقال سعيد بن جبير والسدي: الروح: الفرح وعن مجاهد فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وجنة ورخاء، وقال قتادة فروح فرحمة وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: وريحان ورزق وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة؛ فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه، وقال محمد بن كعب: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ولو كتبت هاهنا لكان حسنا، وأجلها حديث تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يقول الله تعالى لملك الموت: انطلق إلى فلان فائتني به، فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب. ائتني به فلأريحنه، قال: فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحنوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا، لكل منها ريح سوى صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك» وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية.
روى الإمام أحمد عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ برفع الراء وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون- وهو ابن موسى الأعور- به وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده، وخالفه الباقون فقرءوا فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ بفتح الراء. وروى الإمام أحمد عن أم هانئ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتزاور إذا متنا، ويرى بعضنا بعضا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يكون النسم طيرا يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها» . هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن، ومعنى يعلق يأكل، ويشهد له بالصحة أيضا ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك ابن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم
يبعثه». وهذا إسناد عظيم ومتن قويم. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل ملعقة بالعرش» الحديث، وروى الإمام أحمد عن عطاء بن السائب قال:
كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار، وهو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال:
فأكب القوم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: إنا نكره الموت، قال ليس ذاك ولكنه إذا احتضر فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل والله عز وجل للقائه أحب وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره، هكذا رواه الإمام أحمد، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه).
17 -
بمناسبة قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
…
قال ابن كثير: (وقوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي:
تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي: لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين. وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين، وهذا معنى حسن، ويكون ذلك كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
وقال البخاري فَسَلامٌ لَكَ أي:
مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، وقد يكون كالدعاء له كقولك: سقيا لك من الرجال إن رفعت السلام فهو من الدعاء وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم. وقوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى فَنُزُلٌ أي: فضيافة مِنْ حَمِيمٍ وهو المذاب الذي يصهر به
ما في بطونهم والجلود وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته). ا. هـ.
أقول: إن هناك اتجاهين في هذه الآيات. الاتجاه الأول: أن الحديث فيها عما يكون للميت يوم القيامة بعد إذ تقع الواقعة، وعندئذ تكون خاتمة السورة تتحدث عما تحدثت به بدايتها، والاتجاه الثاني يقول: إن الحديث في هذه الآيات يدور حول ما يستقبل به الميت فور وفاته، فهي حديث عما يستقبل الميت في البرزخ في الفترة بين الموت وقيام القيامة، وعلى هذا الاتجاه تكون السورة بدأت بالحديث عن القيامة، وختمت بالحديث عما قبل ذلك من حياة برزخية، وموت وحياة أولى.
18 -
بمناسبة قوله تعالى في خاتمة السورة: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهنى قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» وكذا رواه أبو داود وابن ماجه، وقال روح بن عبادة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» هكذا رواه الترمذي ورواه هو والنسائي أيضا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير. وروى البخاري في آخر كتابه عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله).
أقول: وردت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في السورة مرتين، وفي كل مرة كانت ترد بعد ما تستجاش في النفوس عوامل الشعور بالعظمة؛ ليأتي التسبيح بعد ذلك خارجا من أعماق النفس.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل هذا التسبيح في ركوعنا، فإذا عرفنا أن سورة كاملة قد سيقت للوصول إلى التسبيح في الركوع الذي هو سنة من سنن الصلاة ندرك أهمية الصلاة في حياة المسلم، وفي بقاء الإسلام. والملاحظ أن كل جزء من أجزاء الصلاة قد جاء في سياق سورة من السور؛ ليكون لهذا الجزء أرضيته العميقة التي يستند إليها، فالقيام في الصلاة جاء في سورة، وقراءة القرآن فيها جاءت في سورة، والركوع