الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي سورة الطور:
1 -
قال الألوسي في تقديمه لسورة الطور: ((مكية) كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، ولم نقف على استثناء شئ منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلال السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع، فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك).
2 -
وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان .. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام!
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة، والمعنى والمدلول، والصور والظلال، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام!).
كلمة في سورة الطور ومحورها:
تبدأ السورة بمقدمة تتحدث عن مجئ يوم القيامة، وبعض ما يحدث فيه، وتعرض أنواعا من العذاب الذي ينزل بالمكذبين، ثم تتحدث عن المتقين وما لهم، وعما استحقوا بسببه هذا النعيم المقيم، ثم تأمر السورة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير، وترد على مطاعن الكافرين وتصوراتهم، ثم تسير السورة حتى تنتهي بالأمر بالصبر والتسبيح بحمد الله، وككل سورة من سور القرآن فإن للسورة سياقها الخاص بها، ثم هي في الوقت نفسه تفصل في محورها من سورة البقرة، وهو الآيات الأولى منها: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهي تكمل البناء الذي بدأته سورة الذاريات، فلئن كانت سورة الذاريات قد أمرت رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالتذكير، وبينت أن الذكرى تنفع المؤمنين، فهذه تأمره بالتذكير المطلق، وتحدد له معالم يناقش بها الكافرين، وإذا كانت سورة الذاريات قد ذكرت الحكمة من خلق الخلق وهي العبادة، فهذه السورة تأمر بأنواع من العبادة، وإذا كانت سورة الذاريات قد وصفت المتقين بأنهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، فهذه السورة تأمر بالتسبيح بحمد الله في قيام الليل، وعند الأسحار، وإذا كانت سورة الذاريات أجملت في تفصيل نعيم أهل الجنة، وبما استحقوا هذا النعيم، فإن سورة الطور تفصل في ذلك، كما أنها تفصل في عذاب الكافرين، وفي ما استحقوه، وكل ذلك يأتي ضمن سياق السورة الخاص:
فالسورة تبدأ بالقسم على أن عذاب الله آت، وتبين كيف يعذب الكافرون وينعم المتقون، وإذا كان أمام الإنسان ما أمامه، فليذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان، وليناقش الكافرين، وإذا كان الكفار مع وجود الآيات يكفرون، فليتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصيرهم، وليصبر، وليسبح بحمد الله في ليله ونهاره.
إن فلاح المتقين يظهر في شيئين: في الخلاص من العذاب، وفي تذوق النعيم، والسورة تبين هذا وهذا، ولقد ركزت سورة الذاريات على الصلاة والإنفاق من صفات المتقين، وتركز سورة الطور على الإيمان من صفات المتقين: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وركزت على الخوف والعبادة كطريقي نجاة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
وهكذا نجد تفصيلا بشكل ما للآيات الأولى من سورة البقرة: سواء في ذلك قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فسورة الطور تناقش الذين لا يهتدون بكتاب الله: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ.
- أو قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فسورة الطور تبين عذاب المكذبين، وتناقشهم، وتبين أن كل النعيم الذي يناله المتقون هم وذرياتهم بسبب الإيمان.
- أو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
فسورة الطور تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر، وهو الذي أنزل عليه القرآن فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ* أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ* أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ
…
، وتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن أن يقابل مواقف الكافرين والمكذبين: فَذَرْهُمْ
…
وَاصْبِرْ ....
- أو قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. فسورة الطور تذكر أن سبب النجاة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ.
- أو قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فسورة الطور تبين مظاهر فلاحهم، وأي فلاح أكبر من الفوز بالجنة، والخلاص من النار. وكما أن سورة الطور تفصل بشكل رئيسي في الآيات الأولى لمقدمة سورة البقرة، فهي تفصل في ارتباطات هذه الآيات وفي امتداداتها.
فالسور الثلاث: الذاريات، والطور، والنجم، تفصل بشكل رئيسي في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وسورة القمر بعد ذلك تفصل بشكل رئيسي في الآيتين السادسة والسابعة من مقدمة سورة البقرة، ولكن كلا من هذه السور تفصل في ارتباطات محورها وفي امتداداته، ولذلك فإن كلا من السور الأربع تتحدث عن الكافرين والمتقين، كما أن السور الثلاث فيها أوامر بالعبادة التي هي إحدى المعاني البارزة في المقطع الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة.
…
ولقد قلنا من قبل إن السورة وهي تفصل في محورها، تشد إلى هذا المحور من معاني سورة البقرة ما هو ألصق به، أو ما هو الألصق بمعنى من معانيه، فمع رؤيتنا سورا كثيرة تفصل في محور واحد، ففي كل مرة نجد تفصيلا جديدا، ونجد ربطا للمحور على طريقة جديدة.
…
ومع أن لسورة الطور سياقها، ومع أنها تفصل في محورها، فإن لها صلاتها بما قبلها وما بعدها، وخاصة في أواخر السورة التي سبقتها، فالملاحظ أن سورة
الذاريات ختمت بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بينما نجد سورة الطور مبدوءة بالكلام عن عذاب الله الواقع بالكافرين: وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ
…
فنهاية سورة الذاريات تذكر الويل للكافرين من اليوم الموعود، وبداية سورة الطور فيها قسم على وقوع هذا اليوم، وهي في الوقت نفسه تذكر الويل: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً* فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ* يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا* هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ لاحظ قوله تعالى:
أَفَسِحْرٌ هذا وتذكر أنه في أواخر سورة الذاريات جاء قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وها هي ذي سورة الطور فيها: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ.
…
إن هذا المظهر من مظاهر التكامل بين سور القرآن، وهو مظهر من مظاهر وحدة المجموعة الواحدة من سور القسم، والأمر أوسع من هذا بكثير، إنه القرآن الذي لا
تنقضي عجائبه. هذا وتتألف سورة الطور من ثلاث مجموعات وسنعرض كل مجموعة على حدة.
***