الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثلاث من الهجرة وقيل: في شعبان منها، وقيل: ولد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت (1).
9 - وفي شوال من هذه السنة: وقعتْ غزوة أحد
.
الشرح:
لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بالٌ منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلتْ في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِلَ زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعتْ هيبتُها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالبون بالثأر واسترداد الكرامة.
فأخذوا يعدودن لذلك منذ رجوعهم من بدر.
بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجتْ من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر (2).
وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل (3)، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، وخرج معهم من أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة (4).
وقد رَأى النَّبيُ صلى الله عليه وسلم هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه- رضوان الله عليهم- فقَالَ صلى الله عليه وسلم:"رَأَيْتُ في رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُه فَإذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى
(1)"الإصابة" 1/ 374. بتصرف.
(2)
ذكر ذلك ابن هشام في سيرته 3/ 3، عن ابن إسحاق عن بعض التابعين مرسلاً.
(3)
"سيرة ابن هشام" 3/ 3.
(4)
السابق.
فَعَادَ أَحْسَنَ ممَا كَانَ، فَإذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الله مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ" (1) أي: هم المؤمنون الذين قتلوا يوم أُحُد.
وفي رواية: "وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَاَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ"(2).
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فَقَالَ لهم: "لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا في الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "شَأْنكُمْ إِذًا"، ولَبِسَ صلى الله عليه وسلم لَأْمَتَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ"(3).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط، ومائة دارع (4).
ولَبِسَ النبي صلى الله عليه وسلم دِرْعَيْنِ (5).
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس (6).
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4081)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
صحيح: أخرجه أحمد (14723)، الدارمي 2/ 55، الحاكم 2/ 129، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
(3)
التخريج السابق.
(4)
"تاريخ الطبري" 3/ 504، "الطبقات" 3/ 44.
(5)
صحيح: أخرجه أبو داود (2590)، كتاب: الجهاد، باب: في لبس الدروع، والترمذي (1692)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
(6)
"سيرة ابن هشام" 3/ 3.
ثم سار بالجيش متوجهًا إلى أُحُد (1) حتى إذا كانوا بالشَّوْط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني (2) ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال (3).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 167،166].
وما جعل الله ذلك إلا ليميز الخبيث من الطيب.
يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وكاد بنو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ أنْ يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أنْ ثبتهم الله.
(1) يقع جبل أحد في شمال المدينة، وكان يرتفع 128 مترًا أما الآن فيرتفع 121 مترًا فقط بسب عوامل التعرية، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 5.5 كيلو مترًا، بدءًا من باب المجيد أحد أبواب المسجد النبوي. "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 378.
(2)
أي: أطاعهم في الخروج والقتال خارج المدينة، وعصاه حيث كان يرى القتال بداخل المدينة.
(3)
"سيرة ابن هشام" 3/ 3.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122](1).
ولما رجع المنافقون وتركوا الجيش قال فريق من أصحاب النبيِ صلى الله عليه وسلم: نُقَاتِلُهُمْ، وقال فريق آخر: لَا نُقَاتِلُهُمْ، فأنزل الله عزوجل:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ"(2).
وفي الطريق استعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجيش فردَّ صغار السن، ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان عمره أربعة عشر سنة (3).
وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيفاً وقال: "مَن يأخذ هذا السيف بحقه" فقام إليه رجال كلٌ يقول: أنا، أنا، فامسكه عنهم وقال:"من يأخذه بحقه" فقام أبو دُجانة سماكُ بن خَرَشة وقال: وما حقه يا رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني" فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إيَّاه، وكان أبو دُجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أُعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيُقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك،
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4051)،كتاب المغازي باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} ، مسلم (2505)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل الأنصار رضي الله عنهم.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4050):كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (2776)، كتاب: صفات المنافقين وأحوالهم.
ومعنى أركسهم: أي ردهم.
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4097)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.
فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دُجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"(1).
وتقدم الجيش الإِسلامي إلى ميدان أحد وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجه جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أحد لحماية ظهر المسلمين من أن يُداهمهم أَحدٌ من خلفهم، ثم عزَّز ذلك بخمسين راميًا بقيادة عبدلله بن جبير رضي الله عنه أوقفهم على جبل عَيْنَيْن (2) - الذي يقع خلف جبل أُحُد- حتى إذا فكَّر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابلٍ من النبال فمنعوه من ذلك، وشدد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم"(3).
وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أحد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم القائد.
وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة رضي الله عنه وبين رجل من المشركين يقال له سِباع، حيث خرج سِباع هذا من بين الصفوف - لما اصطف الفريقان للقتال-
(1)"سيرة بن هشام" 3/ 3، وأصل الحديث عند مسلم (2470)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه.
(2)
الذي سُمِّي بعد أحُدٍ بجبل الرماة.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، أبو داود (2662)، كتاب: الجهاد، باب: في الكُمناء، وأحمد (18501)، واللفظ لهما.
فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة رضي الله عنه فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مُقطّعة البظور (1) أَتُحادُّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة رضي الله عنه فقتله (2)، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان، والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم، وقاتل أبو دُجانة بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتى فلق به هام المشركين (3)، حتى قتل في أول النهار من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة (4).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152](5) أي: ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون الذي وعدكم إياه إن أطعتم الله ورسوله، أن لكم النصر على الأعداء.
وفي وسط المعركة جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: "في الْجَنَّةِ"، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (6).
(1) مُقطِّعة البظور: أي التي تختن النساء، فهي تقطع بظر المرأة عند ختنها.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
(3)
سبق تخريجه. هام المشركين: أي رؤوس المشركين.
(4)
صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
(5)
الحسُّ: القتل، أي: إذ تقتلونهم بإذنه.
(6)
متفق عليه أخرجه البخاري (4046)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، مسلم (1899)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. وهذا الرجل غير عُمير بن الحُمام الذي استشهد يوم بدر، حيث جاء في رواية: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد
…
).