الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرية وعقد لهم لواء (1).
19 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كان صلح الحديبية وكان فتحًا مبينًا
.
الشرح:
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإِسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صَدَّ عنه المشركون منذ ستة أعوام (2). والحديبية اسم بئر تقع على بعد اثنين وعشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من مكة وتعرف الآن بالشميس، وهي حدائق الحديبية ومسجد الرضوان (3).
وبعضها يدخل في حدود الحرم المكي.
قال الشافعي رحمه الله:
بعضها في الحلِّ وبعضها في الحَرم (4).
وسُمي بصلح الحديبية؛ لأن قريشًا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية.
قال ابن القيم رحمه الله:
قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول
(1)"الطبقات" 1/ 296، ولم يذكر تفاصيل أخرى للغزوة.
(2)
"الرحيق المختوم"(294).
(3)
"السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 434.
(4)
"زاد المعاد" 3/ 270.
الزهري، وقتادة وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. اهـ (1).
وعَنْ قَتَادَةَ قال: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ
…
(2)، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجهًا إلى بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم (3) مُتسلِّحين بالسلاح (4) حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي.
(1)"زاد المعاد" 3/ 255.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن.
(3)
ورد ذكر هذا العدد في أحاديث صحيحة بصحيح البخاري، عن نفر من الصحابة رضوان الله عليهم، ممن شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد، منهم جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفي رواية أخرى عن جابر: أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى أنهم كانوا ألفًا وثلاث مائة.
انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي، باب غزوة الحديبية.
ورجح ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 3/ 256، 257، قول من قال أنهم ألف وأربعمائة، لأنه قول الأكثر حيث قال: والقلب إلى ذلك أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حَزْن. اهـ.
وقال ابن حجر رحمه الله: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألفًا وأربعمائة أو أكثر، اهـ.
(4)
مما يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا متسلحين ما رواه البخاري (4179): أنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا جمعوا له المجموع لقتاله استشار الصحابة في قتالهم أو عدم قتالهم، وهذا يدل على أنهم كانوا مستعدين للقتال في أي وقت.
فَلَمَّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم ذَا الْحُلَيْفَةِ (1) قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ (2)، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ -وهو بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش- وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ (3) أَتَاهُ عَيْنُهُ، فقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ (4) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ:"أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إلى عِيَالِهِمْ وَزَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ الله عز وجل قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ"، قَالَ أبو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فقَالَ- رسول الله-:"امْضُوا عَلَى اسْمِ الله"(5).
فسار النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ:"إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ (6) فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ"، فَوَ اللهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ
(1) ذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذي يُحرمون من عنده، وهو الذي يُسمى الآن بـ (أبيار عليّ)، وتبعد عن المدينة أحد عشر كيلو مترًا، وبينها وبين مكة أربعمائة وأربعة وستون كيلو مترًا تقريبًا.
(2)
الهدي: ما يُهدى من النعم إلى الحرم تقربًا إلى الله عز وجل، ويكون الهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وتقليد الهدي: هو أن يعلق في عنقها نعلين، أو يضع عليها شيئًا من صوف ونحوه علامة لها أنها من الهدي، والتقليد عام للبقر والغنم والإبل، أما الإشعار: هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل الدم، ثم يسلته، ويكون ذلك في الجانب الأيمن لسنمة البعير، والإشعار خاص بالإبل فقط دون البقر والغنم.
(3)
غدير الأشطاط: اسم مكان وراء عُسْفان على بعد ثمانين كيلو من مكة.
(4)
الأحابيش: هم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناة ابن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش، قيل تحت جبل يقال له: الحبش أسفل مكة، وقيل: سمُّوا بذلك لتحبشهم، أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (4178، 4179)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.
(6)
الطليعة: مقدمة الجيش.
حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ (1) فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ (2) فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ (3)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ (4) "، ثُمَّ قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا"، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ (5) قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا (6)، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُم أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيبَةَ نُصْحِ (7) رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ (8) نَزَلُوا أَعْدَادَ
(1) قترة الجيش: غبار الجيش الذي يحدثه أثناء سيره.
(2)
حَلْ حَلْ: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
(3)
خلأت القصواء: خلأت أي بركت من غير علَّة، والقصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل كان طرف أذنها مقطوعًا، والقصو: قطع طرف الأذن، وقيل: إنها كانت لا تُسبق فقيل لها القصواء لأنها بلغت من السبق أقصاه. "فتح الباري" 5/ 395.
(4)
حبسها حابس الفيل: قال ابن حجر: أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قُدر دخول الفيل وأصحابه مكة. اهـ. أي: قيل أبرهه الأشرم الذي كان يريد هدم الكعبة.
(5)
ثَمَدٍ: بفتح الثاء والميم، أي: حفرة صغيرة فيها ماء مثمود أي قليل.
(6)
التَبرُّض: هو الأخذ قليلاً قليلاً.
(7)
عَيْبة نُصح: العَيْبة: ما تُوضع فيه الثياب لحفظها، أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سره.
(8)
قوله: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي: يقصد قريشًا، وإنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما.
مِيَاهِ (1) الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ (2) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُم الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمِ فَإنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ (3) مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَينِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإنْ أَظْهَرْ فَإنْ شَاءُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا (4) وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي (5) وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ"، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ (6) فَلَمَّا بَلَّحُوا (7) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي
(1) أعداد: جمع عِدّ بالكسر والتشديد، وهو الماء الذي لا انقطاع له.
(2)
العُوذ: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا من ألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه أو كنَّى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، قال ابن فارس: كل أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ، والجمع عُوذ، كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلزم الشغل به. "فتح".
(3)
ماددتهم: أي جعلت بيني وبينهم مدة بترك الحرب.
(4)
جَمُّوا: أي استراحوا، والمعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك قريش القتال فإن أرادوا الدخول في الإِسلام بعد ذلك دخلوا وإن لم يدخلوا استراحوا فترة من القتال.
(5)
حتى تنفرد سالفتي: أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في قتالهم، أي: إن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت. "فتح" بتصرف.
(6)
قوله: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ: أي دعوتهم لنصركم.
(7)
فلما بلَّحوا: أي امتنعوا، والتبلح التمنع من الإجابة.
وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَب اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوشَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ ببَظْرِ اللَّاتِ (1) أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أبو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالًّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيفُ وَعَلَيهِ الْمِغْفَز فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بنعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَفِعَ عُرْوَةُ رَأسَهُ، فَقَالَ: مَن هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ (2)، وَكَانَ الْمُغِيرَة صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَيءٍ"، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَ اللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ
(1) امصص ببظر اللات: البظر قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك ولكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كانوا يعبدوه مكان أمه. "فتح" بتصرف.
(2)
قوله: أي غُدَرُ: مبالغة في وصفه بالغدر، قوله: ألست أسعى في غدرتك: أي ألست أسعى في دفع شر غدرتك.
قال ابن هشام في "السيرة": أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا. "فتح" 5/ 402.
بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ"، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيهِم، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ"، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ، إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، فلَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ"، فَجَاءَ سُهَيلُ بن عَمْرو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ:"بِسْم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، قَالَ سُهَيلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللهمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهمَّ"، ثُمَّ قَالَ:"هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله"، فَقَالَ سُهَيلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ الله مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن
عبد الله" (1)، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: "لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا"، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيتِ فَنَطُوفَ بِهِ"، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ الله كَيْفَ يُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلِ بن عَمْرٍو يَرْسُفُ (2) في قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بنفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لسُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ"، قَالَ: فَوَاللهِ إذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَأَجِزْهُ لِي"، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: "بَلَى فَافْعَلْ"، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في الله قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: "إنِّي رَسُولُ الَله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي"، قُلْتُ: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى فَأخبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أبَا بَكْرٍ أَلَيسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ
(1) وفي رواية: أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَرِنِي مَكَانَهَا"، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ: ابْنُ عبد الله.
أخرجه البخاري (2699)، مسلم (1783).
(2)
يرسف: أي يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد.
نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا (1)، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:"قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا"، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِي الله أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّم أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ في الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بن أبي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ:"لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا"، فَلَمَّا انْتَهَى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي
(1) قول عمر رضي الله عنه: وعملت لذلك أعمالاً أي: من الأعمال الصالحة ليكفر عنه اعتراضه على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "مسند أحمد" 4/ 325 يقول عمر رضي الله عنه: مازلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا.