الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم
-:
فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فَقَالَ لهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا (1).
فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط (2)، واستغل إِبْلِيسُ عليه لَعْنَةُ الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أَيْ عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ مع أُخْرَاهُمْ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حُذَيْفَةَ بن اليمان رضي الله عنهما رأى أباه الْيَمَانِ- رضي الله عنه يضربه المسلمون، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ الله أَبِي، أَبِي، فمَا احْتَجَزُوا عنه حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ الله لَكُمْ (3).
وفي وسط المعركة قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة- الذي قيل أنه كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أسيد بن حضير الذي كان يحمل لواء الأوس، والخُباب ابن المنذر الذي كان يحمل لواء الخزرج (4) قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أُحُد.
(2)
صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (4065)، كتاب: المغازي، باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122].
(4)
جاء ذكر الألوية في "مغازي الواقدي" 1/ 33.
إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قتل مصعب رضي الله عنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1).
وَصَاحَ الشَّيْطَانُ وسط الميدان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُشَكَّ أحد أَنَّهُ حَقٌّ (2).
فلما انتشر الخبر وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوى بعض المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر رضي الله عنه عم أنس بن مالك رضي الله عنه فقال لهم ما يُجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (3).
وكان أنس بن النضر رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بَدْر، فقَالَ: غِبْتُ عَنْ أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله مَا أَصْنَعُ، فلما رأى ذلك من المسلمين يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين- وأبرأُ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقيَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فما عرف حتى عرفته أُخْتُهُ بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنَزَلَتْ فيه وفي أصحابه:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23](4).
وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفرَّ آخرون بين الشعاب
(1)"سيرة ابن هشام" 3/ 3.
(2)
صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم في "المستدرك" 2/ 296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر.
(3)
"سيرة ابن هشام" 3/ 3، والحديث في "الصحيحين" بلفظ مختلف، انظر الذي بعده.
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4048)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
بعدما شاع بينهم خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
أمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أولُ من عرف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ هو كعب بن مالك رضي الله عنه فنادى في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالسكوت لئلا يفطن له المشركون (1).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم صمدوا معه يدافعون عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد تفطن المشركون بأن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ لم يُقتلْ فتكاثروا عليه يريدون قتله.
وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم تسعة من الصحابة سَبْعَةٌ مِنْ الْأَنصَارِ، واثنان من المهاجرين، فَلَمَّا رَهِقُوهُ (2) قَالَ:"مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ:"مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ من الأنصار، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِصاحِبَيْهِ:"مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا"(3).
(1) صحيح: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 201، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: صحيح.
(2)
أي: قربوا منه صلى الله عليه وسلم.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1789)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أُحُد.
وكان هذا الدفاع من هؤلاء الأنصاريين السبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم لحبهم الشديد له صلى الله عليه وسلم أولاً وايثاره على أنفسهم، ثم لما عاهدوه عليه الصلاة والسلام عند بيعة العقبة وأنهم يمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" قال النووي رحمه الله: الرواية المشهورة فيه (ما أنصفنا) بإسكان الفاء، و (أصحابنا) منصوب مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء=
وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ (1) وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ (2) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: والرسول يناديكم من خلفكم، إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله (3).
وكان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عنه حتى شُلَّتْ يده رضي الله عنه كان يقي بها النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تُخطئ، فنثل له النبي صلى الله عليه وسلم كنانته (5) وجعل يقول له:"ارْمِ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي"(6).
= من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريش الأنصار، لكون القريشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه (ما أنصفَنا) بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فرُّوا من القتال، فإنهم لم ينصفوا لفرارهم. اهـ "شرح مسلم" 6/ 329، 330.
(1)
أي: تهربون في بطون الأوديه والشعاب.
(2)
أي: ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربًا من عدوكم.
(3)
"تفسير الطبري" 4/ 139 وفي قراءة: {إذ تصعدون} بفتح التاء وتسكين الصاد وفتح العين، ومعناه: إذ تصعدون إلى جبل أحد حيث قيل إنهم صعدوا إلى الجبل هربًا من القوم.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (4063)، كتاب: المغازي، باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122].
(5)
نثل كنانته: أي نثر كنانته واستخرج ما بها من السهام، والكنانة: جُعبة السهام.
(6)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4055)، كتاب: المغازي، باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]، ومسلم=
وممن ثبت مع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه أبو طَلْحَةَ زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه فكان مُجَوِّبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم بِحَجَفَةٍ لَهُ (1)، وَكَانَ أبو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ (2) كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ له النبي صلى الله عليه وسلم: انْثُزهَا لِأبي طَلْحَةَ، وكان النَّبِي صلى الله عليه وسلم يشرف برأسه ليَنْظُرَ إلى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ له أبو طَلْحَةَ: بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ (3).
وكان يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم (4).
ورغم استبسال الصحابة- رضوان الله عليهم- في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث
= (2411)، كتاب: فضائل الصحابة باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحدٍ غير سعد. (متفق عليه).
وقال سعد رضي الله عنه: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أُحُد. (متفق عليه).
(1)
مُجوِّبٌ عليه بحَجَفَة: أي مُتترس عليه بترس، ليقيه من ضربات المشركين، فالحجفة: الترس.
(2)
شديد النزع: أي شديد رمي السهم.
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. ومعنى نحري دون نحرك: أي: أفديك بنفسي.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (2902)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجنِّ ومن يتَّرس بترس واحد، وأحمد 3/ 286، 287.