الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في أحكام النظر، وغائلته، وما يجني على صاحبه
قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية [النور/30 ــ 31]، فلمَّا كان غضُّ البصر أصلًا لحفظ الفرج؛ بدأ بذكره، ولمَّا كان تحريمُه تحريمَ الوسائل، فيُباح للمصلحة الرَّاجحة، ويَحْرُمُ إذا خِيفَ منه الفسادُ، ولم يُعارضْه مصلحةٌ أرجحُ من تلك المفسدة؛ لم يأمر سبحانه بغَضِّه مطلقًا، بل أمر بالغضِّ منه، وأمَّا حفظ الفرج فواجبٌ بكلِّ حالٍ، لا يُباح إلا بحقِّه، فلذلك عمَّ الأمر بحفظه.
وقد جعل الله سبحانه
العينَ مِرْآة القلب
، فإذا غضَّ العبدُ بصرَه غضَّ القلبُ شهوتَه وإرادتَه، وإذا أطلق بصره أطلق القلبُ شهوتَه.
وفي الصحيح
(1)
: أنَّ الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رَدِيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر من مُزْدَلِفَة إلى مِنًى، فمرَّت ظُعُنٌ يَجْرِيْن، فَطفِق الفضل ينظرُ إليهنَّ، فحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأْسَهُ إلى الشِّقِّ الآخر.
وهذا منعٌ وإنكارٌ بالفعل. فلو كان النظرُ جائزًا لأقرَّه عليه.
(1)
أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حَظَّهُ من الزِّنَى، أدْرَك ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فالعَيْنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا النَّظَرُ، واللِّسَانُ يَزْني، وزِنَاهُ النُّطْقُ، والرِّجْلُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا الخُطَا، واليَدُ تَزْنِي، وزِنَاهَا البَطْشُ، والقَلْبُ يَهْوَى ويَتَمنَّى، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِك أوْ يُكَذِّبُه» .
فبدأ بزنى العينِ؛ لأنَّه أصلُ زنى اليد والرِّجل والقلبِ والفَرْج، ونبَّه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقُبَل، وجعلَ الفرجَ مُصدِّقًا لذلك إن حقَّق الفعلَ، أو مكذبًا له إن لم يُحَقِّقْهُ.
وهذا الحديث من أبين الأشياء على أنَّ العينَ تعصي بالنظر، وأنَّ ذلك زناها، ففيه ردٌّ على مَنْ أباح النظر مطلقًا.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يا عَليُّ لا تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَة، فإنَّ
(2)
لك الأُولى، ولَيْسَتْ لكَ الثَّانِيَة»
(3)
.
ووقعت [36 ب] مسألة: ما تقولُ السَّادة العلماء
(4)
في رجلٍ نظرَ إلى امرأةٍ نظرةً، فعلقَ حبُّها بقلبه، واشتدَّ عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كلُّه
(1)
أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة.
(2)
ت: «فإنما» .
(3)
أخرجه أحمد (5/ 351، 353، 357)، وأبوداود (2149)، والترمذي (2777) من حديث بريدة، وهو حديث حسن.
(4)
ت: «الفقهاء» .
من أوَّل نظرةٍ، فلو أعَدْتَ النظرَ إليها لرأيتَها دون ما في نفسكَ، فسلوتَ عنها، فهل يجوزُ له تعمُّد النظر ثانيًا لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّ الله سبحانه أمر بغضِّ البصر، ولم يجعلْ شفاءَ القلب فيما حرَّمه على العبد.
الثاني: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفَجْأَة، وقد علم أنه يُؤثِّر في القلب فأمرَ بمداواتِه بصرف البصر، لا بتكرار النَّظر.
الثالث: أنَّه صرَّح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكونَ داؤه ممَّا له، ودواؤه ممّا ليس له.
الرابع: أنَّ الظَّاهر قوةُ الأمر بالنظرة الثانية لا تَناقُصُه، والتجربةُ شاهدةٌ به، والظَّاهر أنَّ الأمرَ كما رآه أولَ مرَّةٍ، فلا تحسنُ المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنَّه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه، فزادَ عذابُه.
السادس: أنَّ إبليسَ عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فيزيِّن له ما ليس بحسن لِتَتِمَّ البلية.
السابع: أنَّه لا يُعانُ على بَليَّتِه إذا أعرضَ عن امتثال أوامر الشرع، وتداوى بما حرَّمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلَّفَ عنه المعونة.
الثامن: أنَّ النظرة الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، ومعلومٌ أنَّ الثانية أشدُّ سُمًّا، فكيف يتداوى من السُّمِّ بالسُّمِّ؟
التاسع: أنَّ صاحبَ هذا المقام في مقام معاملة الحقِّ ــ عز وجل ــ في ترك محبوب ــ كما زعم
(1)
ــ وهو يُريد بالنَّظرة الثانية أن يتبيَّن حال المنظور إليه، فإن لم يكن مرضيًّا تركه، فإذًا يكون تركُهُ لأنَّه لا يُلائم غرضَه لا لله تعالى، فأين معاملةُ الله ــ سبحانه ــ بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبيَّن بضرب مثلٍ مطابقٍ للحال، وهو أنَّك إذا ركبتَ فرسًا حديدًا، فمالتْ بك إلى درْبٍ ضيِّق لا ينفذُ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همَّت بالدُّخول فيه فاكبحْها
(2)
؛ لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوةً أو خطوتين فَصِحْ بها، ورُدَّها إلى وراء عاجلًا قبل أن يتمكَّن دخولُها، فإن رَدَدْتها إلى ورائها سهُل الأمر، وإن توانيتَ حتى ولَجَتْ، وسُقْتَها داخلًا، ثم قمت تجذِبُها بذَنبها؛ عَسُر عليك، أو تعذَّر خروجُها، فهل يقول عاقل: إنَّ طريق تخليصها سَوْقها إلى داخل؟ فكذلك النَّظرة إذا أثَّرت في القلب، فإنْ عَجِل الحازمُ، وحَسَم المادَّة من أوَّلها؛ سَهُل علاجُه، وإنْ كرَّر النظر، ونَقَّبَ عن محاسن الصُّورة، ونقلها إلى قلب فارغٍ، فنقشها فيه؛ تمكَّنت المحبَّة، وكلَّما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزالُ تَنْمي حتى يفسدَ القلبُ، ويُعْرِض عن الفكر فيما أُمِر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكابَ المحظورات، ويُلقي القلبَ في التلف.
(1)
ت: «يزعم» .
(2)
ت: «فاجذبها» .
والسَّبَبُ في هذا أنَّ الناظر التذَّت عينُه بأوَّل نظرةٍ، فطلبتِ المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمةً، ولو أنَّه غضَّ أوَّلًا؛ لاستراح قلبُه، وسَلِم.
وتأمَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهْمٌ مَسْمُومٌ من سهام إبليس»
(1)
، فإن السَّهْم
(2)
شأْنُه أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السُّمِّ
(3)
الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرَغه، وإلا قتله ولابدَّ.
قال المرُّوذي
(4)
: قلت لأحمد: الرجلُ ينظرُ إلى المملوكة؟ قال: أخافُ عليه
(5)
الفتنة، كم نظرةٍ قد ألقتْ في قلبِ صاحبها البلابل!.
وقال ابن عباس
(6)
: الشيطان من الرَّجل في ثلاثة: في بصره
(7)
،
(1)
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 314)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 143) من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة بن زفر عن حذيفة. وقال: صحيح. وتعقبه الذهبي بقوله: إسحاق بن عبد الواحد واهٍ، وعبد الرحمن الواسطي ضعفوه.
(2)
ش: «السم» .
(3)
ش: «السهم» .
(4)
أخرج من طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 93).
(5)
ش: «إن خاف عليه» .
(6)
أخرجه وكيع في «الزهد» (3/ 485)، وهناد في «الزهد» (2/ 1426)، ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 92).
(7)
ش: «نظره» .
وقلبه، وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها، وقلبها، وعجُزِها.
فصل
ولمَّا كان النظرُ من أقرب الوسائل إلى المحرَّم اقتضت الشَّريعة تحريمه، وأباحَتْه في موضع الحاجة.
وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريمَ
(1)
الوسائل، فإنَّه يُباح للمصلحة الراجحة [37 ب]، كما حُرِّمت الصَّلاة في أوقات النهي؛ لئلا تكون وسيلة إلى التشبُّه بالكفَّار في سجودهم للشَّمس، وأُبيحت للمصلحة الرَّاجحة، كقضاءِ الفوائت، وصلاة الجنازة، وفعل ذوات الأسباب على الصَّحيح.
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه قال: «النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبْليس، فمن غَضَّ بَصَرَهُ عن محاسن امْرَأَةٍ؛ أوْرَثَ الله قلبَهُ حلاوةً يجِدُها إلى يوم يَلْقَاهُ» ، أو كما قال.
وقال جريرُ بن عبد الله رضي الله عنهما: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفَجْأَة، فأمرني أن أصرف بصري
(3)
.
(1)
ت: «بتحريم» .
(2)
لم أجده في «المسند» ، وهو الحديث الذي سبق تخريجه قريبًا. وقد أخرجه أيضًا الطبراني في «المعجم الكبير» (10363) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف.
(3)
أخرجه مسلم (2159).
ونظرةُ الفَجْأة: هي النظرةُ الأولى؛ التي تقع بغير قصدٍ من الناظر، فما لم يَعْتَمدْه القلبُ؛ لا يُعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمُّدًا؛ أَثِمَ، فأمرَه النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يَصْرِفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره، وأرشد من ابْتُلي بنظرة الفَجْأة أن يداويه بإتيان امرأته، وقال:«إنَّ معَها مِثْل الّذي معها»
(1)
فإن في ذلك التسلِّي عن المطلوب بجنسه.
والثاني: أن النظر يثير قوَّة الشَّهوة، فأمره بتنقيصها بإتيان أهله، ففتنة النظر أصلُ كلِّ فتنةٍ، كما ثبت في الصَّحيح
(2)
من حديث أُسامة بن زيد رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركتُ بَعْدِي فتنةً أضَرَّ على الرِّجالِ من النِّساء» .
وفي صحيح مسلم
(3)
من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقوا الدُّنْيَا، واتَّقُوا النِّساء» .
وفي مسند محمد بن إسحاق السَّراج
(4)
من حديث علي بن أبي
(1)
أخرجه مسلم (1403) من حديث جابر بن عبد الله.
(2)
أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
(3)
رقم (2742).
(4)
لم أجده في المطبوع منه وهو ناقص، ومن طريقه أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 79)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 155، 156)، وأخرجه أيضًا الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 121). وفي إسناده موسى بن هلال النخعي وهو ضعيف.
طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخْوَفُ ما أَخافُ على أُمَّتي النساءُ والخَمْرُ» .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكفُر مَنْ كفر ممَّن مضى إلا من قِبَلِ النساءِ، وكفرُ من بقي مِنْ قِبَل النساء.
فصل
وفي غضِّ البصر عِدَّة فوائد
(1)
:
أحدُها: تخليصُ القلب من ألمِ الحَسْرة، فإنَّ مَنْ أطلق نظرَه دامت حسرتُه؛ فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسالُ البصر، فإنَّه يُريه ما يشتدُّ طلبُه، ولا صبرَ له عنه، ولا وصولَ له إليه، [38 أ] وذلك غايةُ ألمه وعذابه. قال الأصمعي
(2)
: رأيت جاريةً في الطَّواف، كأنَّها مَهَاةٌ، فجعلتُ أنظر إليها، وأملأُ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا! ما شأنُكَ؟ قلت: وما عليكِ من النَّظر؟ فأنشأتْ تقول:
(1)
ذكر شيخ الإسلام ثلاث فوائد منها في «مجموع الفتاوى» (15/ 420 - 427، وتكرر ذكرها في 21/ 252 - 259)، وقد أدرجها المؤلف في كلامه هنا.
(2)
أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 143). والشعر بلا نسبة في «عيون الأخبار» (4/ 22)، و «الزهرة» (1/ 45)، و «حماسة» أبي تمام (2/ 15)، و «بهجة المجالس» (2/ 21)، و «مصارع العشاق» (2/ 194)، و «منازل الأحباب» (ص 299)، و «ديوان الصبابة» (ص 88)، و «الحماسة البصرية» (2/ 121).
وكنتَ متى أرسلْتَ طَرْفَك رائدًا
…
لقلبِكَ يومًا أتعَبَتْك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ
…
عليه ولا عَنْ بعضِه أنتَ صابرُ
والنَّظرة تفعلُ في القلب ما يفعلُ السَّهم في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحتْه، وهي بمنزلة الشَّرارة من النَّار تُرْمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه؛ أحرقتْ بعضَه، كما قيل
(1)
:
كلُّ الحوادث مَبْداها من النَّظر
…
ومُعْظَمُ النَّار من مُسْتَصْغَرِ الشَّررِ
كم نظرةٍ فتكَتْ في قلبِ صاحبها
…
فَتْكَ السِّهام بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَلِّبُهَا
…
في أعينِ الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ
يَسُرُّ مقلتَه ما ضرَّ مهجتَه
…
لا مرحبًا بسرورٍ عاد
(2)
بالضَّرر
والناظر يَرْمي مَنْ نظرَه بسهامٍ غَرَضُها قلبُه وهو لا يَشْعُر، فهو إنما يرْمي قلبَه. ولي من أبيات
(3)
:
يا راميًا بسهام اللَّحْظِ مُجتهدًا
…
أنتَ القتيلُ بِما ترمي فلا تُصبِ
وباعثَ الطَّرفِ يَرتَادُ الشِّفاءَ له
…
تَوقَّهُ إنَّه يأْتيكَ بالعَطَب
(1)
الأبيات بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 87). والأولان ذكرهما المؤلف في «بدائع الفوائد» (ص 817، 1212)، «والداء والدواء» (ص 224).
(2)
ت: «جاء» .
(3)
البيتان من قصيدة للمؤلف في «بدائع الفوائد» (ص 818 - 819). وفي «الفوائد» (ص 107 - 109) ما عدا هذين البيتين.
وقال الفرزدق
(1)
:
تزوَّدَ منها نظرةً لم تَدَعْ له
…
فؤادًا ولم يَشْعُرْ بما قَدْ تزوَّدا
فَلَمْ أرَ مَقْتُولًا وَلَمْ أرَ قاتِلًا
…
بغيرِ سلاحٍ مثلَها حِيْنَ أقصَدا
وقال آخر
(2)
:
ومن كان يُؤْتَى من عدُوٍّ وحاسدٍ
…
فإنِّيَ مِنْ عيني أُتيتُ ومِنْ قلبي
هُما اعْتَوَرَاني نظرةً ثُمَّ فِكْرَةً
…
فما أبقيا لي من رقادٍ ولا لُبّ
وقال آخر
(3)
:
رماني بها طَرْفي فلم تُخْطِ مَقْتَلي
…
وما كلُّ من يُرْمى تُصابُ مَقَاتِلُهْ
إذا مِتُّ فابكُوني قتيلًا لطَرْفِه
…
قتيلُ صديق حاضرٍ ما يُزايلُهْ
وقال ابن المعتز
(4)
:
متيَّمٌ يَرعى نجومَ الدُّجى
…
يَبْكي عليهِ رحمةً عاذِلُهْ
عيني أشاطتْ بدمي في الهَوى
…
فابكُوا قتيلًا بعضُه قاتلُهْ
(1)
له في «ذم الهوى» (ص 95)، وليس في ديوانه.
(2)
البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي في «ديوانه» (ص 140 ضمن «الطرائف الأدبية»)، و «ذم الهوى» (ص 95)، و «نهاية الأرب» (2/ 142).
(3)
بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 154)، و «ذم الهوى» (ص 96).
(4)
له في «ديوانه» (1/ 380)، و «ذم الهوى» (ص 97).
ومثله للمتنبي
(1)
:
وأنا الذي اجْتَلَبَ المَنِيَّةَ طَرْفُهُ
…
فمَنِ المُطَالَبُ والقَتِيلُ القاتِلُ؟!
وقال أيضًا
(2)
:
يا نظرةً نفتِ الرُّقَادَ وغادرتْ
…
في حدِّ قلبي ما بَقيتُ فُلولا
كانت من الكَحْلاءِ سُؤْلي إنَّما
…
أجَلي تَمَثَّل في فؤَادي سُولا
وقال أيضًا
(3)
:
وُقِيَ الأميرُ مِنَ العُيُونِ فإنَّه
…
ما لا يَزُولُ ببأْسِهِ وسَخَائِهِ
يستَأسِرُ البطَلَ الكَمِيَّ بنظرةٍ
…
ويحولُ بَين فُؤادِه وعَزَائِه
وقال الصُّوري
(4)
:
إذا أنت لم تَرْعَ البروقَ اللَّوامحا
…
ونمتَ جَرى مِنْ تحتِك السَّيْلُ سائِحا
(1)
«ديوانه» (3/ 367).
(2)
«ديوانه» (3/ 349).
(3)
«ديوانه» (1/ 132، 133).
(4)
هو عبد المحسن بن محمد، والأبيات له في «ذم الهوى» (ص 100).
غَرَسْتَ الهوى باللَّحظِ ثُمَّ احتقرته
(1)
…
وأهمَلْتَه مُسْتَأْنِسًا مُتسامحا
ولم تَدْرِ حتَّى أينعَتْ شَجَراتُه
…
وهبّت رياحُ الوَجْدِ فيه لواقحا
فأمسيتَ تستدعي من الصبر عازبًا
…
عليك وتستدني من النَّوم نازحا
ودخل أصبهان مُغَنٍّ
(2)
، فكان يتغنَّى بهذين البيتين
(3)
:
سماعًا يا عبادَ الله منِّي
…
وكفُّوا عن مُلاحظةِ المِلاح
فإنَّ الحبَّ آخِرُه المَنايا
…
وأوَّلُهُ شبيهٌ بالمُزاح
وقال آخر
(4)
:
وشادنٍ لمَّا بدا
…
أسْلَمَنِي إلى الرَّدى
بطرفهِ ولُطْفِهِ
…
وظَرْفِه لمَّا بَدا
(1)
ش: «احترمته» .
(2)
ت: «معن» تحريف.
(3)
«ذم الهوى» (ص 98)، و «ديوان الصبابة» (ص 89).
(4)
بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 99).
أردتُ أنْ أصيدَه
…
فصادَ قَلْبِي وعَدا
(1)
وقال آخرُ يعاتب عينه
(2)
:
والله يا بصَري الجاني على جَسَدي
…
لأُطْفِئَنَّ بدمْعِي لوعةَ الحَزَن
تالله
(3)
تطمَعُ أنْ أبكِي هوًى وضَنًى
…
وأنتَ تشبعُ مِن غُمْضٍ ومِن وَسَن
هيهات حتَّى تُرى طَرْفًا بلا نَظَرٍ
…
كما أُرَى في الهوَى شخصًا بلا بَدَن
وقال آخر
(4)
[39 أ]:
يا مَنْ يَرى سُقْمِي يزيـ
…
ـدُ وعِلَّتي أعْيَتْ طَبِيبي
لا تَعْجَبَنَّ فهكذا
…
تَجْني العُيونُ على القُلوب
(1)
ت: «وغدا» .
(2)
«ذم الهوى» (ص 99). والأولان في «مصارع العشاق» (1/ 64)، و «تزيين الأسواق» (2/ 294). والأول مع بيت آخر في «الأغاني» (14/ 117)، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 212) ضمن خبر طويل.
(3)
ت: «بالله» .
(4)
البيتان لأبي عبد الله ابن الحجاج في «ذم الهوى» (ص 99)، و «ديوان الصبابة» (ص 90).
وقال آخر
(1)
:
لواحظُنا تَجْنِي ولا عِلْمَ عندنا
…
وأنفسُنا مأْخوذةٌ بالجَرائِرِ
ولم أَرَ أَغبى من نفوسٍ عفائفٍ
…
تُصَدِّق أخمارَ العُيون الفَواجرِ
ومَنْ كانتِ الأجفانُ حُجَّابَ قلبهِ
…
أذِنَّ على أحشائِه بالفواقِر
وقال آخر
(2)
:
ومستفتح بابَ البلاءِ بنظرةٍ
…
تزوَّدَ منها قلبُه حَسْرة الدَّهْرِ
فوالله ما تدْرِي أيدْري بِما جنتْ
…
على قَلْبِهِ أم أهلكَتْه وما يَدْري؟
وقال آخر
(3)
:
أنا ما بين عدُوَّيْـ
…
ـنِ هُمَا قَلْبِي وطَرْفِي
ينظرُ الطَّرفُ ويَهوى الـ
…
ـقلبُ والمقصودُ حَتْفِي
وقال الخفَاجيُّ
(4)
:
رَمتْ عينَها عَيْني وراحتْ سليمةً
…
فَمَنْ حاكِمٌ بينَ الكَحِيلةِ والعَبْرى
فيا طَرْفُ قد حذَّرتُك النَّظْرَة التي
…
خَلَسْتَ فما راقبت نَهْيًا ولا زَجْرا
(1)
الأبيات لأبي منصور ابن الفضل في «ذم الهوى» (ص 99).
(2)
هما بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 103).
(3)
بلا نسبة في «ذم الهوى» (103).
(4)
هو ابن سنان، والأبيات له في «ديوانه» (ص 104)، و «ذم الهوى» (ص 100).
ويا قلبُ قدْ أرداكَ طَرْفيَ مرَّةً
…
فوَيحَك لِمْ طاوَعْتَه مرَّةً أُخرى؟!
ولي من أبياتٍ لعلَّ معناها مبتكَر:
ألم أقُل لك لا تَسْرقْ ملاحظةً
…
فسارقُ اللَّحْظِ لا ينجُو مِن الدَّرَكِ
نصبتُ طَرْفي له لمَّا بدا شركًا
…
فكانَ قَلْبِي أوْلى منه بالشَّرك
الفائدة الثانية: أنه يُورِثُ القلبَ نورًا وإشراقًا يظهر في العين، وفي الوجه والجوارح، كما أنَّ إطلاقَ البصر يُورثه ظلمةً تظهر في وجهه وجوارِحه. ولهذا ـ والله أعلم ـ ذكر الله سبحانه أنه
(1)
النُّور في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور/35] عقيب قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور/30] وجاءَ الحديثُ مطابقًا لهذا، حتى كأنَّه مشتقٌّ منه، وهو قوله:«النَّظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فمن غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ أورثَ الله قَلْبَه نُورًا»
(2)
الحديث.
الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحَّةَ الفِراسة [39 ب]، فإنَّها من النُّور وثمَرَاته، وإذا استنارَ القلبُ صحَّتِ الفِراسةُ، لأنَّه يصيرُ بمنزلة المِرْآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي، والنظرُ بمنزلة التنفُّس فيها، فإذا أطلق العبدُ نظرَه؛ تنَفَّسَتْ نفسُه الصُّعَداء في مِرْآة قلبه، فطَمَسَتْ نورَها، كما قيل:
(1)
ش: «آية» .
(2)
سبق تخريجه.
مِرْآةُ قلبِكَ لا تُريكَ صَلاحَه
…
والنَّفْسُ فيها دائِمًا تَتَنَفَّسُ
قال شجاع الكَرْماني
(1)
: مَنْ عَمَر ظاهرَه باتِّباع السُّنَّة، وباطنَه بدوام المُراقبة، وغضَّ بصرَه عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشَّهوات، وأكلَ من الحَلال؛ لم تُخطئ فِراستُه. وكان شجاع لا تُخطئ له فراسة. والله سبحانه يَجزي العبدَ على عملِهِ بما هو من جنسِه، فمَنْ غضَّ بَصَرَه عن المحارم؛ عوَّضه الله سبحانه إطلاقَ نورِ بَصِيرتِه، فلمَّا حبسَ بصرَه لله
(2)
؛ أطلق الله له بَصِيرتَه، ومن أطلق بصرَه في المحارمِ؛ حبس الله عنه بَصِيرتَه.
الفائدة الرابعة: أنْ يفتحَ له طرقَ العلم وأبوابَه، ويُسهِّلَ
(3)
عليه أسبابَه، وذلك بسبب نور القلب، فإنَّه إذا استنارَ ظهرتْ فيه حقائقُ المعلوماتِ، وانكشفتْ له بسرعة، ونفَذَ من بعضها إلى بعض. ومن أرسلَ بصره
(4)
تكدَّر عليه قلبُه، وأظلمَ، وانسدَّ عليه بابُ العلم وطُرُقُه.
الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب، وثباتَه، وشجاعتَه، فيجعلُ الله سبحانَه له سلطانَ البصيرة مع سلطان الحجَّة. وفي الأثر: إنَّ الذي يُخالفُ
(1)
بل شاه بن شجاع، وقوله هذا في «حلية الأولياء» (10/ 237)، و «صفة الصفوة» (4/ 43).
(2)
«لله» ساقطة من ت.
(3)
ت: «وسهل» .
(4)
ش: «نظره» .
هواه يفْرَقُ الشَّيطان من ظلِّه، ولهذا يُوجد في المتَّبع لهواه مِنْ ذلِّ القلب وضعفِه، ومهانةِ النَّفس وحقارتِها، ما جعله
(1)
الله لمن آثر هواه على رضاه.
قال الحسن: إنَّهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَتْ بهم البراذين؛ إنَّ ذلَّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلَّ مَنْ عصاه.
وقال بعض الشيوخ: الناسُ يطلبون العزَّ بأبواب
(2)
الملوك، ولا يجدونَه إلا في طاعة الله، ومَنْ أطاع الله؛ فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه [40 أ] فقد عاداه فيما عَصاه فيه، وفيه قِسْطٌ ونصيبٌ من فعل من عاداه بمعاصيه، وفي دعاء القنوت:«إنه لا يَذِلُّ مَنْ واليتَ، ولا يَعِزُّ من عادَيْت»
(3)
.
الفائدة السادسة: أنَّه يُورث القلبَ سرورًا، وفرحةً، وانشراحًا أعظمَ من اللذَّة والسُّرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه وهواه، وأيضًا فإنَّه لما كفَّ لذَّتَه، وحبسَ شهوتَه لله، وفيها مسرّةُ نفسه الأمَّارة؛ أعاضَه الله سبحانه مسرَّةً، ولذَّةً أكمل منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفَّة أعظمُ من لذَّة الذنب! ولا ريبَ أنَّ النفسَ إذا
(1)
ش: «جعله» .
(2)
ت: «في أبواب» .
(3)
أخرجه أحمد (1/ 200)، وأبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي. وهو حديث صحيح.
خالفت هواها؛ أعقَبها ذلك فرحًا، وسرورًا، ولذةً أكملَ من لذَّة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما. وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يُخَلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة، فإنَّ الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه، فهو
(1)
كما قيل:
............................
…
طليقٌ برأْي العَيْنِ وهو أسيرُ
ومتى أسرتِ الشهوةُ والهوى القلبَ تمكَّن منه عدوُّه، وسامَه سوءَ العذَاب، وصارَ
(2)
:
كعُصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَسومُها
…
حياضَ الرَّدَى والطِّفلُ يَلْهُو ويَلْعَبُ
الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه بابًا من أبواب جهنم، فإنَّ النَّظرَ بابُ الشَّهوة الحاملة على مُواقعة الفِعْل، وتحريمُ الربِّ تعالى وشرعُه حجابٌ مانعٌ مِنَ الوصول، فمتى
(3)
هتَكَ الحجابَ ضرِيَ على المحظور، ولم تَقِفْ نفسُه منه
(4)
عند غاية، فإنَّ النفسَ في هذا الباب لا تَقْنَع بغايةٍ تقفُ عندها، وذلك أنَّ لذَّتَه في الشيءِ الجديد، فصاحبُ الطارف لا يُقْنِعُه التليد، وإن
كان
(1)
«فهو» ساقطة من ت.
(2)
البيت مع آخرين بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 279). وهو لمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 44).
(3)
ت: «فمن» .
(4)
«منه» ساقطة من ت.