الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني والعشرون
في غَيْرَةِ المُحبِّين على أحبابهم
لمَّا كان هذا الباب متصلًا بباب إفراد المحبوب بالمحبة، ومن موجباته، فإن الغيرة بحسب قوة المحبة، وقوَّتها بحسب إفراد المحبوب؛ حسُن ذكره بعده.
وأصل الغيرة: الحميَّةُ، والأنفةُ، و
الغيرة نوعان: غيرةٌ للمحبوب، وغيرة عليه
، فالغيرة له فهي الحمية له، والغضب له إذا استهين بحقه، وانتُقصت حرمته، وناله مكروه من عدوه، فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه، فهذه غيرة المحبين حقًّا، وهي غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به، واستحل محارمه، وعصى أمره.
وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب، وماله، وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه، فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفةٌ يكرهها محبوبه، ويمقته عليها، أو يفعل ما يبغضه عليه، ثم يغارُ له بعد ذلك أن يكون في غيره صفةٌ يكرهها ويبغضها.
فالدينُ كلُّه في هذه الغيرة، بل هي الدين، وما جاهد مؤمنٌ نفسه، وعدوَّه، ولا أمر بمعروف، ولا نهى عن منكر إلَّا بهذه الغيرة، ومتى خلت من القلب؛ خلا من الدين، فالمؤمن يغارُ لربه من نفسه، ومن غيره
إذا لم يكن له كما يحب. والغيرة تصفي القلب، وتخرج خبثه، كما يخرج الكير خبث الحديد.
فصل
وأمَّا الغيرة على المحبوب فهي غيرة أنفة المحب، وحميتُه أن يشاركه في محبوبه سواه، وهذه أيضًا نوعان: غيرةُ المحب أن يشاركه غيره في محبوبه، وغيرةُ المحبوب على محبه أن يحبَّ معه غيره.
والغيرةُ من صفات الرب جل جلاله، والأصل فيها قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف/ 33].
ومن [111 ب] غيرته تعالى لعبده وعليه: حميتُه مما يضره في آخرته، كما في الترمذي
(1)
وغيره مرفوعًا: «إن الله يحمي عبد ه المؤمن من الدنيا، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب» .
وفي الصحيحين
(2)
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الكسوف: «والله يا أُمَّة مُحمَّدٍ! ما أحدٌ أغيرَ من الله أن يزني عبدهُ، أو تزْنِي أمَتُهُ» .
وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سرٌّ بديع، قد
(1)
أخرجه الترمذي (2037)، وابن حبان (2474)، والحاكم (4/ 207، 309) من حديث قتادة بن النعمان.
(2)
البخاري (1044)، ومسلم (901) من حديث عائشة.
نبهنا عليه في باب: غضِّ البصر، وأنه يورث نورًا في القلب.
ولهذا جمع الله سبحانه بين الأمر به، وبين ذكر آية النور، فجمع سبحانه بين نور القلب بغض البصر، وبين نوره الذي مثله بالمشكاة لتعلُّق أحدهما بالآخر، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين ظلمة القلب بالزنا وبين ظلمة الوجود بكسوف الشمس، وذكر أحدهما مع الآخر.
وفي الصحيحين
(1)
من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيءٌ أغيرَ من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدٌ أحبَّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أحبَّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرُّسُل» .
وروى الثوري عن حماد بن إبراهيم، عن عبد الله قال:«إن الله ليغار للمسلم فليغَرْ»
(2)
.
وروي أيضًا عن عبد الأعلى، عن ابن عيينة، عن أبيه، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يغارُ فليغَرْ أحدكم»
(3)
.
(1)
البخاري (4634، 4637، 5220، 7403)، ومسلم (2760).
(2)
رواه الطبراني في الأوسط (1076).
(3)
رواه أبو يعلى (5087)، والطبراني في الأوسط (1072)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 327): فيه عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف.
وفي الصحيح
(1)
عنه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغارُ، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم عليه» .
وروى القعنبي
(2)
عن الدَّراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يغارُ، والله أشدُّ غيرةً» .
فصل
وغيرةُ العبد على محبوبه نوعان: غيرةٌ ممدوحةٌ، يحبُّها الله، وغيرةٌ مذمومة، يكرهها الله، فالَّتي يحبُّها الله: أن يغار عند قيام الرِّيبة، والَّتي يكرهها: أن يغار من غير ريبةٍ، بل من مجرَّد سوء الظن، [112 أ] وهذه الغيرة تُفْسدُ المحبة، وتوقع العداوة بين المحبِّ ومحبوبه.
وفي المسند
(3)
وغيره عنه صلى الله عليه وسلم قال: «الغيرةُ غيرتان: فغيرةٌ يُحبُّها الله، وأُخرى يكرهها الله» قلنا: يا رسول الله! ما الغيرة التي يُحبُّ الله؟ قال: «أن تُؤْتى معاصيه، وتُنْتهَك محارمُهُ» قلنا: فما الغيرة التي يكرهُ الله؟
(1)
أخرجه البخاري (5223)، ومسلم (2761).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 310) من طريقه.
(3)
4/ 154. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2478)، والحاكم في المستدرك (1/ 418) من حديث عقبة بن عامر. واللفظ الذي ذكره المؤلف أخرجه الخرائطي (ص 310) من حديث كعب بن مالك.
قال: «غيرةُ أحدكم في غير كُنْهه» .
وفي الصحيح
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من الغيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يكرهُ اللهُ، فالغيرة التي يُحبُّها الله: الغيرة في الريبة، والغيرة التي يكرهها الله: الغيرة في غير ريبة» .
وفي الصحيح
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي» .
وقال عبد الله بن شدَّاد
(3)
: الغيرةُ غيرتان: غيرةٌ يصلح بها الرَّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النَّار.
وروى عبد الله بن لهيعة
(4)
عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة المهري، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد مارية القبطية، وهي حاملٌ بإبراهيم، وعندها نسيبٌ لها قدم معها من مصر، فأسلم، وكان كثيرًا ما يدخل على أُم إبراهيم، وأنه جبَّ نفسه فقطع ما بين رجليه، حتى لم يبق قليلٌ، ولا كثيرٌ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
لم يخرجه البخاري ولا مسلم، وأخرجه أحمد (5/ 445، 446)، وأبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، وابن ماجه (1996) من حديث جابر بن عتيك.
(2)
سبق الحديث.
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 310) عنه.
(4)
أخرجه الخرائطي (ص 310 - 311).
يومًا عليها، فوجد عندها قريبها، فوجد في نفسه من ذلك شيئًا، كما يقع في أنفس الناس، فخرج متغير اللون، فلقيه عمر بن الخطاب فعرف ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله! أراك متغيِّر اللون، فأخبره ما وقع في نفسه من قريب مارية، فمضى بسيفه، فأقبل يسعى حتى دخل على مارية، فوجد عندها قريبها ذلك، فأهوى بالسيف ليقتله، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه، فلمَّا رآه عمر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«إن جبريل أتاني فأخبرني: أن الله عز وجل قد برأها، وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلامًا، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أُسمِّيه إبراهيم» [112 ب].
وقال الواقدي
(1)
: عن محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: كانت سارةُ عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمكثت معه دهرًا لا تُرْزق منه ولدًا، فلمَّا رأت ذلك؛ وهبت له هاجر أمتها، فولدت لإبراهيم، فغارت من ذلك سارة، ووجدتْ في نفسها، وعتبت على هاجر، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبرَّ يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أُذنيها، واخفضيها، والخفضُ هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجرُ في أُذنيها قُرطين، فازدادت بهما حسنًا، فقالت سارة: إنما زدتها جمالًا، فلم
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 311) عنه. ونقل عنه ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 242).
تُقارَّه على كونها معه، ووجد بها إبراهيم وجدًا شديدًا، فنقلها إلى مكة، فكان يزورها كلَّ يومٍ من الشام على البُراق من شغفه بها، وقلَّة صبره عنها.
وفي الصحيح
(1)
من حديث حميد، عن أنس قال: أهدى بعضُ نساء النبي صلى الله عليه وسلم له قصعة فيها ثَرِيدٌ، وهو في بيت بعض نسائه، فضربت يد الخادم، فانكسرت القصعة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الثَّريد ويردُّه في القصعة، ويقول:«كلوا، غارت أُمُّكم» ، ثم انتظر حتى جاءت قصعةٌ صحيحة، فأعطاها التي كُسرتْ قصعتُها.
وقالت عائشة: ما غِرتُ على امرأةٍ قطُّ ما غرتُ على خديجة من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاها، ولقد ذكرها يومًا، فقلت: ما تصنع بعجوز حمراء الشِّدْقَيْن، وقد أبدلك الله خيرًا منها؟ فقال:«والله ما أبدَلني الله خيرًا منها!»
(2)
.
فانظر هذه الغيرة الشَّديدة على امرأةٍ بعدما ماتت، وذلك لفرط محبَّتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تغار عليه أن يذكر غيرها، وكذلك غيرتُها من صفيَّة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم بها المدينة، وقد اتَّخذها لنفسه زوجةً، وعرَّس بها في الطريق، قالت عائشة: تنكرتُ، وخرجتُ أنظرُ،
(1)
أخرجه البخاري (2481، 5225).
(2)
أخرجه البخاري (3821، 3824)، ومسلم (2437).
فعرفني، فأقبل إليَّ، فانقلبت، فأسرع المشي [113 أ]، فلحقني فاحتضنني، وقال:«كيف رأيتها؟» قلت: يهودية بنت يهوديات ــ تعني السَّبْيَ
(1)
ــ.
وفي المسند
(2)
: من حديث الأشعث بن قيس قال: تضيَّفتُ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إلى امرأته، فضربها فحجزتُ بينهما، فرجع إلى فراشه، فقال: يا أشعث! احفظ عني شيئًا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألنَّ رجلًا فيما يضربُ امرأته» .
وذكر حمَّاد بن زيد
(3)
عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة: أن ابن عمر سمع امرأته تكلم رجلًا من وراء جدارٍ، بينها وبينه قرابةٌ لا يعلمها ابن عمر، فجمع لها جرائد، ثم أتاها فضربها، حتى آضَتْ حشيشًا.
وذكر الخرائطي
(4)
عن معاذ بن جبل: أنه كان يأْكل تفاحًا ومعه امرأتُه، فدخل عليه غلامٌ له، فناولته تفاحة قد أكلت منها، فأوجعها معاذٌ ضربًا.
ودخل يومًا على امرأته وهي تطَّلع في خباءٍ أدمٍ، فضربها.
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 311)، وابن ماجه (1980) عن عائشة. وإسناده ضعيف.
(2)
1/ 20. وأخرجه أيضًا أبو داود (2147)، وابن ماجه (1986)، والخرائطي (ص 312)، والحاكم (4/ 175). وإسناده ضعيف.
(3)
أخرج عنه الخرائطي (ص 312).
(4)
(ص 312).
وذكر الثوري
(1)
عن أشعث، عن الحسن: أنَّ امرأة جاءت تشكو زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لطمها، فدعا الرجل ليأْخذ حقها، فأنزل الله ــ عز وجل ــ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [النساء/ 34] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردْنا أمرًا، وأراد الله أمرًا» .
وكان عمرُ بن الخطاب شديد الغيرة، وكانت امرأتُه تخرُج، فتشهدُ الصلاة، فيكره ذلك، فتقول: إن نهيتني انتهيتُ، فيسكتُ امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تمْنَعُوا إماء الله مساجد الله»
(2)
.
وهو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجُب نساءه، وكان عادة العرب: أنَّ المرأة لا تحتجب، لنزاهتهم، ونزاهة نسائهم، ثم قام الإسلام على ذلك، فقال عمر: يا رسول الله! لو حجبت نساءك، فإنَّه يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، [113 ب] فأنزل الله آية الحجاب
(3)
.
ورُفع إلى عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ رجلٌ قد قتل امرأته، ومعها رجلٌ آخر، فقال أولياءُ المرأة: هذا قتل صاحبتنا، وقال أولياءُ الرجل: إنَّه قتل صاحبنا، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضربَ الآخرُ
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 312).
(2)
أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه البخاري (402 ومواضع أخرى)، ومسلم (2399).
فَخِذَيْ امرأته بالسَّيف، فإن كان بينهما أحدٌ فقد قتله، فقال لهم عمر: ما يقول؟ فقالوا: ضرب بسيفه، فقطع فخذي المرأة، فأصاب وسط الرَّجل، فقطعه باثنتين، فقال عمر: إن عادوا فعُدْ. ذكره سعيد بن منصور في سننه
(1)
.
وأخذ بهذا جماعةٌ من الفقهاء، منهم الإمام أحمد وأصحابه قالوا: لو وجد رجلًا يزني بامرأته، فقتلهما، فلا قصاص عليه، ولا ضمان، إلا أن تكون المرأة مُكرهةً؛ فعليه القصاصُ بقتلها، ولكن لا يُقبل قولُ الزوج إلا بتصديق الولي، أو بيِّنةٍ، واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في عدد البيِّنة، فرُوي عنه: أنها رجلان، ورُوِي عنه: لابدَّ من أربعة. ووجهُ هذه الرواية ظاهرُ حديث سعد بن عُبادة أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن وجدتُ رجلًا مع امرأتي؛ أُمهله حتى آتي بأربعة شُهداء؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، فقال: والذي بعثك بالحقّ إن كنتُ لأضربه بالسَّيف غير مصفح! فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون من غيرة سعدٍ؟! لأنا أغيرُ منْهُ، والله أغيرُ منِّي!»
(2)
.
وذكر سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجلٌ، فقتلها، وقتله، فقال عليٌّ: إن جاء بأربعة شُهداء، وإلَاّ دُفع برُمَّتِه.
(1)
لم أجده في المطبوع منه.
(2)
تقدم الحديث.
ووجهُ رواية الاكتفاء باثنين: أنَّ البينة ليست على إقامة الحدِّ، ولكن على وجود السبب المانع من القصاص، فإن الزوج كان له أن يقتل المعتدي على أهله، ولكن لما أنكر أولياءُ القتيل؛ طُولِب القاتل بالبيِّنة فاكتفي برجلين.
ورُفع إلى عمر رجلٌ قد قتل يهوديًّا، فسأله [114 أ] عن قصَّته، فقال: إن فلانًا خرج غازيًا، وأوصاني بامرأته، فبلغني أنَّ يهوديًّا يختلفُ إليها، فكمنتُ له حتى جاء، فجعل ينشد ويقول
(1)
:
وأبيضَ غرَّه الإسلامُ منِّي
…
خَلَوْتُ بعِرْسه ليل التَّمامِ
أبِيتُ على ترائبها ويُمسي
…
على جَرْداءَ لاحقةِ الْحِزام
كأنَّ مواضع الرَّبلات منها
…
فِئامٌ يَنْهضون إلى فِئَام
فقمتُ إليه فقتلته، فأهْدر عمر دمه. وليس في هذين الأثرين مطالبةُ عمر للقاتل بالبيِّنة؛ إذ لعلَّه تيقَّن ذلك، أو أقرَّ به الوليُّ.
والصَّواب: أنه متى قام على ذلك دلالة ظاهرة، لا تحتمل الكذب؛ أغنت عن البينة.
وذكر سفيان بن عُيينة
(2)
: عن الزُّهري، عن القاسم بن محمد، عن
(1)
الأبيات بلا نسبة في عيون الأخبار (4/ 116)، ومصارع العشاق (1/ 75، 278 ـ 279)، والأوائل (1/ 233، 234)، وذم الهوى (ص 488، 489).
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 113). والخبر في طوق الحمامة (ص 26)، ومصارع العشاق (1/ 69)، وذم الهوى (ص 486).
عُبيد بن عُمير: أنَّ رجلًا أضاف إنسانًا من هُذيل، فذهبت جاريةٌ لهم تحتطبُ، فأرادها عن نفسها، فرمته بفهرٍ، فقتلته، فرُفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: ذاك قتيلُ الله لا يُودى أبدًا.
وذكر حمَّاد بن سلمة
(1)
عن القاسم بن محمد: أن أبا السيَّارة أُولع بامرأة أبي جُنْدَب، يُراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل! فإن أبا جُنْدَب إن يعلم بهذا يقتلك، فأبى أن يَنزع، فكلَّمت أخا أبي جُندب، فكلَّمه، فأبى أن ينزع، فأخبرت بذلك أبا جُندب، فقال أبو جُندب: إنِّي مخبرٌ القوم أنِّي ذاهب إلى الإبل، فإذا أظلمت جئتُ، فدخلتُ البيت، فإن جاءك؛ فأدخليه قبلي، فودَّع أبو جُندب القوم، وأخبرهم: أنِّي ذاهبٌ إلى الإبل، فلمَّا أظلم اللَّيلُ، جاء، فكمن في البيت.
وجاء أبو السيَّارة، وهي تطحنُ في ظلِّها، فراودها عن نفسها، فقالت: وَيْحك؟ أرأيت هذا الأمر الذي تدعوني إليه هل دعوتُك إلى شيء منه قط؟ قال: لا، ولكن لا أصبرُ عنك! قالت: ادخل البيت حتى أتهيَّأ لك، فلمَّا دخل البيت، أغلق أبو جندب الباب، ثمَّ أخذه [114 ب] فدقَّه من عنقه إلى عجب ذنبه، فذهبت المرأة إلى أخي أبي جندب، فقالت: أدرك الرجل، فإن أبا جندب قاتله، فجعل أخوه يُناشده، فتركه، وحمله أبو جُندب إلى مدرجة الإبل، فألقاه، فكان إذا مرَّ به إنسانٌ قال
(1)
أخرج عنه الخرائطي (ص 113 - 114).
له: ما شأنُك؟ قال: وقعتُ من بكرٍ فحطمني، وبلغ الخبر عمر فأرسل إلى أبي جندب، فأخبره بالأمر على وجهه، فأرسل إلى أهل المرأة فصدَّقوه، فجلد عمرُ أبا السيَّارة مئة جلدة، وأبطل ديته.
وذكر العباس بن هشام الكلبي
(1)
، عن أبيه: أنَّ عمرو بن حُمَمة الدَّوْسِيَّ أتى مكة حاجًّا، وكان من أجمل العرب، فنظرت إليه امرأةٌ، فقالت: لا أدري وجهُه أحسنُ أم فرسه! وكانت له جُمَّة تُسمَّى الزينة، فكان إذا جلس مع أصحابه، نشرها وإذا قام عقصها، فقالت له المرأة: أين منزلُك؟ قال: نجد، قالت: ما أنت بنجديٍّ، ولا تِهاميٍّ، فاصدُقني! فقال: رجلٌ من أهل السَّرَاة ــ فيما بين مكَّة واليمن ــ ثُمَّ أشار إليها: ارتدفي خلفي، ففعلت، فمضى بها إلى السَّراة، وتبعها زوجُها، فلم يلحقها، فرجع فلما استقرت عنده؛ قطع عروقها، وقال: والله لا تتبعين بعدي رجلًا أبدًا ثم ردَّها إلى زوجها على تلك الحال.
فصل
والله سبحانه يغار على قلب عبد ه أن يكون مُعطلًا من حبه وخوفه، ورجائه، وأن يكون فيه غيره، فإنه سبحانه خلقه لنفسه، واختاره من بين خلقه، كما في الأثر الإلهيِّ:«ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقِّي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتُك له» ، وفي أثر
(1)
أخرجه عنه الخرائطي (ص 114).
ويغارُ على لسانه أن يتعطَّل من ذكره ويشتغل بذكر غيره، ويغار على جوارحه أن تتعطَّل من طاعته، وتشتغل بمعصيته، فيقبح بالعبد أن يغار مولاه الحقُّ [115 أ] على قلبه، ولسانه، وجوارحه، وهو لا يغارُ عليها.
وإذا أراد الله بعبده خيرًا، سلَّط على قلبه ــ إذا أعرض عنه، واشتغل بحبِّ غيره ــ أنواع العذاب، حتى يرجع قلبُه إليه، وإذا اشتغلتْ جوارحُه بغير طاعته؛ ابتلاها بأنواع البلاء.
وهذا من غيرته سبحانه على عبده، وكما أنَّه سبحانه يغار على عبده المؤمن، فهو يغارُ له، ولحُرمته، فلا يُمكِّن المفسد أن يتوصَّل إلى حُرمته؛ غيرةً منه لعبده، فإنَّه سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، فيدفع عن قلوبهم، وجوارحهم، وأهلهم، وحريمهم، وأموالهم، يتولَّى سبحانه الدفع عن ذلك كلِّه غيرةً منه لهم، كما غاروا لمحارمه من نفوسهم، ومن غيرهم. والله تعالى يغار على إمائه وعبيده من المفسدين شرعًا وقدرًا، ومن أجل ذلك حرَّم الفواحش، وشرع عليها أعظم القربات، وأشنع القتلات؛ لشدَّة غيرته على إمائه وعبيده.
فإن عُطِّلت هذه العقوباتُ شرعًا؛ أجراها سبحانه قدرًا.
فصل
ومن غيْرَته سبحانه: غيرتُه على توحيده، ودينه، وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله، بل حال بينهم وبينه؛ غيرةً عليه، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام/ 25]، ولذلك ثبَّط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله، واللَّحاق به؛ غيرةً عليه، كما قال:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة/ 46 ــ 47] فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون، فيسعوا بينهم بالفتنة، فثبَّطهم، وأقعدهم عنهم. وسمع الشِّبليُّ قارئًا يقرأ:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء/ 45] فقال: أتدرون ما هذا الحجاب؟ هذا حجابُ الغيرة، [115 ب] ولا أحدٌ أغير من الله، يعني: أنَّه سبحانه لم يجعل الكفَّار أهلًا لمعرفته.
وهاهنا نوع من غيرة الربِّ تعالى لطيفٌ، لا تهتدي إليه العقول، وهو: أنَّ العبد يُفْتَحُ له بابٌ من الصَّفاء والأُنس، والوجود، فيساكنُه، ويطمئنُّ إليه، وتلتذُّ به نفسه، ويشتغل به عن المقصود، فيغار عليه مولاه الحقُّ، فيخليه منه، ويرُدُّه حينئذٍ إليه بالفقر، والذِّلَّة، والمسكنة، ويُشهده غاية فقره، وإعدامه، وأنَّه ليس معه من نفسه شيء ألبَتَّة، فتعود عزَّةُ ذلك
الأنس والصفاء والوجود ذلةً، ومسكنةً، وفقرًا، وفاقةً، وذرَّةٌ من هذا أحبُّ إليه سبحانه، وأنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء، والأنس المجرّد عن شهود اليقين، وعن شهود الفقر، والذلَّة، والمسكنة. وهذا بابٌ لا يتسع له قلبُ كلِّ واحد.
فصل
ومن الغيرة: الغيرة على دقيق العلم، وما لا يُدركه فهم السامع أن يُذكر له، ولهذه الغيرة قال عليُّ بن أبي طالب: حدِّثُوا الناس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟
وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولُهم إلَّا كان لبعضهم فتنةً. فالعالمُ يغارُ على علمه أن يَبْذُلَه لغير أهله، أو يضعه في غير محلّه، كما قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل لا تمنعوا الحكمة أهلها؛ فتظلموهم، ولا تبذلُوها لغير أهلها؛ فتظلمُوها.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق/ 12] فقال للسائل: وما يُؤمِّنُك أنِّي إن أخبرتك بتفسيرها؛ كفرت؟ فإنك تكذِّب بها، وتكذيبُك بها كفرُك بها.
فالمسألة الدَّقيقة اللطيفة التي تُبْذَلُ لغير أهلها، كالمرأة الحسناء
التي تُهْدَى إلى ضريرٍ مُقْعَد، كما قيل
(1)
:
خَوْدٌ تُزَفّ إلى ضَريرٍ مُقْعَدِ
وكان أبو عليٍّ إذا وقع في خلال مجلسه شيء يشوش الوقت يقول: هذا من غيرة الحق، يُريد ألَّا يجري ما يجري من صفاء [116 أ] الوقت. قال الشاعر
(2)
:
همَّت بإتياننا حتَّى إذا نظرتْ
…
إلى المراةِ نَهاها وجهُها الحسنُ
ما كانَ هذا جَزائي منْ محاسِنها
…
عُذِّبتُ بالهَجْرِ حتى شفَّني الحزَنُ
قال القُشيْرِيُّ
(3)
: وقيل لبعضهم: أتحبُّ أن تراه؟ قال: لا! قيل: ولِمَ؟ قال: أُنَزِّهُ ذلك الجمال عن نظر مثلي. وفي معناه أَنشدوا:
إنِّي لأحسُدُ ناظريَّ عليكا
…
حتى أغُضَّ إذا نظرتُ إليكا
وأراك تخطرُ في شمائلك التي
…
هي قبلتي فأغارُ منك عليكا
قلتُ: وهذه غيرةٌ فاسدةٌ، وغايةُ صاحبها أن يُعْفَى عنه، وأن يعدَّ ذلك
(1)
لأبي عبد الله الحسين بن الحجاج في المنتحل (ص 158). وصدره: وكأنها لما أحلَّت عنده. وبلا نسبة في التمثيل والمحاضرة (ص 136).
(2)
لعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 235)، وبهجة المجالس (2/ 29).
(3)
الرسالة القشيرية (ص 256)، والشعر للبحتري في ديوان الصبابة (ص 114)، وملحق ديوانه (4/ 2625). ولأبي بكر الشبلي في ديوانه (ص 115). وبلا نسبة في حماسة الظرفاء (2/ 104).
في شطحاته المذمومة، وأمَّا أن تُعدَّ في مناقبه، وفضائله أن يُقال له: أتحبُّ أن ترى الله؟ فيقول: لا، ورؤيتُه أعلى نعيم أهل الجنَّة، وهو سبحانه يحبُّ من عبده أن يسأله النَّظر إليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان من دعائه:«اللَّهُمَّ إني أسألُك لذَّةَ النَّظَرِ إلى وجْهِكَ، والشَّوقَ إلى لِقَائك»
(1)
.
وقول هذا القائل: أُنزِّه ذلك الجمال عن نظر مثلي، من خدع الشيطان والنَّفس، وهو يُشبه ما يُحكى عن بعضهم: أنَّه قيل له: ألا تذكره؟ فقال: أنزهه أن يجري ذكره على لساني، وطردُ هذا التنزيه الفاسد أن ينزهه أن يجري كلامه على لسانه، أو يخطُر هو أيضًا على قلبه، وقد وقع بعضهم في شيءٍ من هذا، فلاموه، فأنشد يقول
(2)
:
يقولون زُرْنا واقضِ واجبَ حقِّنا
…
وقد أسقطتْ حالي حقوقَهمُ عنِّي
إذا هم رأَوْا حالي ولم يأْنَفُوا لها
…
ولم يأْنَفُوا منِّي أَنِفْتُ لهم منِّي
وطردُ هذه الغيرة ألَّا يزور بيته؛ غيرةً على بيته أن يزورهُ مثلُه. ولقد لُمْتُ شخْصًا مرَّةً على ترك الصلاة، فقال لي: إنِّي لا أرى نفسي أهلًا أن أدخل بيته. فانظر إلى تلاعب [116 ب] الشَّيطان بهؤلاء!
ومن هذا ما ذكره القُشيريُّ
(3)
، قال: سُئل الشبليُّ متى تستريح؟ فقال:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
البيتان لجحظة البرمكي في ديوانه (ص 178)، وديوان المعاني (2/ 203). وبلا نسبة في ديوان الصبابة (ص 112).
(3)
الأخبار الآتية من الرسالة القشيرية (ص 256 وما بعدها).
إذا لم أرَ له ذاكرًا.
ومات ابنٌ له، فقطَّعتْ أُمُّه شعرها، فدخل هو الحمام، ونوَّر لحيته حتى ذهب شعرها، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: إنَّهم يُعزُّونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديتُ ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي، وموافقةً لأهلي.
ونظير هذا ما يُحكى عن النوري أنه سمع رجلًا يؤذِّن، فقال: طعنةٌ، وسمُّ الموت. وسمع كلبًا ينبح، فقال: لبَّيك، وسعديْك! فسُئل عن ذلك فقال: أمَّا ذاك فكان يذكره على رأْس الغفلة، وأمَّا الكلب فقال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 44].
وسمع الشبلي مرةً رجلًا يقول: جلَّ الله! فقال: أحبُّ أن تُجِلَّه عن هذا.
ويا عجبًا ممَّن يَعُدُّ هذا في مناقب رجلٍ، ويجعله قدوةً، ويزيِّن به كتابه!
وهل شيءٌ أشدُّ على قلب المؤمن، وأمرُّ عليه من ألَّا يرى لربِّه ذاكرًا؟ وهل شيءٌ أقرُّ لعينه من أن يرى ذاكرين لله بكل مكان، وعذرُ هذا القائل أنه لا يرى ذاكرًا لله بحقِّ الذِّكر، بل لا يرى ذاكرًا إلَّا والغفلةُ والسهو مستولٍ على قلبه، فيذكر ربَّه بلسان فارغ من القلب وحضوره في الذكر، وذلك ذكرٌ لا يليقُ به، فيغارُ محبُّه أن يُذكر بهذا الذكر، فيحبُّ ألا يسمع أحدًا يذكره هذا الذِّكر. ولمَّا اشترك الناس في هذا الذِّكر أخبر أنَّ راحته ألَّا يرى له ذاكرًا، هذا أحسنُ ما يُحمل عليه كلامه، وإلا
فظاهره إلى العداوة أقربُ منه إلى المحبة، وليس هذا حال الشبلي، فإن المحبة كانت تغلب عليه، ومع ذلك فهذا من شطحاته التي يُرجى أن تُغْفر له بصدقه، ومحبته، وتوحيده، لا أنها مما يُحْمَدُ عليه ويُقتدى به فيه.
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يذكروه على جميع أحوالهم، وإن كان ذكرهم [117 أ] إيَّاه مراتب، فأعلاها ذكرُ القلب، واللسان مع شهود القلب للمذكور، وجمعيتُه بكليته عليه بأحب الأذكار إليه، ثُمَّ دونه ذكر القلب واللسان، وإن لم يشاهد المذكور، ثم ذكر القلب وحده، ثم ذكر اللسان وحده، فهذه مراتب الذكر، وبعضُها أحبُّ إلى الله من بعض.
وكان طردُ قول الشبليِّ أنَّ راحته ألَّا يرى لله مصليًا، ولا لكلامه تاليًا، ولا يرى أحدًا ينطقُ بالشهادتين، فإن هذا كله من ذكره، بل هو أجل أنواع ذكره، فكيف يستريحُ قلبُ المحب؛ إذا لم ير من يفعل ذلك؟!
والله سبحانه يحبُّ أن يُذكر، ولو كان من كافر.
وقال بعضُ السلف: إن الله يُحب أن يُذكر على جميع الأحوال إلا في حالة الجماع، وقضاء الحاجة.
وأوحى الله ــ عز وجل ــ إلى موسى أن اذكرني على جميع أحوالك.
والله تعالى لا يُضيع أجر ذكر اللسان المجرَّد، بل يثيب الذاكر، وإن كان قلبه غافلًا، ولكن ثوابٌ دون ثواب.
قال القشيريُّ
(1)
: وسمعتُ الأستاذ أبا علي يقولُ في قول النبي صلى الله عليه وسلم في مبايعته فرسًا من أعرابي، وأنه استقاله، فأقاله، فقال له الأعرابيُّ: عمرك الله؛ فمن أنت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «امْرُؤٌ من قُريش» . فقال له بعضُ الحاضرين: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك! قال أبو علي: فإنما قال: امرؤٌ من قريش غيرةً، وإلا كان واجبًا عليه التعرُّف إلى كل أحدٍ أنه من هو، ثُمَّ إن الله أجرى على لسان ذلك الصحابي تعريف الأعرابي.
فيقال: من العجب أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غار أن يذكر: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ الذي لا يعرفه، وهو كان دائمًا يذكرُ ذلك لأعدائه من الكفَّار سرًّا وجهرًا، ليلًا ونهارًا، ولا يغارُ من ذلك، فكيف يُظنُّ به: أنه غار أن يعرّف ذلك المسكين: أنه رسول الله؟ هذا من خيالات القوم، وتُرَّهاتِهِم، وإنما سترَ عنه ذلك الوقت معرفته لحكمةٍ لطيفةٍ، فهمها الصَّحابيُّ، وصرَّح بها للأعرابي، وهي: أن هذا الأعرابي كان جافيًا [117 ب] جلفًا، فأحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفه جفاءه وجلافته بطريق لا يُبكته بها، ويعرف من نفسه أنه أهلٌ لذلك، فكأنه يقول بلسان الحال: كفاك جفاءً أن تجهلني حتى تسألني: من أنا، فلما فهم الصحابي ذلك بلطف إدراكه، ودقَّة فهمه فبادأه به، وقال: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك!
ثم ذكر القُشيريُّ من كلام الشِّبلي أنه قال: غيْرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله، وهذا كلامٌ حسن.
(1)
الرسالة القشيرية (ص 256).
قال القُشيريُّ
(1)
: والواجب أن يقال: الغيرةُ غيرتان: غيرة الحق على العبد. وهو أن لا يجعله للخلق، فيضن به عليهم، وغيرة العبد للحق، وهو ألَّا يجعل شيئًا من أحواله وأنفاسه لغير الحقِّ سبحانه، فلا يُقال: أنا أغارُ على الله، ولكن يُقال: أنا أغارُ لله، قال: فإذًا الغيرة على الله جهلٌ، وربما يُؤدِّي إلى ترك الدِّين. والغيرة لله تُوجب تعظيم حقوقه، وتصفية الأعمال له، فمن سنَّة الحقِّ مع أوليائه: أنَّهم إذا ساكنوا غيرًا، أو لاحظوا شيئًا، أو صالحوا بقلوبهم شيئًا يُشوش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغةً، كآدم لما وطَّن نفسه على الخلود في الجنَّة؛ أخرجه منها، وإبراهيم الخليل لما أعجبه إسماعيل أمرهُ بذبحه، حتى أخرجه من قلبه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات/ 103] وصفَّى سرَّه منه، أمره بالفداء عنه.
وقال بعضُهم: احذره، فإنه غيور، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه.
وقيل: الحقُّ تعالى غيور، ومن غيْرته: أنه لم يجعل إليه طريقًا سواه.
وقال السَّريُّ لرجل عارفٍ: بي علَّةٌ باطنةٌ؛ فما دواؤُها؟ قال: يا
(1)
الرسالة القشيرية (ص 257).
سَرِيُّ! إنه غيورٌ، لا يراك تُساكنُ غيره، فتسقط من عينه. فهذه غيرةٌ صحيحة.
فصل
وهاهنا أقسامٌ أُخرُ من الغيرة مذمومة، منها: غيرةٌ يحمل عليها سوءُ الظَّنِّ، فيؤذي بها المُحبُّ محبوبه، ويُغْري قلبه عليه بالغضب، وهذه الغيرةُ يكرهُها الله؛ إذا كانت في غير ريبةٍ.
ومنها: غيرةٌ تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقُّه [118 أ]، كما ذُكر عن جماعة أنهم قتلوا محبوبيهم.
وكان ديكُ الجن الشاعر
(1)
له غلام وجاريةٌ في غاية الجمال، يهواهما جميعًا، فدخل المنزل يومًا، فوجد الجارية معانقةً للغلام تقبِّله، فشدَّ عليهما، فقتلهما، ثم جلس عند رأس الجارية، فبكاها طويلًا، ثمَّ قال
(2)
:
يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها
…
وجنى لها ثمر الرَّدى بيديها
روَّيْتُ من دمها الثَّرى ولطالما
…
روَّى الهوى شفتيَّ منْ شفتَيْها
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 312 - 313). والخبر والشعر في الزهرة (1/ 138، 139)، والأغاني (14/ 57)، ووفيات الأعيان (2/ 359)، وتزيين الأسواق (2/ 21، 22)، وذم الهوى (ص 470 - 471).
(2)
الأبيات في ديوانه (ص 224 - 226) والمصادر السابقة.
فوَحَقِّ عينيها فما سكن الثَّرى
…
شيءٌ أعزُّ عليَّ من عينيها
وأجلتُ سيفي في مجال خناقها
…
ومدامعي تجري على خدَّيها
ما كان قتْلِيها لأنِّي لمْ أكنْ
…
أبكي إذا سقط الغُبَارُ عليها
لكن بخلتُ على سِواي بِحُسْنِها
…
وأنِفْتُ من نظر الغُلام إليها
ثم جلس عند رأس الغلام، فبكى، وأنشأ يقول
(1)
:
أشفقتُ أن يَرِد الزمانُ بغدرِه
…
أو أُبْتَلى بعد الوفاءِ بهجرِهِ
قمرٌ أنا استخرجتُه من دَجْنةٍ
…
بمودَّتي وجنيتُه من خِدْرِهِ
فقتلته وله عليَّ كرامةٌ
…
مِلْءَ الحشا وله الفؤادُ بأسره
عهدي به ميْتًا كأحْسَنِ نائمٍ
…
والدَّمعُ ينحر مُقلتي في نحره
لو كان يدري المَيْتُ ماذا بعْدَهُ
…
بالحيِّ منه بكى له في قبرِهِ
غصصٌ تكاد تفيض منها نفسُه
…
ويكاد يخرج قلبُه منْ صدره
فصل
وقد يغار المحبُّ على محبوبه من نفسه، وهذا من أعجب الغيرة، وله أسباب:
منها: خشيةُ أن يكون مفتاحًا لغيره، كما ذُكر
(2)
أنَّ الحسن بن
هانئ
(1)
ديوانه (ص 108 - 110).
(2)
أخرج الخبر والشعر الخرائطي (ص 314)، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (22/ 323). واللامية لعلي بن عبد الله الجعفري في سمط اللآلي (1/ 264).
وعليَّ بن عبد الله الجعفريَّ اجتمعا، فتناشدا، فأنشد الحسنُ:[118 ب]
ولما بدا لي أنَّها لا تَوَدُّني
…
وأنَّ هواها ليس عني بمنجلي
تمنَّيتُ أنْ تُبلى بغيري لعلها
…
تذوقُ حراراتِ الهوى فترقَّ لي
فأنشده عليٌّ
(1)
:
ربما سرَّني صُدودُك عنِّي
…
وطلابيك وامتناعك مني
حذرًا أن أكون مفتاح غيري
…
فإذا ما خلوت كنتَ التمني
وكان بعضهم يمتنع من وصف محبوبه، وذكر محاسنه؛ خشية تعريضه لحب غيره له، كما قال عليُّ بن عيسى الرافقي
(2)
:
ولست بواصف أبدًا خليلي
…
أُعرِّضُه لأهواء الرِّجال
وما بالي أشوِّقُ قلبَ غيري
…
ودونَ وصاله سترُ الحِجال
وكثيرٌ من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره، فكان ذلك سبب فراقها له، واتِّصالها به.
(1)
البيتان له في نصرة الثائر (ص 377)، وديوان الصبابة (ص 115). ولعلي بن المبارك الأحمر في معجم الشعراء (ص 285). ولعلي بن محمد العلوي في الزهرة (1/ 126).
(2)
انظر: اعتلال القلوب (ص 314) وفيه: أنشد، والبيتان للحكم بن قنبر في المحب والمحبوب (1/ 77). ولإبراهيم بن مهدي ويروى للحكم بن قنبر في خاص الخاص (ص 376، 377). ولصاحب البصرة في ديوان المعاني (1/ 285).
فصل
ومنها: أن يحمله فرطُ الغيرة على أن يُنزِّل نفسه منزلة الأجنبي، فيغار على المحبوب من نفسه، ولا يُنكرُ هذا، فإن في المحبة عجائب، وقد قال أبو تمام الطَّائي
(1)
:
بنفسي من أغارُ عليه منِّي
…
وأحسدُ أهله نظري إليه
ولو أني قدرتُ طمست عنه
…
عيون النَّاس من حذري عليه
حبيبٌ بثَّ في جسمي هواه
…
وأمسك مُهجتي رَهْنًا لديه
فرُوحي عنده والجسمُ خالٍ
…
بلا رُوحٍ وقلبي في يديه
وقال آخر
(2)
:
يا منْ إذا ذُكر اسمُه في مجلس
…
لذَّ الحديثُ به وطاب المجلس
إنِّي لمن نظري أغارُ وإنَّني
…
بك عن سواي من الأنام لأنفسُ
نفسي فداؤُك لو رأيت تلدُّدي
…
خضل المدامع مُطرقًا أتنفَّسُ
لعلمت أنِّي في هواك مُعذَّبٌ
…
ومن الحياة وروحها مستيئسُ [119 أ]
(1)
كما في اعتلال القلوب (ص 313)، وديوان الصبابة (ص 115). ولا توجد في ديوانه.
(2)
الأبيات لابن طيسلة في اعتلال القلوب (ص 314). والأولان في ديوان الصبابة (ص 115).