الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[97 ب]
الباب العشرون
في علامات المحبَّة وشواهدها
وقبل الخوض في ذلك لابدَّ من
ذكر أقسام النفوس ومحابِّها
، فنقول:
النفوس ثلاثة: نفسٌ سماويةٌ عُلوية، فمحبتها منصرفةٌ إلى المعارف، واكتساب الفضائل، والكمالات الممكنة للإنسان، واجتناب الرذائل، وهي مشغوفةٌ بما يقرِّبها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوْتُها، وغذاؤُها، ودواؤُها، واشتغالُها بغيره هو داؤُها.
ونفسٌ سبعيةٌ غضبيةٌ، فمحبتُها منصرفةٌ إلى القهر، والبغي، والعلوِّ في الأرض، والتكبُّر، والرِّئاسة على الناس بالباطل، فلذَّتها في ذلك، وشغفُها به.
ونفسٌ حيوانيةٌ شهوانيةٌ، فمحبَّتها منصرفةٌ إلى المأْكل، والمشرب، والمنكح، وربما جمعت الأمرين، فانصرفت محبَّتُها إلى العلوِّ في الأرض، والفساد، كما قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص/4]. وقال في آخر السورة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص/83].
والحبُّ في هذا العالم دائرٌ بين هذه النفوس الثلاثة، فأيُّ نفسٍ منها صادفت ما يلائم طبعها؛ استحسنتهُ ومالتْ إليه، ولم تصغ فيه لعاذل، ولم يأخذها فيه لومةُ لائم، وكلُّ قسم من هذه الأقسام يرون أنَّ ما هم فيه أولى بالإيثار، وأنَّ الاشتغال بغيره، والإقبال على سواه غبنٌ، وفوات حظٍّ، فالنَّفسُ السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبةٌ طبيعية بها مالت إلى أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم.
فالملائكةُ أولياء هذا النوع في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي [98 أ] أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/30 ــ 32].
فالملَك يتولَّى من يناسبه بالنُّصح له، والإرشاد، والتَّثبيت، والتعليم، وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوِّه عنه، والاستغفار له إذا زلَّ، وتذكيره إذا نسي، وتسليته إذا حزن، وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وإيعاد صاحبه بالخير، وحضِّه على التصديق بالوعد، وتحذيره من الرُّكون إلى الدُّنيا، وتقصير أمله، وترغيبه فيما عند الله، فهو أنيسُه في الوحدة، ووليُّه، ومعلِّمه، ومثبّتُه، ومسكِّن جَأْشِه، ومرغِّبه في الخير، ومُحذّره من الشرِّ، يستغفر له إن أَساء، ويدعو له بالثبات إن أحسن، وإن بات طاهرًا يذكر الله؛ بات معه في شعاره، فإن
قصده عدوٌّ له بسوءٍ وهو نائمٌ؛ دفعه عنه.
فصل
والشياطين أولياء النوع الثاني، يخرجونهم من النور إلى الظلمات. قال الله تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل/63] وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج/4] وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء/119 ــ 121]، وقال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف/50].
فهذا النوعُ بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبةٌ طبعية، بها مالت إلى أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، فالشياطينُ تتولاهم بضدِّ ما تتولى به الملائكة من ناسبهم، فتؤُزُّهم إلى المعاصي أزًّا، وتزعجهم إليها إزعاجًا، لا يستقرُّون معه، ويزينون لهم القبائح، ويخففونها على قلوبهم، ويحلونها في نفوسهم، ويثقلون عليهم الطاعات، [98 ب] ويُثبِّطونهم عنها، ويقبِّحُونها في أعينهم، ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام، وما لا يفيد، ويزيِّنونه في أسماع من يسمعه منهم، يبيتُون معهم حيث باتوا،
ويقيلون معهم حيث قالوا، ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، يأكلون معهم، ويشربون معهم، ويجامعون معهم، وينامون معهم.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء/38]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف/36 ــ 38].
فصل
وأما النوع الثالث؛ فهم أشباه الحيوان، ونفوسهم أرضيةٌ سفليةٌ، لا تبالي بغير شهواتها، ولا تريد سواها.
إذا عرفت هذه المقدمة فعلامات المحبة قائمةٌ في حقّ كل نوع بحسب محبوبه ومراده، فمن تلك العلامات يُعرف من أيِّ هذه الأقسام هو، فنذكر فصولًا من علامات المحبة التي يُستدلُّ بها عليها:
فمنها: إدمانُ النظر إلى الشيء، وإقبال العين عليه، فإنَّ العين باب القلب، وهي المعبِّرةُ عن ضمائره، والكاشفة لأسراره، وهي أبلغ في ذلك من اللسان؛ لأن دلالتها حاليةٌ بغير اختيار صاحبها، ودلالةُ اللسان لفظيةٌ تابعةٌ لقصده، فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيفما دار،