الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني عشر
في سَكْرَةِ العُشَّاق
ولابدَّ قبل الخوض في ذلك من بيان
حقيقة السُّكْرِ وسببه
وتَولُّده، فنقول: السُّكْر لذّةٌ يغيبُ معها العقلُ الذي يُعْلَم به القولُ، ويحصل معه التمييز. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء/43] فجعل الغاية التي يزول بها حكمُ السكر أن يعلم ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقولُ فهو في السُّكْر، وإذا علم ما يقول خرج عن حكمه، وهذا هو حدُّ السكران عند جمهور أهل العلم.
قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: بماذا يُعلم أنَّه سكران؟ فقال: إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره، ونعله من نعل غيره.
ويُذْكر عن الشافعي رحمه الله تعالى: أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سرَّه المكتوم.
قال محمد بن داود الأصبهاني: إذا عزبت عنه الهُموم، وباح بسرِّه المكتوم.
فالسُّكر يجمع مَعْنَيين: وجودَ لذَّة، وعدم تمييز. والذي يقصِد السُّكرَ قد يقصد أحدهما، وقد يقصدُ كليهما، فإنَّ النَّفس لها هوًى وشهواتٌ تلتذُّ بإدراكها، والعلم بما في تلك اللذّات من المفاسد العاجلةِ والآجلة يمنعُها من تناوُلِها، والعقلُ [57 أ] يأْمرُها بأن لا تفعلي،
فإذا زالَ العقل الآمرُ، والعلمُ الكاشفُ؛ انبسطتِ النفسُ في هواها، وصادفتْ مجالاً واسعًا.
وحرَّم الله سبحانه السُّكْرَ لشيئين ذكرهما في كتابه في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة/91] فأخبر سبحانه: أنَّه يُوجب المفسدة الناشئة من النفس بواسطة زوال العقل، ويمنعُ المصلحة التي لا تَتِمُّ إلا بالعقل.
وقد يكون سبب السُّكر ألمًا، كما يكونُ لذَّةً، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج/1 ــ 2] وقد يكونُ سببه قوَّة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامُه، وتتغيَّرُ أفعالُه بحيثُ يزول عقلُه، وربما قتله الفرحُ بسببٍ طبيعيٍّ، وهو انبساطُ دم القلب انبساطًا خارجًا عن العادة، والدَّمُ حاملُ الحارِّ الغريزي، فيبرُد القلبُ بسبب انبساط دمِه، فيحدث الموتُ.
وقد جرى هذا لمحمد
(1)
بن طُولون أميرِ مصر، فإنه مرَّ بصيادٍ في يوم باردٍ، وعنده بُنَيٌّ له، فرقَّ عليهما، وأمر غلامه أن يدفع إليه ما معه من
(1)
كذا في النسختين «محمد» . والصواب «أحمد» ، وهو صاحب مصر والشام.
الذهب، فصبَّه في حِجْره، ومضى، فاشتدَّ فرحُه به، فلم يحمل ما ورد عليه من الفرح، فقضى مكانه، فعاد الأمير من شأنه، فوجد الرجل ميِّتًا، والصَّبيُّ يبكي عند رأسه، فقال: منْ قتله؟ فقال: مرَّ بنا رجلٌ ــ لا جزاه الله خيرًا ــ فصبَّ في حِجْر أبي شيئًا، فقتله مكانه، فقال الأمير: صدقَ، نحنُ قتلناه! أتاه الغنى وهلةً واحدة، فعجز عن احتماله، فقتله، ولو أعطينْاه ذلك بالتدريج لم يقتلْه، فحرص على الصَّبي أن يأخذ الذهب فأبى، وقال: والله لا أُمسك شيئًا قتل أبي!
والمقصودُ أنَّ السُّكْرَ يُوجب اللَّذة، ويمنعُ العلم، فمنه السُّكْرُ بالأطعمة [57 ب] والأشربة، فإنَّ صاحبَها يحصل له لذَّةٌ وسرورٌ بها، يحملُه على تناوُلها، لأنها تغيِّب عنه عقله، فتغيِّب عنه الهموم والغموم، والأحزان تلك الساعة، ولكن يغْلَطُ في ذلك، فإنَّها لا تزولُ، ولكن تتوارى، فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفرَه، فيدعُوه عَوْدُها إلى العَوْد، كما قال الشاعر
(1)
:
وكأْسٍ شربتُ على لذَّةٍ
…
وأُخرى تَداوَيتُ مِنْها بِها
ومن النَّاس من يقصدُ بها منفعة البدن، وهو غالطٌ، فإنَّه يترتب عليها من المضرَّة المتولِّدة عن السُّكْر ما هو أعظمُ من تلك المنفعة بكثير، واللَّذَّة الحاصلةُ بذكر الله والصَّلاة عاجلًا وآجلًا أعظمُ، وأبقى، وأدفع
(1)
البيت للأعشى في «ديوانه» (ص 173).
للهموم والغموم والأحزان.
وتلك اللَّذَّة أجلبُ شيءٍ للهُموم والغُموم عاجلًا وآجلًا، ففي لذَّة ذكر الله، والإقبال عليه، والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشَّريفة العظيمة، السَّالمة عن المفاسد الدَّافعة للمضارِّ: غنىً وعِوَضٌ للإنسان
ــ الذي هو إنسانٌ ــ عن تلك اللَّذَّة النَّاقصة القاصرة المانعة لما هو أكملُ منها، الجالبة لألمٍ أعظم منها.
فصل
ومن أسباب السُّكْر حبُّ الصُّوَر، فإنَّه إذا استحكم الحبُّ، وقوِيَ؛ أسكر المُحِبَّ، وأشعارُهم بذلك مشهورةٌ كثيرةٌ، ولاسيَّما إذا اتَّصلَ الجماعُ بذلك الحُبِّ، فإنَّ صاحبه ينقصُ تمييزه، أو يعدمُ في تلك الحالة، بحيث لا يميِّز، فإن انضاف ذلك السُّكر إلى سُكْر الشراب، بحيث يجتمعُ عليه سُكْرُ الهوى، وسُكْرُ الخمر، وسُكْرُ لذَّة الجِماع؛ فذلك غاية السُّكْر. ومنه ما يكون سببُه حبَّ المال، والرِّئاسة، وقوَّة الغضب، فإنَّ الغضب إذا قَوِيَ أوجبَ سكرًا يقرُب مِنْ سُكْرِ الخمر.
ويدخل ذلك في الإغلاق الذي أبطل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق فيه بقوله: «لا طلاق في إغْلاق» رواه أبو داود
(1)
، وقال: أظنُّه الغضب.
(1)
رقم (2193). وأخرجه أيضًا أحمد (6/ 276)، وابن ماجه (2046)، وهو حديث حسن، انظر:«تلخيص الحبير» (3/ 210).
وفسَّره الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أيضًا بالغضب.
وممَّا يدُلُّ على صحَّة ذلك قولُهُ تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس/11] قال السَّلف في تفسيرها: [58 أ] هو الرَّجل يدعو على نفسه وأهله في وقت الغضب من غير إرادةٍ منه لذلك، فلو استجابَ الله دعاءَه؛ لأهلَكه، وأهلك من دعا عليه، ولكن لرحمته لما علم أنَّ الحاملَ له على ذلك سُكْرُ الغضب، لا يُجيب دعاءَه.
ومن هذا قولُ الواجد لراحلته بعد يأْسه منها، وإيقانه بالهلاك: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفرحِ»
(1)
ولم يكن بذلك كافرًا؛ لعدم قصْدِه.
وذكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك تحقيقًا لشدَّة الفرح؛ الذي أفضى به إلى ذلك. وإنَّما كانت هذه الأشياء قد تُوجب السكر؛ لأن السُّكر سببُه يُوجب اللذَّة القاهرة؛ التي تغمرُ العقل، وسببُ اللذَّة إدراكُ المحبوب، فإذا كانت المحبَّةُ قويَّةً، وإدراكُ المحبوب قويًّا، والعقلُ ضعيفًا؛ حدث السُّكر، لكن ضعف العقل يكون تارةً من ضعف المحبِّ، وتارةً من قوَّة السَّبب الوارد، ولهذا يَحْصُل من السُّكْر للمبتدئين في إدراك الرئاسة والمال والعشق والخمر ما لا يحصُل لمن اعتادَ ذلك، وتمكَّن فيه.
(1)
أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747) من حديث أنس.