الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التأليف على الإيمان به، وطاعته بكل طريقٍ؛ كان إعراضُه عنه كمالًا بالنسبة إليه، وحالُ النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ.
فصل
إذا عُرف هذا، فأقسامُ اللذّات ثلاثةٌ: لذَّةٌ جُثمانية، ولذة خيالية وَهْمِية، ولذَّةٌ عقليةٌ رُوحانية.
ف
اللذَّة الجثمانيةُ:
لذَّةُ الأكل، والشُّرب، والجماع، وهذه اللذَّة يشتركُ فيها مع الإنسان الحيوانُ البهيمُ، فليس كمالُ الإنسان بهذه اللذَّة؛ لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها، ولأنَّها لو كانت كمالًا لكان أفضلُ الإنسان، وأشرفُهم، وأكملُهم أكثرَهم أكلًا، وشربًا، وجماعًا، وأيضًا: لو كانت كمالًا؛ لكان نصيبُ رُسُل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكملَ من نصيب أعدائه. فلمَّا كان الأمرُ بالضدّ؛ تبيَّن أنَّها ليست في نفسها كمالًا، وإنَّما تكون كمالًا إذا تضمَّنت إعانةً على اللذَّة الدائمة العظمى، كما تقدَّم.
فصل
وأمَّا اللذَّة الوهميَّةُ الخيالية: فلذَّةُ الرِّئاسة، والتعاظُم على الخلق، والفخر، والاستطالة عليهم.
وهذه اللذَّة وإن كان طُلّابُها أشرف نفوسًا من طلَّاب اللذَّة الأولى؛ فإن آلامَها وما تُوجبه من المفاسد والمضار أعظمُ من التذاذ النَّفس بها،
فإنَّ صاحبَها منتصبٌ لمعاداة كلِّ منْ تعاظم وترأَس عليه. ولها شروطٌ وحقوقٌ [62 ب] تُفوِّت على صاحبها كثيرًا من لذاته الحسِّيَّة، ولا يتمُّ إلا بتحمُّل مشاقّ وآلام أعظمَ منها. فليست هذه في الحقيقة بلذَّةٍ؛ وإن فرحت بها النفسُ، وسُرَّت بحصولها.
وقد قيل: إنَّه لا حقيقة للذَّة في الدُّنيا، وإنَّما غايتُها دفعُ آلامٍ، كما يُدفع ألمُ الجوع، والعطش، وألمُ الشهوة، بالأكل، والشرب، والجماع، وكذلك يُدفع ألمُ الخمول وسقوطِ القَدْرِ عند الناس بالرِّئاسة والجاه.
والتحقيقُ: أنَّ اللذَّة أمرٌ وجوديٌّ يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضادِّ.
فصل
وأمَّا اللذَّة العقليةُ الرُّوحانية: فهي كلذَّةِ المعرفة، والعلم، والاتصاف بصفات الكمال: من الكرم، والجود، والعفَّة، والشَّجاعة، والصبر، والحِلْمِ، والمروءة وغيرها، فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذَّات، وهو لذَّةُ النَّفس الفاضلة العُلوية الشريفة، فإذا انضمَّت اللذَّة بذلك إلى لذَّة معرفة الله تعالى، ومحبَّته، وعبادته وحده لا شريك له، والرِّضا به؛ عوضًا من كلِّ شيءٍ ــ ولا يُتعوَّض بغيره عنه ــ فصاحبُ هذه اللذَّة في جنَّةٍ عاجلةٍ نِسْبتُها إلى لذَّاتِ الدنيا، كنسبة لذَّة الجنَّة إلى لذَّة الدنيا، فإنه ليس للقلب والرُّوح ألذُّ، ولا أطيبُ، ولا أحلى، ولا أنعمُ من محبَّةِ الله، والإقبالِ عليه، وعبادته وحده، وقرة العين به، والأنس بقربه،
والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرَّةٍ من هذه اللَّذة لا يُعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا؛ وكذلك كان أدنى مثقال ذرَّةٍ من إيمانٍ بالله ورسوله يُخَلِّص من الخلود في دار الآلام، فكيف بالإيمان الذي يمنعُ دخولها؟
قال بعض العارفين: من قرَّت عينهُ بالله؛ قرَّت به كلُّ عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله؛ تقطَّعت نفسه حسرات على الدنيا، ويكفي في فضل هذه اللذَّة وشرفها: أنَّها تُخرج من القلب ألمَ الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا، حتى إنَّه ليتألَّم بأعظم ما يلتذُّ به أهلُها، ويفِرُّ منه فرارهم من المؤلم. وهذا موضعٌ الحاكمُ فيه الذوقُ، لا مجرَّدُ لسان العلم.
وكان بعضُ العارفين يقول: مساكين أهل الدُّنيا، [63 أ] خرجوا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيبَ نعيمها، فيقال له: وما هو؟ فيقول: محبَّةُ الله، والأنسُ به، والشَّوقُ إلى لقائه، ومعرفة أسمائه وصفاته.
وقال آخر: أطيبُ ما في الدُّنيا: معرفتُه، ومحبَّتُه، وألذُّ ما في الآخرة: رؤيتُه، وسماعُ كلامه بلا واسطة.
وقال آخر: والله إنَّه ليَمُرُّ بالقلب أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهل الجنَّة في مثل هذه الحال إنَّهم لفي عيش طيِّب. وأنت ترى محبَّة من في محبَّتِه عذاب القلب والرُّوح؛ كيف تُوجب لصاحبها لذَّةً يتمنَّى: أنَّه لا يُفارقه حبُّه؟
كما قال شاعرُ الحماسة
(1)
:
تشكَّى المحبُّون الصَّبابَةَ ليتني
…
تحمَّلْتُ ما يَلْقَوْنَ منْ بينهم وَحدِي
فكانتْ لقلبي لذَّةُ الحبِّ كلُّها
…
فلم يَلْقَها قبلي مُحِبٌّ ولا بَعدِي
قالت رابعة
(2)
: شَغلُوا قلوبهم بحبِّ الدُّنيا عن الله، ولو تركوها؛ لجالت في الملكوت، ثمَّ رجعت إليهم بطرائف الفوائد.
وقال سَلْم الخوّاص
(3)
: تركتموه، وأقبل بعضُكم على بعض، ولو أقبلتم عليه؛ لرأيتُم العجائب.
وقالت امرأةٌ من العابدات
(4)
: لو طالعتْ قلوب المؤمنين بفكرها ما ذُخر لها من حُجُب الغيوب من خير الآخرة؛ لم يصف لها في الدُّنيا عيش، ولم تقرَّ لها عين في الدنيا.
وقال بعضُ المحبِّين
(5)
: إنَّ حُبَّه عز وجل شغل قلوب مُحبِّيه عن التلذُّذِ بمحبَّة غيره، فليس لهم في الدُّنيا مع حُبِّه عز وجل لذَّةٌ تُداني محبَّتَه، ولا يؤمِّلون في الآخرة من كرامة الثواب أكبرَ عندهم من النَّظر إلى وَجه محبوبهم.
(1)
تقدم البيت الأول في (ص 40)، وانظر التخريج هناك.
(2)
أخرج عنها الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 49)، وابن الجوزي (ص 65).
(3)
أخرج عنه الخرائطي (ص 49)، وابن الجوزي (ص 78).
(4)
أخرج عنها الخرائطي (ص 50)، وابن الجوزي (ص 66).
(5)
هو ضيغم، كما أخرج عنه الخرائطي (ص 51)، وابن الجوزي (ص 78).
وقال بعض السَّلف
(1)
: ما مِنْ عبدٍ إلا وله عينان في وجهه يُبصر بهما أمرَ الدُّنيا، وعينان في قلبه يُبصر بهما أمرَ الآخرة، فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا؛ فتح عينيه اللَّتينِ في قلبه، فأبصرَ بهما من اللذَّةِ والنعيم ما لا خطر له، مِمَّا وعَدَ به من لا أصدق منه حديثًا، وإذا أراد به غير ذلك؛ تركه على ما هو عليه، ثمَّ قرأ:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24] ولو لم يكن للقلب [63 ب] المشتغل بمحبَّة غير الله، المعرِضِ عن ذكره من العقوبة؛ إلا صدؤهُ، وقسوته، وتعطُّله عمَّا خُلِق له؛ لكفى بذلك عقوبة.
وقد روى عبد العزيز بن أبي رَوَّاد عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذه القُلُوب تصْدَأُ كما يصدَأُ الحديد» قيل: يا رسُول الله! فما جلاؤُها؟ قال: «تِلاوَةُ القُرْآنِ»
(2)
.
وقال بعضُ العارفين
(3)
: إنَّ الحديد إذا لم يُستعمل غَشِيَه الصدَأُ حتى يفسده، كذلك القلب إذا عُطِّل من حبِّ الله، والشوق إليه، وذكره؛
(1)
هو خالد بن معدان، أخرج عنه الخرائطي (ص 52 - 53)، وابن الجوزي (ص 75 - 76).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 55)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 197)، والقضاعي في «مسند الشهاب (2/ 199)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 85)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 68) من طريق عبد الرحيم بن هارون عن عبد العزيز به. وعبدالرحيم ضعيف، كذّبه الدارقطني.
(3)
عند الخرائطي (ص 55): قال بعض الحكماء.
غلبه الجهلُ حتى يميتَه، ويُهْلِكَه.
وقال رجلٌ للحسن
(1)
: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي! قال: أذِبْه بالذِّكر.
وأبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي، ولا يُذهبُ قساوته إلا حبٌّ مقلقٌ، أو خوفٌ مزعج.
فإن قيل: ما السبب الذي لأجله يلتذُّ المحبُّ بحبّه، وإنْ لم يظفر بحبه؟
قيل: الحبُّ يُوجب حركة النفس، وشدَّة طلبها، والنفسُ خُلقت متحركة بالطَّبع، كحركة النار، فالحبُّ حركتُها الطبيعيةُ، فكلُّ من أحبَّ شيئًا من الأشياء؛ وجد في حبه لذَّة وروحًا، فإذا خلا عن الحُبِّ مطلقًا تعطَّلت النفسُ عن حركتها، وثَقُلت، وكسِلتْ، وفارقها خفةُ النشاط.
ولهذا تجد الكُسالى أكثر الناس همًّا، وغمًّا، وحزنًا، ليس لهم فرحٌ، ولا سرورٌ، بخلاف أرباب النَّشاط، والجدِّ في العمل أيِّ عمل كان، فإن كان النشاطُ في عملٍ هم عالمون بحسن عواقبه، وحلاوة غايته؛ كان التذاذُهم بحبِّه، ونشاطُهم فيه أقوى. وبالله التوفيق.
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 55)، وابن الجوزي (ص 69).