الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام
حقيقٌ بكل عاقل ألَّا يسلك سبيلًا حتَّى يعلم سلامتها، وآفاتها، وما توصل إليه تلك الطريق من سلامة، أو عطب، وهذان السبيلان هلاك الأولين والآخرين بهما، وفيهما من المعاطب والمهالك ما فيهما، ويفضيان بصاحبهما إلى أقبح الغايات، وشر موارد الهلكات، ولهذا جعل سبحانه سبيل الزنى شر سبيل، فقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء/ 32] فإذا كانت هذه سبيل الزنا فكيف بسبيل اللواط التي تعدل الفعلة منه في الإثم والعقوبة أضعافها، وأضعاف أضعافها من الزنى؟ كما ستقف عليه إن شاء الله.
فأما سبيل الزنى؛ فأسوأُ سبيل، ومقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل، ومستقرُّ أرواحهم في البرزخ في تنُّور من نار، يأتيهم لهيبها من تحتهم، [134 ب] فإذا أتاهم اللهب؛ ضجُّوا، وارتفعوا، ثم يعودون إلى موضعهم، فهم هكذا إلى يوم القيامة، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، ورؤيا الأنبياء وحيٌ لا شكَّ فيه.
فروى البخاريُّ في صحيحه
(1)
من حديث سمرة بن جندب قال:
(1)
رقم (845 ومواضع أخرى). وأخرجه أيضًا مسلم (2275).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا يُكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رُؤيا؟» فيُقصُّ عليه ما شاء الله أن يقصَّ، وإنه قال لنا ذات غداةٍ: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتغياني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مُضْطجع، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغُ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرَّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مُستلقٍ لقفاه، وإذا آخرُ قائم عليه بكلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيُشرشرُ شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثمَّ يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعلُ به مثل ما فعل في الجانب الأوَّل، قال: فما يفرغُ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى. قال: قلتُ: سبحان الله! ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التَّنُّور، فإذا فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطَّلعنا فيه فإذا فيه رجالٌ، ونساءٌ عُراةٌ، وإذا هم يأتيهم لهيب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح، ثم يأتي ذلك الذي جمع عنده الحجارة، فيفغر فاه، فيُلقِمه حجرًا، فينطلق،
فيسبح، [135 أ] ثمَّ يرجع إليه، كلما رجع إليه؛ فغر فاه، فألقمه حجرًا، قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ كريهِ المرآة كأكرهِ ما أنت راءٍ رجلًا، وإذا عنده نارٌ يحُشُّها، ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا على روضة مُعتمة فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجلٌ طويل، لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ، قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا فأتينا على دوحةٍ لم أر دوحةً قطُّ أعظم منها، ولا أحسن، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلَبِنِ ذهبٍ، ولَبِنِ فضة، قال: فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا رجال شطرٌ من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطرٌ منهم كأقبح ما أنت راءٍ، قال: فقالا لهم: اذهبوا فقَعُوا في ذلك النهر. قال: وإذا نهر معترضٌ يجري كأنَّ ماءه المحضُ في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قال: فسما بصري صُعدًا، فإذا قصرٌ مثل الرَّبابة البيضاء. قال: قالا لي: هذاك منزلك. قال: قلت لهما: بارك الله فيكما! فذراني، فأدخله. قالا: أما الآن؛ فلا، وأنت داخله! قال: قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يُثلَغُ رأسُه بالحجر؛ فإنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل
الذي أتيت عليه يُشرشَر شِدقُه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجلُ يغدو من بيته، فيكذب الكذبة، [135 ب] تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور؛ فإنهم الزُّناةُ والزَّواني. وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويُلقَمُ الحجر؛ فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحُشُّها، ويسعى حولَها فإنه مالك خازن جهنم. وأما الرجل الطويل الذي في الروضة؛ فإنه إبراهيم. وأما الولدان الذين حوله؛ فكل مولود مات على الفطرة. فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ، وشطر منهم قبيح؛ فإنهم قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، تجاوز الله عنهم».
وقال أبو مسلم الكجي
(1)
: حدثنا صدقة بن جابر عن سليم بن عامر، قال: حدثني أبو أمامة الباهلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم؛ إذ أتاني رجلان، فأخذا بضَبْعيَّ، فأخرجاني، فأتيا بي جبلًا وعرًا، وقالا لي: اصعد، فقلت: إني لا أُطيقه. فقالا لي: سنُسهِّلُه لك. قال: فصعدتُ حتى إذا كنتُ في سواء الجبل؛ إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ فقالا: هذا عُواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا بفوج أشد شيءٍ
(1)
أخرجه عنه الخرائطي (ص 105). وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى (3273)، وابن خزيمة (1986)، والحاكم (1/ 430) من طرقٍ عن ابن جابر به.
انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، وأسوئه منظرًا، فقلت: من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلق فإذا بفوج أشدِّ شيء انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، كأنَّ ريحهم المراحيض، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزَّانون والزَّواني».
وقال قُتيبة بن سعيد
(1)
: حدَّثنا نوحُ بن قيس، قال: حدثنا أبو هارون العبديُّ عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة أُسري به انْطُلِق بي إلى خلق من خلق الله كثيرٍ، نساءٍ مُعلَّقاتٍ بثديّهنَّ، ومنهن بأرجلهن منكسات، ولهن صراخٌ، وخُوارٌ، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللَّواتي يزنين، ويقتُلن أولادهنَّ، ويجعلن لأزواجهنَّ ورثةً من غيرهم» .
وقال أبو نعيم الفضل بنُ دُكين
(2)
: حدَّثنا عبد السلام بن شدَّاد، عن غزوان بن جرير، عن أبيه: أنهم تذاكروا عند عليِّ بن أبي طالب الفواحش فقال لهم: هل تدرون أيُّ الزنى أعظمُ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! كلُّه عظيم. قال: ولكن سأُخبركم بأعظم الزِّنى عند الله تعالى، هو أن يزني الرجلُ بزوجة الرَّجل المسلم، فيصير زانيًا، وقد أفسد على الرَّجل زوجته. ثم قال عند ذلك: إنَّ الناس يُرْسَلُ عليهم يوم القيامة ريحٌ منتنةٌ، حتى يتأذى منها كلُّ برٍّ وفاجرٍ، حتى إذا بلغت منهم كل مبلغ،
(1)
أخرجه عنه الخرائطي (ص 106).
(2)
أخرج من طريقه الخرائطي (ص 104)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 195 - 196).
وألمَّتْ أن تمسك بأنفاس الناس كلِّهم؛ ناداهم منادٍ يُسمعهم الصوت، ويقول لهم: هل تدرون ما هذه الريح التي قد آذتكم؟ فيقولون: لا ندري والله! إلا أنها قد بلغت منا كلَّ مبلغ! فيقال: ألا إنَّها ريح فروج الزُّناة؛ الذين لقُوا الله بزناهم، ولم يتوبوا منه، ثُمَّ يُصرفُ بهم، فلم يُذكرْ عند الصرف بهم جنةٌ ولا نارٌ.
وقال الخرائطي
(1)
: حدَّثنا عليُّ بن داود القنطري، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني مسلمة بن علي الخشنيُّ عن أبي عبد الرحمن، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر المسلمين! إياكم والزِّنَى! فإن فيه ستَّ خصال: ثلاثٌ في الدُّنيا، وثلاثٌ في الآخرة، فأما اللَّواتي في الدُّنيا: فذهابُ البهاء، ودوامُ الفقر، وقصرُ العُمُر. وأمَّا اللَّواتي في الآخرة: فسخطُ الله، وسوءُ الحسابِ، ودخول النار» .
ويُذكر عن أنس بن مالك
(2)
: أنه قال: المقيم على الزنى كعابد وثنٍ. ورفعهُ بعضهم، وهذا أولى أن يُشبه بعابد وثن من مُدمن الخمر. وفي المسند وغيره
(3)
مرفوعًا: «مُدمنُ الخمر كعابدِ وثنٍ» . فإن الزنى أعظم من
(1)
في اعتلال القلوب (ص 104 - 105). وهو حديث موضوع، انظر السلسلة الضعيفة (141).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 105) عنه.
(3)
أخرجه أحمد (1/ 272)، وابن ماجه (3375) من حديث أبي هريرة.
شرب الخمر. قال الإمام أحمد: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنى.
وفي الصحيحين
(1)
من حديث أبي وائلٍ عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله نِدًّا وهو [136 ب] خلقك» قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثُم أيٌّ؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان/ 68].
وقال قتيبة بن سعيد
(2)
: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أنعم، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يُزكيه، ويقولُ: ادخُل النار مع الدَّاخلين» . وذكر سفيان بن عُيينة
(3)
، عن جامع بن شدَّاد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: إذا بُخس المكيال؛ حُبِس القطر، وإذا ظهر الزنى؛ وقع الطاعون، وإذا كثُر الكذب؛ كثر الهرج.
وفي الصحيحين
(4)
من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي
(1)
البخاري (4761) ومسلم (86).
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 107).
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 108).
(4)
البخاري (2369) ومسلم (107).
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملك كذَّابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ» .
وذكر سفيان الثوري
(1)
عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي ذرٍّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والمقلَّ المُختال، والبخيل المنان» .
وذكر الأعمش
(2)
عن خيثمة، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مثل الذي يجلس على فراش المُغيبة مثل الذي تنهشه الأساودُ يوم القيامة» . المغيبةُ: هي التي قد سافر زوجها في جهادٍ، أو حجٍّ، أو غيرهما.
وفي النسائي وغيره
(3)
من حديث بُريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كأمَّهاتِهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلًا من المجاهدين في أهله إلَاّ نصب الله له يوم القيامة، فيقالُ: يا فُلانُ! [137 أ] هذا فُلانٌ، فخُذ من حسناته ما شئت» ثمَّ التفت النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه بهذا الطريق أحمد (5/ 153)، والنسائي في الكبرى (1224)، والخرائطي (ص 106).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 108).
(3)
أخرجه مسلم (1897)، وأبو داود (2496)، والنسائي (6/ 50)، وأحمد (5/ 352، 355).
إلى أصحابه فقال: «ما ترون يدعُ له من حسناته شيئًا؟» وفي لفظٍ: «وإذا خلفه في أهله فخانهُ؛ قيل له يوم القيامة: هذا خانك في أهلك، فخُذ من حسناته ما شئت. فما ظنُّكم؟!» .
ويكفي في قُبح الزنَى أن الله سبحانه ــ مع كمال رحمته ــ شرع فيه أفحش القتلات، وأصعبها، وأفضحها، وأمر أن يشهد عبادُه المؤمنون تعذيب فاعله.
ومن قبحه: أن الله سبحانه فطر عليه بعض الحيوان البهيم الذي لا عقل له، كما روى البخاريُّ في صحيحه
(1)
عن عمرو بن ميمون الأوديِّ قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردةٍ، فاجتمع عليهما القرودُ، فرجموهما حتى ماتا، وكنتُ فيمنْ رجمهما.
فصل
والزنى يجمع خلال الشر كلها: من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيًا معه ورع، ولا وفاءٌ بعهدٍ، ولا صدقٌ في حديث، ولا محافظةٌ على صديق، ولا غيرةٌ تامة على أهله. فالغدر، والكذب، والخيانة، وقلة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه، وموجباته.
(1)
رقم (3849).
ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجلٌ إلى ملك من الملوك بذلك؛ لقابله أسوأ مقابلة. ومنها: سواد الوجه، وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، ومنها: ظلمة القلب، وطمس نوره، وهو الذي أوجب طمسَ نور الوجه، وغشيان الظلمة له. ومنها: الفقر اللازم.
وفي أثرٍ: «يقول الله تعالى: أنا الله مهلك الطغاة، ومفقر الزناة»
(1)
. ومنها: أنه يُذهِب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه، ومن أعين عباده. ومنها: أنه يَسلُبه أحسن الأسماء، وهو اسم العفة، والبر، والعدالة، ويعطيه أضدادها، كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن.
ومنها: أنه يسلبه اسم المؤمن، كما في الصحيح
(2)
[137 ب] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان.
وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث، فخطَّ دائرة في الأرض، وقال: هذه دائرة الإيمان، ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها، وقال: هذه دائرة الإسلام، فإذا زنى العبد خرج من هذه، ولم يخرج من هذه.
ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنًا، كما أن
(1)
رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 192) عن ابن عمر.
(2)
أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة.
الرجل يكون معه جزءٌ ما من العلم، والفقه، ولا يسمى به: عالمًا فقيهًا، ومعه جزءٌ من الشجاعة، والجود، ولا يسمى بذلك: شجاعًا، ولا جوادًا، وكذلك يكون معه شيءٌ من التقوى ولا يسمى: متقيًا. ونظائره، فالصواب إجراء الحديث على ظاهره، ولا يتأول بما يخالف ظاهره، والله أعلم.
ومنها: أنه يعرض نفسه لسكنى التنُّور الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزناة والزواني. ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبث الذي وصف الله به الزناة، كما قال تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور/ 26].
فقد حرم الله الجنة على كل خبيث، بل جعلها مأوى الطيبين، ولا يدخلها إلا طيب. قال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل/ 32]. وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر/ 73]. فإنما استحقوا سلام الملائكة، ودخول الجنة بطيبهم، والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله سبحانه جهنم دار الخبث وأهله، فإذا كان يوم القيامة ميز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث بعضه على بعض، ثم ألقاه، وألقى أهله في جهنم، فلا يدخل النار طيب ولا يدخل الجنة خبيث.
ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، [138 أ] وهي نظير
الوحشة التي تعلو وجهه، فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة، ومن جالسه استوحش به.
ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله، وأصحابه، وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم، وعيونهم، بخلاف العفيف، فإنه يرزق المهابة، والحلاوة.
ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة، ولا يأمنه أحدٌ على حرمته، ولا على ولده.
ومنها: الرائحة التي تفوح عليه، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده، ولولا الاشتراك بين الناس في هذه الرائحة؛ لفاحت من صاحبها، ونادت عليه، ولكن كما قيل:
كلٌّ به مثلُ ما بي غير أنَّهمُ
…
من غيرةٍ بعضهم للبعض عُذَّالُ
ومنها: ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزُّناة يُقابلون بضد مقصودهم، فإن من طلب لذة العيش وطِيبَه بما حرمه الله عليه؛ عاقبه الله بنقيض قصده. فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببًا إلى خيرٍ قط. ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش لرأى: أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له، دع ربح العاقبة، والفوز بثواب الله وكرامته.
ومنها: أنه يُعرِّض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنَّات عدن، وقد تقدم أن الله سبحانه إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه للبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة، فكذلك من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا، بل كل ما ناله العبد في الدنيا، فإن توسع في حلاله؛ ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه، وإن [138 ب] ناله من حرام؛ فاته نظيره يوم القيامة.
ومنها: أن الزنى يُجرِّئه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرًا إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك، وهو يدري، أو لا يدري.
فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها. ويتولد عنها أنواعٌ أُخرُ من المعاصي بعدها، فهي محفوفةٌ بجندٍ من المعاصي قبلها، وجند بعدها، وهي أجلب لشرِّ الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد، فوقع في حبائلها وأشراكها؛ عزَّ على الناصحين استنقاذُه، وأعيا الأطباء دواؤه، فأسيرها لا يُفدى، وقتيلها لا يُودَى، وقد وكلها الله سبحانه بزوال النعم، فإذا ابتلي بها عبد فيودع نعم الله، فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال. قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد/ 11].
فصل
فهذا بعض ما في هذه السبيل من الضرر، وأما سبيل الأمة اللُّوطية؛ فتلك سبيل الهالكين، المفضية بسالكها إلى منازل المعذَّبين؛ الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم، لا من تأخَّر عنهم ولا من تقدَّم، وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمُعتبرين، وموعظةً للمتَّقين.
وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق: أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا يُنكح، كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر لذلك ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عليُّ بن أبي طالب فاستشارهم، فكان عليٌّ أشدهم قولًا فيه، فقال: إن هذا لم يعمل به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، فصنع الله بها ما قد علمتم، أرى أن تحرقوه بالنار، فأحرقوه بالنار.
وقال عمر بن الخطاب وجماعةٌ من الصحابة والتابعين: يُرجم بالحجارة حتى يموت، [139 أ] أُحصن أو لم يحصن، ووافقه على ذلك الإمام أحمد وإسحاق ومالك. وقال الزهري: يُرجم، أُحصن، أو لم يحصن، سنة ماضيةٌ. وقال جابر بن زيد في رجل غشي رجلًا في دبره قال: الدبر أعظم حرمة من الفرج، يُرجم أُحصن، أو لم يحصن. وقال الشعبي: يُقتل، أُحصن أو لم يحصن.
وسئل ابن عباس عن اللُّوطي ما حدُّه؟ قال: يُنظَر أعلى بناء في
المدينة، فيُرمى منه منكَّسًا، ثم يتبع بالحجارة. ورجم عليٌّ لوطيًا، وأفتى بتحريقه. فكأنه رأى جواز هذا وهذا.
وقال إبراهيم النخعي: لو كان أحدٌ ينبغي له أن يرجم مرَّتين؛ لكان ينبغي للُّوطي أن يرجم مرَّتين.
وذهبت طائفةٌ إلى أنه يُرجم إن أُحصن، ويجلد إن لم يحصن. وهذا قول الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وعطاء بن أبي رباح.
قال عطاء: شهدتُ ابن الزُّبير أُتي بسبعة أُخذوا في اللواط: أربعة منهم قد أحصنوا، وثلاثة لم يحصنوا، فأمر بالأربعة، فأخرجوا من المسجد الحرام، فرجموا بالحجارة، وأمر بالثلاثة، فضربوا الحد، وفي المسجد ابن عمر، وابن عباس.
والصحابة اتفقوا على قتل اللوطي، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فظنَّ بعضُ الناس: أنهم متنازعون في قتله، ولا نزاع بينهم فيه إلا في إلحاقه بالزَّاني، أو في قتله مطلقًا.
وقد اختلف الناس في عقوبته على ثلاثة أقوال: أحدُها: أنها أعظم من عقوبة الزنى، كما أن عقوبته في الآخرة أشدُّ. الثاني: أنها مثلها. الثالث: أنها دونها. وذهب بعضُ الشافعية إلى أن عقوبة الفاعل كعقوبة الزاني، وعقوبة المفعول به الجلد مطلقًا، بكرًا كان أو ثيبًا. قال: لأنه لا يلتذُّ بالفعل به بخلاف الفاعل.