الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال سهل بن عبد الله: ما من ساعةٍ إلَّا والله ــ سبحانه ــ يطَّلع فيها على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس. وقال سهل: من نظر إلى الله ــ عز وجل ــ قريبًا منه؛ بَعُد عن قلبه كل شيء سوى الله، ومن طلب مرضاته أرضاه الله ــ سبحانه وتعالى ــ ومن أسلم قلبه إلى الله؛ تولى الله جوارحه. وقال سهل أيضًا: حرامٌ على قلبٍ أن يَشُمَّ رائحةَ اليقين؛ وفيه سكونٌ إلى غير الله، وحرامٌ على قلبٍ أن يدخله النُّورُ؛ وفيه شيءٌ ممَّا يكره الله. وسئل بعضهم عن أفضل الأعمال؛ فقال: رعايةُ السِّرِّ عن الالتفات إلى شيءٍ سوى الله ــ عز وجل ــ. وقال سلم: تركتموه، وأقبل بعضكم على بعض، لو أقبلتم عليه؛ لرأيتم العجائب.
فصل
فإن تقاصرت همتك الدَّنيَّة عن ترك الفواحش؛ محبةً لهذا المحبوب الأعلى، ولست هناك؛ فاترُكها محبةً للنِّساء اللَّاتي وصفهنَّ الله في كتابه، وبعث رسوله داعيًا إلى وصالهن في جنَّة المأوى، وقد تقدَّم ذكر بعض صفاتهن، ولذَّة وصالهنَّ. فإن تقاصرت همتُك عنهنَّ، ولم تكن كفؤًا لخطبتهن، ودعتك نفسك إلى إيثار ما هاهنا عليهنَّ؛ فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر. واعلم أنَّ العقوبات تختلف، فتارةً تُعَجَّل، وتارة تؤخَّر، وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما.
و
أشدُّ العقوبات العقوبة بسلب الإيمان
، ودونها: العقوبة بموت القلب، ومحو لذَّة الذِّكر، والقراءة، [168 أ] والدُّعاء، والمناجاة منه،
وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيبَ الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بها، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدُّنيا، وأهونُ منها ما وقع بالمال، وربَّما كانت عقوبة النظر في البصيرة، أو في البصر، أو فيهما.
قال الفضيل: يقول الله تعالى: ابنَ آدم! إذا كنتُ أُقلِّبك في نعمتي، وأنت تتقلَّب في معصيتي، فاحذر لئلا أصرعك بين معاصيك. ابن آدم! اتّقني، ونم حيث شئت، إنَّك إن ذكرتني ذكرتك، وإن نسيتني نسيتك، والسَّاعة التي لا تذكرني فيها عليك، لا لك.
وقال الفضيل أيضًا: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله تعالى بعمل مقتك عليه، فأغلقَ عنك أبواب المغفرة؛ وأنت تضحك؟ وقال علقمة بن مرثد: بينا رجلٌ يطوف بالبيت؛ إذ برق له ساعدُ امرأة، فوضع ساعدَه على ساعدها، فالتذَّ به، فلصقت ساعداهما، فأتى بعض أولئك الشيوخ، فقال: ارجع إلى المكان الَّذي فعلت هذا فيه، فعاهد ربَّ البيت ألَّا تعود، ففعل، فخلِّي عنه.
وقال ابن عباس، وأنسٌ ــ رضي الله عنهم ــ: إنَّ للحسنة نورًا في القلب، وزينًا في الوجه، وقوَّة في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإنَّ للسيئة ظلمة في القلب، وشينًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرِّزق، وبغضةً في قلوب الخلق.
وقال الحسن: ما عصى الله عبدٌ إلَّا أذلَّه. وقال المعتمر بن سليمان:
إنَّ الرَّجل ليصيب الذنبَ في السرِّ، فيصبح وعليه مذلَّته.
وقال الحسن: هانوا عليه، فعصوه، ولو عزُّوا عليه؛ لعصمهم.
وكان شيخ من الأعراب يدور على المجالس، ويقول: من سرَّه أن تدوم له العافية؛ فليتَّق الله.
وقال أبو سليمان الداراني
(1)
: من صفا صُفِيَ له، ومن كدَّر كُدِّرَ عليه، ومن أحسن في ليله، كُفِيَ في نهاره، ومن أحسن في نهاره؛ كُفِيَ في ليله، ومن ترك لله شهوةً من قلبه؛ فالله أكرمُ أن يُعَذِّب بها قلبَه.
وكتبت [168 ب] عائشة أم المؤمنين ــ رضي الله عنها ــ إلى معاوية
(2)
: أمَّا بعد، فإنَّ العامل إذا عمل بمعصية الله؛ عاد حامدُه من الناس ذامًّا.
وقال محارب بن دثار
(3)
: إنَّ الرَّجل ليذنب الذنبَ، فيجد له في قلبه وهنًا.
وقال الحسين بن مُطَير
(4)
:
ونفسَكَ أكرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ
…
فما لك نفسٌ بعدها تستعيرها
(1)
انظر: ذم الهوى (ص 185)، وحلية الأولياء (9/ 256).
(2)
انظر: المصدر السابق (ص 182).
(3)
ذم الهوى (ص 183).
(4)
سبق البيتان و تخريجهما.
ولا تقرب الأمر الحرام فإنَّما
…
حلاوته تفنى ويبقى مريرُها
وكان سفيان الثوري يتمثَّل بهذين البيتين
(1)
:
تفنى اللَّذاذةُ ممن نال صفوتَها
…
من الحرامِ ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوءٍ في مغبَّتها
…
لا خيرَ في لذَّةٍ من بعدها النَّار
فصل
واعلم أنَّ الجزاء من جنس العمل، والقلب المعلَّق بالحرام كلَّما همَّ أن يفارقه، ويخرج منه؛ عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا.
وفي بعض طرق حديث سمرة بن جندب الَّذي في صحيح البخاري
(2)
: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة: رجلان أتياني، فأخرجاني، فانطلقت معهما، فإذا بيتٌ مبنيٌّ على مثل بناء التَّنُّور، أعلاهُ ضيِّقٌ، وأسفلُهُ واسع، يوقد تحته نار، فيه رجالٌ ونساءٌ عُراة، فإذا أوقدت النار؛ ارتفعوا حتَّى يكادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هم الزُّناة» . فتأمَّل مطابقة هذا العذاب لحال قلوبهم في الدنيا، فإنَّه كلَّما همُّوا بالتوبة والإقلاع، والخروج من تنُّور نار الشهوة إلى فضاء التوبة؛ أُركسوا فيه، وعادوا بعد أن كادوا يخرجون.
(1)
سبقا.
(2)
برقم (7047).
ولمَّا كان الكفار في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلَّما همُّوا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته وروحه؛ رجعوا على حوافرهم؛ كانت عقوبتهم في الآخرة كذلك، قال الله تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة/ 20] وقال في موضع آخر: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج/ 22] فالكفرُ والمعاصي، والفسوق [169 أ] كلُّه غموم، وكلَّما عزم العبد أن يخرج منه؛ أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفُه، فلا يزالُ في غمِّ ذلك حتَّى يموت، فإن لم يخرج من غمِّ ذلك في الدنيا؛ بقي في غمِّه في البرزخ، وفي القيامة، وإن خرج من غمِّه، وضيقه هاهنا؛ خرج منه هناك، فما حبس العبد عن الله في هذه الدَّار حبسه عنه بعد الموت، وكان معذَّبًا به هناك كما كان قلبه معذبًا به في الدنيا، فليس الفسَّاق والفجرة والظَّلمة في لذَّةٍ في هذه الدار، وإنَّما هم مُعذبون فيها وفي البرزخ وفي القيامة، ولكن سكر الشَّهوة وموت القلوب حال بينهم وبين الشعور بالألم، فإذا حيل بينهم وبين ما يشتهون؛ أحضرت نفوسُهم الألمَ الشديد، وصار يعمل فيها بعد الموت نظير ما يعمل الدود في لحومهم. فالآلام تأكل أرواحهم، غيرَ أنَّها لا تفنى، والدُّودُ يأكل جسومهم.
قال الإمام أحمد
(1)
ــ رضي الله عنه ــ: حدَّثنا إسماعيل بن عبدالكريم،
(1)
لم أجد النص في كتبه المعروفة.
قال: حدَّثني عبد الصَّمد بن معقل، حدَّثني وهب بن مُنبِّه، قال: كان حزقيل قائمًا، فأتاه ملكٌ، فذكر حديثًا طويلًا، وفيه: أنَّه مرَّ بقومٍ أمواتٍ، فقيل له: ادعهم! فدعاهم، فأحياهم الله له، فقال: سَلْهم فيم كنتم؟ فقالوا: لمَّا فارقنا الحياة لقينا ملكًا، يقال له: ميكائيل فقال: هلموا أعمالكم، وخذوا أجوركم، فذلك سُنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم، وفيمن هو كائنٌ بعدكم، فنظروا في أعمالنا، فوجدونا نعبد الأوثان، فسُلِّطَ الدُّود على أجسادنا، وجعلت الأرواح تألمُ، وسُلِّط الغمُّ على أرواحنا، وجعلت الأجساد تألم، فلم تزل كذلك معذبة حتى دعوتنا.