الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي والعشرون
في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب
وعدم التَّشريك بينه وبين غيره فيه
هذا من موجبات المحبة الصادقة وأحكامها، فإن قِوَى الحب متى انصرفت إلى جهة، لم يبق فيها متسع لغيرها، ومن أمثال الناس:«ليس في القلب حُبَّان، ولا في السماءِ ربَّان» .
متى تقسَّمت قوة الحب بين عدة محالَّ ضعُفت لا محالة، وتأمَّل قوله سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ [108 ب] عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب/1 ــ 3] كيف أمره بتقواه المتضمنة لإفراده بامتثال أمره، ونهيه محبةً له، وخشيةً، ورجاءً، فإن التقوى لا تتمُّ إلا بذلك، وباتباع ما أوحي إليه المتضمن لتركه ما سوى ذلك واتباع المنزل خاصةً، وبالتوكل عليه، وهو يتضمن اعتماد القلب عليه وحده، وثقته به، وسكونه إليه دون غيره.
ثم أتبع ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب/4] فأنت تجد تحت هذا اللفظ: أن القلب ليس له إلَّا وجهةٌ واحدةٌ، إذا مال بها إلى جهة؛ لم يملْ بها إلى غيرها، وليس للعبد قلبان،
يطيع الله، ويتَّبع أمره، ويتوكَّل عليه بأحدهما، والآخرُ لغيره، بل ليس له إلا قلبٌ واحدٌ، فإن لم يفرد بالتوكل، والمحبة، والتقوى ربَّه، وإلَّا انصرف ذلك إلى غيره. ثم استطرد من ذلك إلى أنه سبحانه لم يجعل زوجة الرجل أُمه، واستطرد منه إلى أنه لم يجعل دعيَّه ابنه؛ فانظر ما أحسن هذا التأصيل، وهذا الاستطراد الذي تسجد له العقولُ والألباب، وله نظائر في القرآن عديدةٌ، فمنها قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف/189 ــ 190].
فالنَّفسُ الواحدةُ وزوجُها آدمُ وحوَّاء، واللَّذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما، ولا يُلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولدٌ، فأتاهما إبليس، فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولدٌ؛ فسمِّياه عبد الحارث، ففعلا
(1)
، فإن الله سبحانه اجتباه وهداه، فلم يكن ليشرك به بعد ذلك.
(1)
ورد ذلك في حديث أخرجه أحمد (5/ 11)، والترمذي (3077) من طريق عمر ابن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعًا. وذكر ابن كثير في تفسيره (4/ 1527) أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه، ثم بيَّنها. وأما الآثار الواردة عن بعض الصحابة والتابعين في هذا الباب فأصلها مأخوذ من أهل الكتاب.
ونظير هذا الاستطراد قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ [109 أ] لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة/189] ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة/189] فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الإحرام، فلما ذكر لهم وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة؛ استطرد منه إلى ذكر ما يفعلونه فيه، وهو كثيرٌ جدًّا.
والمقصود: أن المحبة تستلزم توحيد المحبوب فيها، وقد بالغ أبو محمد بن حزم في إنكاره على من يزعم أنه يعشق أكثر من واحدٍ، وقال في ذلك شعرًا، ونحن نذكر كلامه وشعره. قال بعد كلام طويل
(1)
: ومن هذا دخل الغلط على من يزعم: أنه يحب اثنين، ويعشقُ شخصين متغايرين، وإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفًا، وهي على المجاز تُسمَّى: محبةً، لا على التحقيق وأما نفس المحب فما في الميل به فضلٌ يصرفُه من أسباب دينه ودنياه، فكيف الاشتغال بحبٍّ ثانٍ، وفي ذلك أقول
(2)
:
كذب المدَّعي هوى اثنين حتمًا
…
مثل ما في الأُصول أُكذِبَ ماني
ليس في القلب موضعٌ لحبيبيـ
…
ـن ولا أحدثَ الأمورَ اثْنانِ
فكما العقلُ واحدٌ ليس يدري
…
خالقًا غير واحد رحمن
(1)
طوق الحمامة (ص 45).
(2)
المؤلف نقل عن ابن حزم في طوق الحمامة (ص 46).
فكذا القلبُ واحدٌ ليس يهوى
…
غيرَ فردٍ مباعدٍ أو مُدانِ
هو في شرعة المودَّة ذو شكٍّ
…
بعيدٌ من صحَّة الإيمان
وكذا الدِّينُ واحدٌ مستقيمٌ
…
وكَفُورٌ من عنده دينان
وقد اختلف الناسُ في هذه المسألة، فقالت طائفة: ليس للقلب إلَّا وجهةٌ واحدةٌ، إذا توجَّه إليها؛ لم يمكنه التوجُّه إلى غيرها، قالوا: وكما أنه لا يجتمع فيه إرادتان معًا؛ فلا يكون فيه حُبَّان، وكان الشَّيخُ إبراهيم الرَّقيُّ ــ رحمه الله ــ يميل إلى هذا.
وقالت طائفةٌ: بل يمكن أن يكون له وجهتان فأكثر [109 ب] باعتبارين، فيتوجَّه إلى أحدهما، ولا يشغله عن توجُّهه إلى الآخر.
قالوا: والقلب حاملٌ، فما حمَّلته تحمَّل، فإذا حمَّلته الأثقال؛ حملها، وإن استعجزته عجز عن حمل غير ما هو فيه، فالقلبُ الواسعُ يجتمع فيه التوجُّه إلى الله سبحانه، وإلى أمره، وإلى مصالح عباده، ولا يشغله واحدٌ من ذلك عن الآخر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبه متوجهٌ في الصلاة إلى ربه، وإلى مراعاة أحوال من يُصلي خلفه، وكان يسمع بكاء الصبي، فيخفف الصلاة خشية أن يشُقَّ على أُمه
(1)
، أفلا ترى قلبه الواسع الكريم، كيف اتَّسع للأمرين؟ ولا يُظَن: أن هذا من خصائص النُّبوة، فهذا عمر بن الخطاب كان يجهز جيشه وهو في الصلاة، فيتَّسع
(1)
أخرجه البخاري (709، 710)، ومسلم (470) من حديث أنس.
قلبه للصلاة والجهاد في آنٍ واحدٍ، وهذا بحسب سعة القلب، وضيقه، وقوته، وضعفه، قالوا: وكمال العبودية أن يتَّسع قلب العبد لشهود معبوده. ومراعاة آداب عبوديته فلا يشغله أحدُ الأمرين عن الآخر. قالوا: وهذا موجود في الشاهد، فإن الرجل إذا عمل عملاً للسُّلطان مثلًا بين يديه، وهو ناظر إليه يشاهده؛ فإنَّ قلبه يتسع لمراعاة عمله، وإتقانه، وشهود إقبال السلطان عليه، ورؤيته له، بل هذا شأْن كلِّ محبٍّ يعمل لمحبوبه عملًا بين يديه، أو في غيبته.
قالوا: وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى يوم موت ابنه إبراهيم
(1)
، فكان بكاؤه رحمة له، فاتسع قلبه لرحمة الولد، وللرضا بقضاء الله، ولم يشغله أحدهما عن الآخر، لكن الفضيل لم يتسع قلبه يوم موت ابنه لذلك، فجعل يضحك، فقيل له: أتضحك وقد مات ابنك؟ فقال: إن الله سبحانه قضى بقضاء، فأحببتُ أن أرضى بقضائه.
ومعلوم أن بين هذه الحال وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاوت لا يعلمه [110 أ] إلا الله، ولكن لم يتسع قلبه لما اتسع له قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونظير هذا اتساع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغناء الجويريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة
(2)
، فلم يشغله ذلك عن ربه، ورأى فيه من مصلحة
(1)
أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس.
(2)
تقدم تخريجه.
إرضاء النفوس الضعيفة بما يستخرج منها من محبة الله، ورسوله، ودينه، فإن النفوس متى نالت شيئًا من حظِّها؛ طُوِّعت ببذل ما عليها من الحق، ولم يتسع قلب عمر لذلك لما دخل، فأنكره، وكم بين من ترد عليه الواردات فكل منها يثني همته، ويحرك قلبه إلى الله، كما قال القائل
(1)
:
يُذكِّرُنيك الخيرُ والشرُّ والذي
…
أخافُ وأرجو والذي أتوقعُ
وبين من تَرِد عليه الواردات فتشغله عن الله، وتقطعه عن سير قلبه إليه، فالقلب الواسع يسير بالخلق إلى الله ما أمكنه، فلا يهرب منهم، ولا يلحق بالقفار، والجبال والخلوات، بل لو نزل به من نزل سار به إلى الله فإن لم يسر معه سار هو، وتركه. ولا يُنكر هذا فالمحبة الصحيحة تقتضيه، وخذ هذا في المغنّي إذا طرب، فلو نزل به من نزل أطربهم كلهم، فإن لم يطربوا معه لم يدع طربه لغِلَظِ أكبادهم، وكثافة طبعهم. وكان شيخنا يميل إلى هذا القول، وهو كما ترى قوَّته، وحجَّته.
والتحقيق: أن المحبوب لذاته لا يمكن أن يكون إلا واحدًا، ويستحيل أن يوجد في القلب محبوبان لذاتهما، كما يستحيل أن يكون في الخارج ذاتان قائمتان بأنفسهما، كلُّ ذات منهما مستغنيةٌ عن الأُخرى من جميع الوجوه، وكما يستحيل أن يكون للعالم ربَّانِ متكافئان مستقلَّان، فليس الذي يُحَبُّ لذاته إلا الإله الحق، الغنيُّ بذاته عن كل ما
(1)
تقدم البيت.