الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبِنْ لي ما تَرى والمَرءُ تأبى
…
عزيمته ويغلِبُهُ هواهُ
فيَعْمى ما يَرى فيه عليه
…
ويحْسَبُ منْ يراه لا يَراهُ
فصل
وأمَّا الرّغبةُ في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه؛ فهي رأْس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة وأصلُ سعادته، وفلاحه، ونعيمه، وقُرَّة عينه، ولذلك خُلق، وبه أُمر، وبذلك أُرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب، ولا نعيم إلا بأن تكون رغبتُهُ إلى الله ــ عز وجل ــ وحده، فيكون هو وحده مرغوبه، ومطلوبه، ومراده، كما قال الله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح/ 7 ــ 8] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ [154 ب] اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة/ 59].
و
الرَّاغبون ثلاثةُ أقسام: راغبٌ في الله، وراغبٌ فيما عند الله، وراغبٌ عن الله
. فالمحبُّ راغبٌ فيه، والعاملُ راغبٌ فيما عنده، والراضي بالدنيا من الآخرة راغبٌ عنه. ومن كان رغبتُه في الله؛ كفاه الله كلَّ مهم، وتولاه في جميع أُموره، ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسه، ووقاه وقاية الوليد، وصانه من جميع الآفات. ومن آثر الله على غيره؛ آثره الله على غيره. ومن كان لله؛ كان الله له حيث لا يكون لنفسه، ومن عرف الله؛ لم يكن شيءٌ أحبَّ إليه منه، ولم تبق له رغبةٌ فيما سواه، إلَاّ فيما يُقرِّبه إليه، ويعينه على سفره إليه.
ومن علامات المعرفة: الهيبةُ، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه؛ ازدادت هيبتُه له، وخشيتهُ إياه، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر/ 28] أي: العلماء به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية»
(1)
ومن عرف الله؛ صفا له العيشُ، وطابتْ له الحياةُ، وهابه كلُّ شيءٍ، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنِسَ بالله، واستوحش من الناس، وأورثته المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال، والمراقبة، والمحبة، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره.
وقيل للجُنيد
(2)
ــ رحمه الله تعالى ــ: إن هاهنا أقوامًا يقولون: إنهم يَصِلُون إلى البرِّ بترك الحركات، فقال: هؤلاء قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يزني ويسرقُ أحسنُ حالًا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيتُ ألف عامٍ لم أنقص من أعمال البرِّ شيئًا.
وقال: لا يكون العارفُ عارفًا حتى يكون كالأرض يطؤه البَرُّ، والفاجر، وكالمطر يسقي ما يُحب وما لا يُحبُّ.
وقال يحيى بن مُعاذ: يخرج العارف [155 أ] من الدُّنيا، ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤُه على نفسه، وشوقه إلى ربه. وقال بعضُهم: لا
(1)
أخرجه البخاري (6101، 7301)، ومسلم (356) من حديث عائشة.
(2)
من هنا إلى ص 554 منقول من الرسالة القشيرية (ص 315 ـ 328، 430).