الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس عشر
فيمن ذمَّ العِشْقَ، وتبرَّم به، وما احتجَّ به
كلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه
قال الله تعالى إخبارًا عن المؤمنين: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة/286] فأثنى عليهم سبحانه بهذا الدُّعاء؛ الذي سألوه فيه ألَاّ يحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وقد فُسِّر ذلك بالعشق، وليس المُرادُ اختصاصه به، بل المُراد: أنَّ العشق ممَّا لا طاقة للعبد به. وقال مكحول: هو شدة الغُلْمة.
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمرءِ أنْ يُذِلّ نفسه»
(1)
.
قال الإمام أحمدُ: تفسيرُه أن يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق، وهذا
(1)
أخرجه أحمد (5/ 405)، والترمذي (2254)، وابن ماجه (4016) من حديث حذيفة بن اليمان. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر. انظر: «العلل» (2/ 138). ولكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في «الكبير» (13507) و «الأوسط» (5353)، والبزار (3323). انظر:«السلسلة الصحيحة» (613).
مطابق لحال العاشق، فإنَّه أذَلُّ الناس لمعشوقه، ولما يُحَصِّل به رضاه، والحبُّ مبناه على الذُّلِّ، والخضوع للمحبوب، كما قيل
(1)
:
اخْضَعْ وَذِلَّ لِمَنْ تحبُّ فَلَيْسَ في
…
شرعِ الهَوى أَنْفٌ يُشالُ ويُعْقَدُ
[69 أ] وقال آخر
(2)
:
مساكينُ أهلُ العشقِ حتَّى قبورُهم
…
عليها ترابُ الذُّلِّ بين المَقابر
وقال آخر
(3)
:
قالوا عهدناك ذا عزٍّ فقلتُ لهم
…
لا يعجبُ الناسُ من ذلِّ المُحبِّينا
لا تُنكروا ذلَّة العُشّاقِ إنَّهمُ
…
مستعبَدون برِقِّ الحُبِّ راضُونا
قالوا: وإذا اقتحم العبدُ بحرَ العشْق، ولعبتْ به أمواجهُ، فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السَّلامة، كما ذكر الخرائطيُّ
(4)
: أنَّه كان بالمدينة جاريةٌ ظريفةٌ، فهوِيَتْ رجلًا من قريشٍ، وكان لا يُفارقها، ولا تُفارقه، فملَّها، وزاد حبُّها له، فسقِمتْ، وجعل مولاها لا يَعْبَأُ بشكواها، ولا يَرِقُّ
(1)
البيت لأبي تراب في «بدائع البدائه» (ص 17). وبلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 47).
(2)
البيت بلا نسبة في «مصارع العشاق» (1/ 130)، و «ديوان الصبابة» (ص 47).
(3)
البيتان بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 325).
(4)
في «اعتلال القلوب» (ص 324). وانظر: «مصارع العشاق» (1/ 53)، و «ذم الهوى» (ص 334). والأبيات لجميل في «ديوانه» (ص 83)، و «محاضرة الأبرار» (2/ 423)، وللعباس بن الأحنف في «ديوانه» (139)، و «الأغاني» (5/ 211)، وللمجنون في «الموشى» (ص 123).
لها، حتى هامتْ وسعتْ على وجهها، ومزَّقت ثيابها، وأفضتْ إلى أمرٍ عظيم. فلما رأى ما صارت إليه عالجَها فلم يَنْجَعْ فيها العلاج، وكانت تدورُ في السِّكَكِ بالليل، وتقول:
الحبُّ أوَّلُ ما يكونُ لَجاجة
…
تأْتي به وتسوقُهُ الأقدارُ
حتَّى إذا اقتحم الفتى لُجَجَ الهوى
…
جاءتْ أُمورٌ لا تُطاقُ كِبارُ
مَنْ ذا يُطيق كما أُطيق من الهوى
…
غلبَ العزاءُ وباحتِ الأسرارُ
قال الخرائطي
(1)
: وأنشدني بعض أصحابنا:
الحبُّ أوَّلهُ شيءٌ يهيمُ به
…
قلبُ المحبِّ فيَلْقَى الموتَ كاللَّعِب
يكون مبدؤه منْ نظرةٍ عرَضَتْ
…
ومَزْحَةٍ أَشْعَلَتْ في القَلْبِ كاللَّهَبِ
كالنَّارِ مبدؤها من قدْحةٍ فإذا
…
تضرَّمتْ أحرقتْ مُسْتَجْمَعَ الحطَب
قالوا: وكيف يُمْدَح أمرٌ يمنع القرار، ويسلُب المنام، ويُوَلِّه العقل، ويُحْدِث الجنون، بل هو نفسه جنون، كما قال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق فنٌّ من فنونه، كما قال بعضُ العُشَّاق
(2)
:
(1)
«اعتلال القلوب» (ص 324 - 325). والأبيات في «الواضح المبين» (ص 59)، و «تزيين الأسواق» (1/ 57).
(2)
البيتان بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 326)، و «ذم الهوى» (ص 317)، وبهجة المجالس (1/ 554). وللمجنون في «ديوانه» (ص 281)، و «مصارع العشاق» (1/ 126، 2/ 181)، و «ديوان الصبابة» (ص 25)، «وتزيين الأسواق» (1/ 164). وقد تقدم البيتان في أول الكتاب.
قالت جُنِنْتَ على رأسي فقلتُ لها
…
العشقُ أعظمُ مِمَّا بالمَجانين
العشقُ لا يستفيقُ الدَّهر صاحبُه
…
وإنَّما يُصْرَعُ المجنونُ في الحِيْن
قالوا: وكم من عاشقٍ أتلف في معشوقه مالَه، وعِرْضَه، ونفسَه، وضيَّع أهله، ومصالحَ دينه [69 ب] ودنياه!
قال الزُّبَيْرُ بن بكَّار
(1)
: جاءت بدويةٌ إلى أُختٍ لها، فقالت: كيف بك من حبِّ فلان؟ قالت: حرَّكَ واللهِ حبُّه الساكن! وسكَّن المتحرِّك، ثم أنشأت تقول
(2)
:
فلو أنَّ ما بي بالحَصَى فلقَ الْحَصى
…
وبالرِّيح لم يُسْمَعْ لهنَّ هُبُوبُ
ولو أنَّني أستغفرُ الله كلَّما
…
ذكرتُكَ لم تُكْتَبْ عليَّ ذنوبُ
فقلت: والله لأسألنَّه كيف هو مِنْ حُبِّكِ. فجاءته، فسألتُه، فقال: إنَّما الهوى هوانٌ، ولكنَّه خُولِفَ باسمه، وإنَّما يَعْرِفُ ذلك من اسْتَبْكَتْهُ المعالم والطُّلول.
(1)
أخرج عنه الخرائطي (ص 326 - 327)، وانظر ذم الهوى (ص 316).
(2)
البيتان لابن الدمينة في «ديوانه» (ص 111)، و «الأشباه والنظائر» للخالديين (2/ 140)، و «أمالي» الزجاجي (ص 157)، و «الحماسة البصرية» (2/ 193). ولغصين بن براق أو ابن الدمينة في «المؤتلف» للآمدي (ص 67، 68)، وللمجنون في «ديوانه» (ص 59)، و «الموشى» (ص 139).