المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العشق هو الداء الدوي؛ الذي تذوب معه الأرواح - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي أسماء المحبة

- ‌الباب الثانيفي اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الأسماءُ الدالَّة عَلَى مسمًّى واحدٍ نوعان:

- ‌الباب الرابعفي أنَّ العالمَ العُلويَّ والسُّفليَّ إنَّما وُجد بالمحبَّة ولأجلها

- ‌الحركة الإرادية تابعةٌ لإرادة المتحرِّك

- ‌ الملائكة مُوَكَّلَةٌ بالعالم العُلويِّ والسُّفلي

- ‌ الإيمانُ بالملائكة أحدَ أركان الإيمان الذي لا يَتمّ إلا به

- ‌الحبُّ والإرادة أصلُ كلِّ فعلٍ ومبدؤه

- ‌جميعُ حركات العالم العلويِّ والسُّفليِّ تابعةٌ للإرادة والمحبَّة

- ‌ يَنْطِق الكونُ بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالًا وحالًا

- ‌الباب الخامسفي دَواعي المحبَّة ومتعلَّقها

- ‌ المحبَّة تستدعي مشاكلةً ومناسبةً

- ‌داعي الحبِّ مِنَ المُحبِّ أربعة أشياء:

- ‌الباب السادسفي أحكام النظر، وغائلته، وما يجني على صاحبه

- ‌ العينَ مِرْآة القلب

- ‌سكرُ العشق أعظمُ من سكر الخمر

- ‌الباب السابعفي ذكر مناظرةٍ بين القلب والعين،ولوم كلٍّ منهما صاحبه(1)، والحكم بينهما

- ‌ أقوال الأئمة

- ‌الباب التاسعفي الجواب عمَّا احتجَّت به هذه الطَّائفة،وما لها وما عليها

- ‌الشَّهوةُ المجرَّدة لا تلتحق بالضرورات، ولا بالحاجات

- ‌الباب الثاني عشرفي سَكْرَةِ العُشَّاق

- ‌ حقيقة السُّكْرِ وسببه

- ‌الخمرُ شرابُ الأجسام، والعشق شراب النفوس، والألحانُ شراب الأرواح

- ‌الباب الثالث عشرفي أنَّ اللذَّة تابعةٌ لِلْمَحَبَّة في الكمال والنُّقصان

- ‌اللذَّة والألم يَنْشآن عن إدراك المُلائم والمُنافي

- ‌اللذَّة الجثمانيةُ:

- ‌الباب الرابع عشرفيمنْ مدح العِشْقَ وتمنَّاه، وَغَبَطَ صاحبَهعلى ما أُوتِيَهُ مِنْ مُناه

- ‌الباب الخامس عشرفيمن ذمَّ العِشْقَ، وتبرَّم به، وما احتجَّ بهكلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه

- ‌العشق هو الدَّاء الدَّويُّ؛ الذي تذوب معه الأرواح

- ‌العشقُ والهوى أصلُ كلِّ بليَّة

- ‌ الباب السَّادس عشرفي الحُكْم بين الفريقينوفصل النِّزاع بين الطائفتين

- ‌ العشق لا يُحْمدَ مطلقًا، ولا يُذَمُّ مطلقًا

- ‌الباب السابع عشرفي استحباب تخيُّر الصورة الجميلة للوِصالالذي يحبُّه الله ورسوله

- ‌الباب الثَّامن عشرفي أنَّ دواء المُحبِّين في كمال الوصالالذي أباحه ربُّ العالمين

- ‌ هل يجبُ على الزَّوج مجامعةُ امرأته

- ‌«خيرُ الأمور أوساطها»

- ‌الباب التاسع عشرفي ذكر فضيلة الجمالوميل النفوس إليه على كلِّ حال

- ‌ الجمال ينقسمُ قسمين: ظاهر وباطن

- ‌ الجمال الباطن يُزيِّن الصورة الظاهرة

- ‌ فصل في ذكر حقيقة الحُسْنِ والجمال ما هي

- ‌ممَّا يُذمُّ في النساء

- ‌ الباب العشرونفي علامات المحبَّة وشواهدها

- ‌ ذكر أقسام النفوس ومحابِّها

- ‌فصلومنها: إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه

- ‌فصلومنها: كثرةُ ذكر المحبوب

- ‌أعلى أنواع ذكر الحبيب

- ‌المحبُّون ثلاثة أقسام:

- ‌فصلومنها: الإقبالُ على حديثه، وإلقاءُ سمعه كلِّه إليه

- ‌فصلومنها: محبَّةُ دار المحبوب وبيته

- ‌فصلومنها: الإسراع إليه في السير

- ‌فصلومنها: محبةُ أحباب المحبوب، وجيرانه، وخدمه

- ‌فصلومنها: انجلاء همومه وغمومه إذا رأى محبوبه أو زاره

- ‌فصلومنها: البهتُ والرَّوعة التي تحصلُ عند مواجهة الحبيب، أو عند سماع ذكره

- ‌ سبب هذه الرَّوعة، والفزع، والاضطراب

- ‌فصلومنها: غيرتُه لمحبوبه وعلى محبوبه

- ‌أقوى الناس دينًا أعظمُهم غيرةً

- ‌للمحب في هذا ثلاثةُ أحوال:

- ‌فصلومنها: سروره بما يُسرُّ به محبوبه

- ‌فصلومنها: حبُّ الوحدة، والأنس بالخلوة، والتفرُّد عن الناس

- ‌فصلومنها: استكانةُ المحبِّ لمحبوبه، وخضوعُه، وذلُّه له

- ‌فصلومنها: امتدادُ النفَس، وتردُّد الأنفاس، وتصاعدُها

- ‌فصلومنها: هجرُه كل سبب يُقصيه من محبوبه

- ‌المحبَّة النافعة

- ‌فصلومنها: الاتفاق الواقع بين المحبّ والمحبوب

- ‌الباب الحادي والعشرونفي اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحبوعدم التَّشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌ المحبة ثلاثة أقسام: محبة الله، والمحبة له وفيه، والمحبة معه

- ‌الباب الثاني والعشرونفي غَيْرَةِ المُحبِّين على أحبابهم

- ‌الغيرة نوعان: غيرةٌ للمحبوب، وغيرة عليه

- ‌فصلومنها: شدةُ الموافقة للحبيب

- ‌الباب الثالث والعشرونفي عفاف المُحبِّين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الصحيح: أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزاني

- ‌الباب الخامس والعشرون في رحمة المُحبين، والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبَينِ رغبةً في أعلاهما

- ‌النفس الأبيةُ لا ترضى بالدُّون

- ‌الرَّاغبون ثلاثةُ أقسام: راغبٌ في الله، وراغبٌ فيما عند الله، وراغبٌ عن الله

- ‌حياةُ القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدًا

- ‌من أسمائه الحسنى: الجميلُ

- ‌من علامات المحبَّة الصَّادقة

- ‌أشدُّ العقوبات العقوبة بسلب الإيمان

- ‌ من ترك لله شيئًا؛ عوَّضه الله خيرًا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذَّة الوصال الحرام

- ‌الباب التَّاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى

- ‌لا ينبغي ذم الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا

- ‌ حاكم العقل، وحاكم الدِّين

- ‌ متَّبع الهوى ليس أهلًا أن يطاع

- ‌ متَّبع الهوى بمنزلة عابد الوثن

- ‌ الهوى داءٌ، ودواؤه مخالفته

- ‌ الهوى تخليطٌ، ومخالفته حِمْيَةٌ

- ‌ التَّوحيد واتِّباع الهوى متضادَّان

- ‌ الهوى رِقٌّ في القلب، وغُلٌّ في العُنُق، وقيدٌ في الرِّجل

- ‌ مخالفة الهوى توجبُ شرف الدنيا، وشرف الآخرة

الفصل: ‌العشق هو الداء الدوي؛ الذي تذوب معه الأرواح

وأنشدَ أبو الفضل الربعي

(1)

:

قَدْ أمطرَتْ عيني دمًا فدِماؤُها

بعدَ الدُّموع من الجُفون هوامِلُ

كيف العزاءُ ولا يزالُ من الضَّنى

في الجسم مني والجوانح نازلُ

لَهْفي على زمنٍ مضى تجتازني

فيه صروفُ الدَّهرِ وهْي غوافل

قالوا

(2)

: و‌

‌العشق هو الدَّاء الدَّويُّ؛ الذي تذوب معه الأرواح

، ولا يقع معه الارتياح، بل هو بحرٌ؛ مَنْ رَكبَه غَرِق، فإنه لا ساحلَ له، ولا نجاةَ منه، وهو الذي قال فيه القائل

(3)

:

وما أحدٌ في النَّاس يُحْمَدُ أمرُه

فيُوجَدُ إلا وهو في الحبِّ أحمقُ

وما أحدٌ ما ذاقَ بُؤْسَ معيشةٍ

فيَعْشَقُ إلا ذاقها حِيْنَ يعْشقُ

وقال العبّاس بن الأحنف

(4)

:

ويحَ المُحبِّين ما أشقى نفوسَهُمُ

إنْ كان مثلُ الذي بي بالمحبّينا

(1)

أخرجه الخرائطي (ص 327).

(2)

كما في «الواضح المبين» (ص 66) نقلًا عن «سلوة المسافر» للفخر الفارسي.

(3)

البيتان لعبد الله بن بهلول في «عقلاء المجانين» (ص 27). ولامرأة من قيس في «الزهرة» (1/ 63). وبلا نسبة في «الموشى» (ص 157) و «ذم الهوى» (ص 314) و «الواضح المبين» (ص 66).

(4)

«ديوانه» (ص 286)، و «مصارع العشاق» (1/ 248)، و «الواضح المبين» (ص 66)، و «تزيين الأسواق» (1/ 33).

ص: 275

يشْقَوْنَ في هذه الدُّنيا بِعِشْقِهمِ

لا يُرْزقونَ به دُنيا ولا دينا

وقال آخر

(1)

:

العشقُ مَشْغَلَةٌ عن كلِّ صالحةٍ

وسَكْرَةُ العشْقِ تَنْفي لَذَّة الوَسَن

وقال محمَّدُ بن أبي محمَّد اليزيديُّ

(2)

:

كيف يُطيقُ النَّاسُ وصف الهوى

وهو جليلٌ ما له قدْرُ

بل كيف يصفُو لِحَليفِ الهوى

عَيْشٌ وفيه البَيْنُ والهَجْرُ

وقال محمَّد بن أبي أميَّة

(3)

[70 أ]:

قرينُ الحبِّ يأْنَسُ بالهُموم

ويُكثِرُ فكْرة القلب السَّقيم

وأعظمُ ما يكونُ به اغتباطًا

على خطرٍ ومُطَّلعٍ عظيم

وقال أبو تمَّام

(4)

:

أمَّا الهوى فهو العذابُ فإنْ جرتْ

فيه النَّوى فأليمُ كلِّ عذاب

(1)

البيت بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 317)، و «الواضح المبين» (ص 66)، و «ديوان الصبابة» (ص 46).

(2)

البيتان له في «ذم الهوى» (ص 318)، و «الواضح المبين» (ص 67)، و «ديوان الصبابة» (ص 46).

(3)

في النسختين: «بن أمية» ، والتصويب من «ذم الهوى» (ص 319)، و «الواضح المبين» (ص 67) حيث البيتان.

(4)

كما في «الواضح المبين» (ص 67)، وليس في دوانه.

ص: 276

وقال ابن أبي حصِيْنَة

(1)

:

والعشقُ يجتذبُ النفوس إلى الرَّدى

بالطَّبع واحسَدِي لمن لم يَعشَق

وقال ابن المعتزّ

(2)

:

الحبُّ داءٌ عياء لا دواء له

يَحارُ فيه الأطبَّاءُ النَّحاريرُ

قد كنتُ أحْسَبُ أنَّ العاشِقيْنَ غَلَوْا

في وصفِه فإذا بالقوم تقصيرُ

وقال أعرابيٌّ

(3)

:

ألا ما الهوى والحبُّ بالشَّيءِ هكذا

يدلُّ به طَوْعُ اللِّسانِ فيوصفُ

ولكنَّه شيءٌ قَضى اللهُ أنَّه

هو الموتُ أو شيءٌ منَ المَوْتِ أعْنَفُ

فأَوَّلُه سُقْمٌ وآخرُه ضَنًى

وأوسَطُهُ شَوْقٌ يَشُفُّ ويُتْلِفُ

وَرَوْعٌ وتسهيدٌ وهمٌّ وحَسْرَةٌ

ووجْدٌ على وَجْدٍ يزيدُ ويَضْعُفُ

وقال عبد المحسن الصُّوريُّ

(4)

:

ما الحبُّ إلا مَسْلكٌ خَطِرٌ

عَسِرُ النَّجاة ومَوْطئٌ زلَقُ

(1)

البيت له في «ذم الهوى» (ص 319)، و «الواضح المبين» (ص 67).

(2)

كما في «الواضح المبين» (ص 67)، والبيتان لابن الرومي في «ديوانه» (ص 993)، و «ذم الهوى» (ص 319).

(3)

الأبيات في «الواضح المبين» (ص 68).

(4)

البيت لعلي بن عبد الرحمن العقيلي في «مصارع العشاق» (2/ 69)، و «ذم الهوى» (ص 322)، و «تزيين الأسواق» (2/ 289)، وبلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 68).

ص: 277

وقال آخر

(1)

:

وكان ابتداءُ الَّذي بي مُجُونا

فلمَّا تمكَّنَ أمسى جُنونا

وكنتُ أَظُنُّ الهَوى هيِّنا

فلاقيتُ مِنْهُ عذابًا مُهينًا

وقالت امرأة

(2)

:

رأيتُ الهوى حلوًا إذا اجتمع الشَّمْلُ

ومُرًّا على الهِجْران لا بلْ هُوَ القَتْلُ

ومنْ لم يَذُقْ لِلْهَجْرِ طعمًا فإنَّه

إذا ذاقَ طعمَ الحُبِّ لم يدْرِ ما الوَصْلُ

وقد ذقتُ طَعْمَيْه على القُربِ والنَّوى

فأبْعَدُه قتلٌ وأقربُه خَبْلُ

قالوا: والعشق يترك المَلِكَ مملوكًا، والسُّلطانَ عبدًا، كما قال الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الدَّاخل، وكان ملكَ الأندلس

(3)

:

ظلَّ مِن فَرْطِ حُبِّه مَمْلوكا

وَلَقَدْ كانَ قبلَ ذاكَ مَلِيْكا [70 ب]

تركَتْهُ جآذِرُ القَصْر صبًّا

مُستهامًا على الصَّعيد تريكا

يجعلُ الخدَّ واضعًا فوق تُرْبٍ

لِلَّذي يجعلُ الحريرَ أريكا

(1)

البيتان لعبد المحسن الصوري في «الواضح المبين» (ص 68)، و «ذم الهوى» (ص 323)، و «ديوان الصبابة» (ص 45).

(2)

انظر: «اعتلال القلوب» (ص 288)، و «مصارع العشاق» (1/ 164)، و «ذم الهوى» (ص 346)، و «الواضح المبين» (ص 69)، و «تزيين الأسواق» (1/ 44).

(3)

الأبيات له في «الواضح المبين» (ص 72)، و «تزيين الأسواق» (1/ 39، 40)، و «ديوان الصبابة» (ص 69).

ص: 278

هكذا يحسنُ التذلُّل بالحُرِّ

إذا كان في الهوى مملُوكا

وقال الرشيد

(1)

ــ وقد عشق ثلاثَ جوارٍ من جواريه ــ ويقال: إنه المأمون ــ:

مَلَكَ الثلاثُ الآنساتُ عِناني

وحَلَلْنَ منْ قلبي بكلِّ مَكانِ

ما لي تُطاوعني البرِيَّةُ كلُّها

وأُطيعُهنَّ وهنَّ في عِصْياني

ما ذاكَ إلا أنَّ سُلْطَانَ الهَوى

ــ وبه قَوينَ ــ أعزُّ من سُلطاني

وقال بعض الملوك

(2)

في جاريةٍ له عشقها، وكانت كثيرة التَّجنِّي عليه:

أما يكفيكِ أنَّكِ تَمْلِكيني

وأنَّ الناس كلَّهم عَبيدي

وأنَّكِ لو جَهِدتِ على تَلافي

لَقُلْتُ مِنَ الرِّضا أَحْسَنْتِ زِيدي

(1)

أخرجه الخرائطي (ص 323). والأبيات في «العقد» (6/ 46) للرشيد، وفي «الأغاني» (16/ 345) للرشيد أو العباس بن الأحنف. وللعباس بن الأحنف في «الواضح المبين» (ص 72). وانظر:«تزيين الأسواق» (1/ 40)، و «الغيث المسجم» (1/ 369).

(2)

اختُلف في نسبتها، فهي للمأمون في جاريته شادن، وقيل: للمهدي في «الواضح المبين» (ص 72). وللمأمون في «الزهرة» (2/ 566)، و «تاريخ بغداد» (14/ 12). وللمهدي في «حماسة الظرفاء» (2/ 105)، و «فوات الوفيات» (3/ 401). وللمستعين أو الرشيد أو المأمون أو المهدي في «ديوان الصبابة» (ص 69). وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 158).

ص: 279

وقال ابنُ طاهر ملكُ خُراسان

(1)

:

فإنِّي وإنْ حنَّت إليك ضمائري

فما قَدْرُ حُبِّي أن يَذِلَّ له قدري

وقال ابن الأحمر ملكُ الأندلس

(2)

:

أيا ربَّة الخِدْر التي أذهبتْ نُسْكي

على كلِّ حالٍ أنتِ لابُدَّ لي منكِ

فإمَّا بذلٍّ وهو ألْيَقُ بالهوى

وإمَّا بعزٍّ وهو أليقُ بالمُلْك

قالوا: وكم مِمَّن هرب من الحبّ إلى مظانِّ التَّلَف؛ ليتخلَّصَ من التَّلَف بالتَّلَف.

قال دِعْبِل الشَّاعر

(3)

: كنت بالثَّغر، فنُودي بالنَّفير، فخرجتُ مع الناس فإذا بفتًى يَجُرّ رمحَه بين يديَّ، فالتفتُّ، فنظر إليَّ، فقال: أنت دِعْبِل؟ قلت: نعم! قال: اسمع منِّي، ثم أنشدني:

أنا في أمرَيْ رشادِ

بينَ غزوٍ وجهادِ

بدَني يَغْزو عَدوّي

والهَوى يغزو فُؤَادي

(1)

البيت له في «الواضح المبين» (ص 73)، و «تزيين الأسواق» (1/ 40). ولابن المعتز في «ذم الهوى» (ص 643). وبلا نسبة في «الموشى» (ص 230).

(2)

انظر: «الواضح المبين» (ص 73)، و «ديوان الصبابة» (ص 70)، و «تزيين الأسواق» (1/ 40).

(3)

أخرج عنه الخرائطي (ص 215)، ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 489 - 490). والخبر والشعر في «العقد الفريد» (5/ 408)، و «ديوان الصبابة» (ص 45).

ص: 280

[71 أ] ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيد والله! قال: فوالله ما خرجتُ إلا هاربًا من الحبِّ! ثم قاتلَ حتى قُتل.

وقال أصرم بن حميد

(1)

:

نحن قومٌ تُلينُنا الحَدَقُ النُّجْـ

ـلُ على أنَّنا نُلِينُ الحديدا

طوع أيدي الظِّباءِ تَقتادُنا العِيْنُ

ونقتادُ بالطِّعان الأسودا

يتَّقي سُخْطَنا اللُّيوثُ ونخشى

صوْلَة الخِشْف حين يُبدي الصُّدودا

وترانا عند الكريهة أحرَا

رًا وفي السِّلم للغَواني عبيدا

قالوا: ورأينا الدَّاخل فيه يتمنَّى منه الخلاص، ولات حين مناص.

قال الخرائطيُّ

(2)

: أنشدني أبو جعفر العبديُّ:

إذا الله نَجَّاني من الحُبِّ لَمْ أَعُدْ

إليه ولمْ أقبلْ مقالَةَ عاذلي

ومنْ لي بمَنْجَاةٍ من الحُبِّ بعدما

رمتني دَواعي الحُبِّ بينَ الحَبائل

قال أبو عبيدة

(3)

: الحبائل: الموت. قال

(4)

: وأنشدني أبو عبيد الله ابن الدولابيِّ:

(1)

«اعتلال القلوب» (ص 323). وفي «وفيات الأعيان» (3/ 85) لعبد الله بن طاهر، وقيل: لأصرم بن حميد.

(2)

«اعتلال القلوب» (ص 215).

(3)

في «اعتلال القلوب» : «أبو عبيد القاسم بن سلام» .

(4)

أي: الخرائطي (ص 215). والأبيات للمعلوط في «الزهرة» (1/ 270، 271).

ص: 281

دعوتُ ربِّي دعاءً فاستجاب له

كما دَعا ربَّهُ نوحٌ وأيُّوبُ

أن يَنْزعَ الدَّاءَ مِنْ صَدْري ويَجْعَلَهُ

في صَدْر سلْمى وحمْلُ الدَّاء تعطيب

أو يَشْفِ قلبي سريعًا من صبابته

فلا أحِنُّ إذا حنَّ المَطاريبُ

قالوا: وكم أكبَّتْ فتنةُ العِشْق رؤُوسًا على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرَّعتهم بين أطباق النَّار كؤوس الحميم، وكم أخرجت مَنْ شاء الله من العلم والدِّين، كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالتْ من نِعْمَةٍ، وأحلَّتْ منْ نقْمَة، وكم أنزلت من مَعْقِل عزّه عزيزًا، فإذا هو من الأذلِّين ذليلًا، ووضعتْ منْ شريفٍ رفيع القَدْرِ والمَنْصب، فإذا هو في أسفل السَّافلين، وكم كشفت منْ عورة، وأحدثت منْ رَوْعةٍ، وأعقبت منْ ألمٍ، وأحلَّت منْ ندمٍ، وكم أضرمت [71 ب] منْ نارِ حسراتٍ احترقت فيها الأكباد، وأذهبت قدْرًا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت منْ جهْد البلاء، ودَرْك الشَّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، فقلَّ أن يُفارقها زوالُ نعمةٍ، أو فجاءةُ نقمةٍ، أو تحويلُ عافيةٍ، أو طُروقُ بليَّةٍ، أو حدوث رَزِيَّة، فلو سألت النِّعَمَ: ما الذي أزالك؟ والنِّقَمَ: ما الذي أدالكِ؟ والهمومَ والأحزان: ما الذي جلبك؟ والعافية: ما الذي أبعدك، وجَنَّبَك؟ والسِّتْر: ما الذي

ص: 282

كشفك؟ والشمس: ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة: ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان: ما الذي كوَّرك؟ وعزَّة النفس: ما الذي أذلَّك، وبالهوان بعد الإكرام بدَّلك؟ لأجابَتْك بلسان الحال اعتبارًا، إن لم تُجبْ بالمقال حوارًا.

هذا والله بعضُ جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل/52] ويكفي اللبيبَ موعظة واستبصارًا ما قصَّه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرًا واعتبارًا، فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحاملِ له على التكَبُّر عن طاعة الله عز وجل في أمره بالسجود لآدم، فحمله هوى نفسه، وإعجابُه بها على أنْ عصى أمره، وتكبَّر على طاعته، فكان من أمره ما كان، ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغبَ في الخلود في الجنَّة، وحملَهُ هواه على أنْ أكل من الشَّجرة التي نُهي عنها، وكان الحاملُ له على ذلك هوى النفس ومحبَّتها للخلود، فكان عاقبةُ ذلك الهوى والشَّهوة إخراجه منها إلى دار التَّعب والنَّصَب.

وقيل: إنه إنما أكل منها طاعة لحوَّاء، فحمله حبُّه لها أن أطاعها، ودخل في هواها، وإنما توصَّل إليه عدوُّه من طريقها؟ ودخل عليه من بابها. فأوَّل فتنةٍ كانت في هذا العالم بسبب النساء.

ثم ذكر سبحانه فتنة الكفَّار؛ الذين أشركوا به [72 أ] ما لم ينزِّل به سلطانًا، وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه، وحرَّموا زينته التي أخرج لعباده

ص: 283

والطيبات من الرزق، وتعبَّدوا له بالفواحش وزعموا أنَّه أمرهم بها؛ واتخذوا الشياطين أولياء من دونه، والحاملُ لهم على ذلك كلِّه الهوى والحبُّ الفاسد، وعليه حاربوا رسله، وكذَّبوا كتُبَه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه، حتى خسروا الدُّنيا والآخرة.

ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح، وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدُّنيا، ودخول النَّار في الآخرة.

ثم ذكر قصَّة عادٍ، وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع، والعقوبة المستمرة.

ثم قصَّة قوم صالح كذلك، ثم قصة العُشَّاق، أئمة الفُسَّاق، وناكحي الذكران، وتاركي النِّسوان، وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون، وقطع دابرهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون، وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أُمَّةٍ من الأمم أجمعين، وجعلهم سلفًا لإخوانهم اللُّوطيَّة من المُتقدِّمين والمتأخِّرين، ولما تجرؤوا على هذه المعصية، وتمرَّدوا، ونهجوا لإخوانهم طريقها، وقاموا بأمرها، وقعدوا؛ ضجَّت الملائكةُ إلى الله من ذلك ضجيجًا، وعجَّت الأرض إلى ربِّها من هذا الأمر عجيجًا، وهربت الملائكة إلى أقطار السموات، وشكتهم إلى الله جميعُ المخلوقات، وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأْخذُ الظالمين إلا بعد إقامة الحُجَّة عليهم، والتقدُّم بالوعد والوعيد إليهم، فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم، وينذرهم عذابه

ص: 284

الأليم، فأذَّن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملأ منهم والأشهاد، وصاح بها بين أظهُرِهم في كلِّ حاضرٍ وباد، وقال وكان في قوله لهم من أعظم الناصحين:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/80].

ثم أعاد لهم القول نصحًا وتحذيرًا، [72 ب] وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون:{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف/81] فأجاب العُشَّاق جواب من أُركِس في هواه وغيِّه، فقلبُه بعشقه مفتون، وقالوا:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل/56].

فلمَّا أن حان الوقت المعلوم، وجاء ميقاتُ نفوذ القدر المحتوم، أرسل الرَّحمن ــ تبارك وتعالى ــ لتمام الإنعام والامتحان إلى نبيه لوطٍ ملائكةً في صورة البشر، وأجمل ما يكون من الصُّور، وجاءوه في صورة الأضياف النُّزول بذي الصَّدرِ الرَّحيب، فـ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود/77].

وجاء الصَّريخ إلى اللوطيّة: أنَّ لوطًا قد نزل به شبابٌ لم يَنْظُر إلى مثل حُسْنهم وجمالهم الناظرون، ولا رأى مثلهم الرَّاءون، فنادى اللُّوطيَّة بعضهم بعضًا أنْ هَلُمُّوا إلى منزل لوط، ففيه قضاءُ الشهوات، ونَيْلُ أكثر اللَّذَّات {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 285

السَّيِّئَاتِ} [هود/78].

فلمَّا دخلوا إليه، وهجموا عليه، قال لهم وهو كظيمٌ من الهمِّ والغمِّ، وقلبُه بالحزن عميد:{يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود/78].

فلما سمع اللُّوطية مقالته؛ أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود/79] فقال لهم لوطٌ مقالةَ المُضْطَهَد الوحيد: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود/80] فلمَّا رأت رسلُ الله ما يقاسي نبيُّه من اللوطيَّة؛ كشفوا له عن حقيقة الحال، وقالوا: هوِّن عليك، {يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود/81] فسُرَّ نبيُّ الله سرور المحب وأتاه الفرج بغتةً على يد الحبيب، وقيل له:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود/81].

ولما أبو ا إلا مُراودته عن أضيافه، ولم يرعَوْا حقَّ الجار؛ ضرب جبريل [73 أ] بجناحه على أوجههم، فطمس منهم الأعين، وأعمى الأبصار، فخرجوا من عنده عُمْيانًا يتحسَّسون، ويقولون: ستعلم غدًا ما يَحِلُّ بك أيُّها المجنون!

فلمَّا انشقَّ عمود الصُّبح جاء النداء منْ عند ربِّ الأرباب: أن اخسف بالأمَّة اللوطيَّة، وأَذِقهم أليم العذاب، فاقتلع القويُّ الأمينُ

ص: 286

جبريل مدائنهم على ريشةٍ من جناحه، ورفعها في الجوِّ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، وصياح دِيكَتِهمْ، ثم قلبها، فجعل عاليها سافلها، وأُتبعوا بحجارةٍ من سجِّيلٍ، وهو الطين المستحجِر الشديد.

وخوَّف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد، فقال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود/82 ــ 83] فهذه عاقبة اللوطيَّة عُشَّاقِ الصُّوَر، وهم السَّلف، وإخوانُهم بعدهم على الأثر

(1)

.

وإن لم تكونوا قوم لوطٍ بعينهم

فما قومُ لوطٍ منكمُ ببعيد

وإنَّهمُ في الخَسْفِ ينتظرونهم

على موْردٍ مِنْ مُهلَةٍ وصديد

يقولون لا أهلًا ولا مَرْحَبًا بكم

ألم يتقدَّم ربُّكم بوعيد

فقالوا بلى لكنَّكم قد سَنَنْتمُ

صراطًا لنا في العِشْق غيرَ حميد

أتينا به الذُّكْرانَ من عِشْقِنا لهم

فأوردنا ذا العشقُ شرَّ ورودِ

فأنتم بتضعيف العذاب أحقُّ من

مُتابِعِكم في ذاك غير رشيد

فقالوا وأنتم رُسلكم أنذرتكم

بما قد لقيناه بصدق وعيد

فما لكم فضل علينا وكلُّنا

نذوق عذاب الهون جدَّ شديد

(1)

الأبيات بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 72)، و «تزيين الأسواق» (2/ 54). ولعلها لابن القيم، والله أعلم.

ص: 287

كما كلُّنا قد ذاق لذَّة وصلِهم

ومجمعُنا في النَّار غيرُ حميد

وكذلك قومُ شعيب، إنَّما حملهم على بخس المِكيال والميزان فرطُ محبَّتهم للمال، وغلبهم [73 ب] الهوى على طاعة نبيِّهم، حتى أصابهم العذاب.

وكذلك قوم فرعون، حملهم الهوى، والشَّهوةُ، وعشقُ الرئاسة على تكذيب موسى، حتى آل بهم الأمر إلى ما آل. وكذلك أهل السبت؛ الذين مُسخوا قردةً، إنَّما أُتُوا من جهة محبَّة الحيتان، وشهوة أكلها، والحِرْص عليها. وكذلك الذي آتاه الربُّ تبارك وتعالى آياته {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف/175] وقال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف/176].

وتأمل قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فأخبر أنَّ ذلك إنما حصل له بإيتاء الربِّ له لا بتحصيله هو. ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ولم يقل: فسلخناه، بل أضاف الانسلاخ إليه، وعبَّر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخلِّيه عنها بالكلِّية، وهذا شأْنُ الكافر.

وأمَّا المؤمن ــ ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه ــ فإنَّه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية.

ثم قال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل: فتبعه. فإن في «أتبعه»

ص: 288

إعلامًا بأنَّه أدركه، ولحِقه، كما قال الله تعالى:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء/60] أي: لحقوهم، ووصلوا إليهم. ثم قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ففي ذلك دليلٌ على أنَّ مجرد العلم لا يرفع صاحبه، فإن هذا قد أخبر الله سبحانه: أنَّه آتاه آياته، ولم يرفعه بها.

فالرفعة بالعلم قدرٌ زائدٌ على مجرّد تعليمه، ثم أخبر سبحانه عن السَّبب الذي منعه أن يُرفع بها، فقال:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وقوله: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: سكن إليها، ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضيَّة سفليةً، لا سماويةً عُلْويةً، وبحسب ما يُخْلد العبد إلى الأرض يهبط من السَّماء.

قال سهل: قسم الله للأعضاء من الهوى، لكلِّ عضو منه حظًّا. فإذا مال عضوٌ منها إلى الهوى؛ رجع ضررُه إلى القلب. وللنَّفس سبعُ حُجُبٍ سماويَّةٍ، وسبعُ حجبٍ أرضيَّةٍ، فكلما دفن العبد نفسه أرضًا [74 أ] أرضًا؛ سما قلبُه سماءً سماءً، فإذا دفن النفس تحت الثرى؛ وصل القلبُ إلى العرش.

ثم ذكر سبحانه مَثَل المُتَّبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللَّهْثُ في حالتَي تركِه والحمل عليه، فهكذا هذا لا يفارقُه اللهثُ على الدُّنيا راغبًا وراهبًا.

والمقصودُ: أنَّ هذه السورة من أوّلها إلى آخرها في ذكر حال أهل

ص: 289