الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول: جهادُ النفس والهوى أصلُ جهاد الكفَّار والمنافقين، فإنَّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسَه وهواه أولًا، حتَّى يخرج إليهم.
الثالث والثلاثون: أنَّ
الهوى تخليطٌ، ومخالفته حِمْيَةٌ
، ويُخاف على من أفرط في التخليط، وجانبَ الحِمْية أن يصرعه داؤه. قال عبد الملك ابن قُرَيب: مررتُ بأعرابيٍّ به رمدٌ شديد، ودموعه تسيل على خدَّيه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطَّبيبُ عن ذلك، ولا خير فيمن إذا زُجر، لا ينزجر، وإذا أمر، لا يأتمر! فقلتُ: ألا تشتهي شيئًا! فقال: بلى! ولكنِّي أحتمي، إنَّ أهل النَّار غلبت شهوتُهم حِمْيَتَهُم، فهلكوا.
الرَّابع والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يغلقُ [182 ب] عن العبد أبو ابَ التَّوفيق، ويفتح عليه أبوابَ الخِذْلان، فتراه يَلْهج بأنَّ الله لو وفَّق لكان كذا وكذا، وقد سدَّ على نفسه طُرُق التوفيق باتباعه هواه. قال الفُضيل بن عياض: من استحوذَ عليه الهوى واتِّباع الشَّهواتِ؛ انقطعت عنه موارد التَّوفيق.
وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرَّغبة، والرَّهبة، ثمَّ قال: رأيت منهنَّ اثنتين: رجلًا غضب فقتل أمَّه، ورجلًا عَشِقَ فتنصَّر.
وكان بعض السَّلف يطوفُ بالبيت، فنظر إلى امرأةٍ جميلةٍ، فمشى إلى جانبها، ثمَّ قال
(1)
:
(1)
هو عبد الله بن حسن بن حسن، كما في ذم الهوى (ص 24 - 25).
أهوى هوى الدِّين واللَّذَّاتُ تُعجبني
…
فكيفَ لي بهوى اللَّذَّات والدِّين؟
فقالت: دعْ أحدَهما؛ تنل الآخر.
الخامس والثلاثون: أنَّ من نصر هواه فسد عليه رأيه وعقله؛ لأنَّه قد خان الله في عقله، فأفسده عليه، وهذا شأنه سبحانه في كلِّ من خانه في أمرٍ من الأمور، فإنَّه يفسده عليه.
قال المعتصم يومًا لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نُصر الهوى؛ ذهب الرَّأي.
وسمعتُ رجلًا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدَّراهم؛ سلبه الله معرفة النَّقد ــ أو قال: نسيه ــ فقال الشيخ: هكذا من خان الله ورسوله في مسائل العلم.
السَّادس والثلاثون: أنَّ من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضُيِّق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيَّق عليها بمخالفة الهوى وُسِّع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله تعالى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان/ 12]. فلمَّا كان في الصَّبْر ــ الَّذي هو حبس النفس عن الهوى ــ خشونةٌ وتضييقٌ؛ جازاهم على ذلك نعومة الحرير، وسعة الجنَّة. قال أبو سليمان الدَّارانيَّ ــ رحمه الله تعالى ــ في هذه الآية: وجزاهم بما صبروا عن الشهوات.
السَّابع والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يصرع العبد عن النُّهوض يوم
القيامة عن السَّعي مع الناجين، كما صرع قلبه في الدُّنيا عن مرافقتهم. قال محمد بن أبي الورد
(1)
: إنَّ لله ــ عز وجل ــ يومًا لا ينجو من شرِّه منقادٌ [183 أ] لهواه، وإنَّ أبطأ الصَّرعى نهضةً يوم القيامة صريعُ شهوته، وإنَّ العقول لمَّا جرت في ميادين الطَّلب؛ كان أوفرُها حظًّا من يُطالبها بقدر ما صحبه من الصَّبر. والعقل معدنٌ، والفكر معوَّل.
الثامن والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يحلُّ العزائم، ويوهنها، ومخالفته تشدُّها وتقويها، والعزائم هي مركب العبد الَّذي يسيره إلى الله والدَّار الآخرة، فمتى تعطَّل المركوب؛ أوشك أن ينقطع المسافر. قيل ليحيى ابن معاذ
(2)
: من أصحُّ الناس عزمًا؟ قال: الغالب لهواه.
ودخل خلف بن خليفة
(3)
على سليمان بن حبيب بن المهلَّب، وعنده جاريةٌ يقال لها: البدر، من أحسن النَّاس وجهًا، فقال له سليمان: كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير! ما رأت عيناي أحسنَ منها قطُّ! فقال له: خذ بيدها! فقال: ما كنت لأفجعَ الأمير بها، وقد رأيت شدَّة عجبه بها! فقال: ويحك! خذها على شدَّة عجبي بها؛ ليعلم هوايَ أنِّي له غالبٌ. وأخذ بيدها، وخرج وهو يقول:
لقد حباني وأعطاني وفضَّلني
…
عن غير مسألةٍ منه سليمان
(1)
كما في ذم الهوى (ص 25).
(2)
المصدر السابق (ص 26).
(3)
ذم الهوى (ص 26 - 27)، وأمالي اليزيدي (ص 151، 152).