الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمَّدُ بنُ حميدٍ أخْلقتْ رِمَمُه
…
أُريق ماءُ المعالي مُذْ أُريقَ دَمُهْ
رأيتُه بِنِجاد السَّيْفِ محتبيًا
…
في النَّوْم بدرًا جلتْ عن وجهه ظُلمُه
فقلت والدَّمعُ من حُزْنٍ ومِنْ كمدٍ
…
يجري انسكابًا على الخَدَّين مُنْسَجِمُهْ
ألم تمُتْ يا شقيق النَّفسِ مُذْ زمنٍ
…
فقال لي لم يمتْ من لم يمُت كرَمُه
فصل
وهذا
فصل في ذكر حقيقة الحُسْنِ والجمال ما هي
؟ وهذا أمرٌ لا يُدْرَك إلا بالوصف، وقد قيل: إنَّه تناسُب الخِلْقة، واعتدالُها، واستواؤها، وربَّ صُورةٍ متناسبة الخِلْقة، وليست في الحُسن هناك، وقد قيل: الحُسْنُ في الوجه، والملاحةُ في العينين. وقيل: الحُسْنُ أمرٌ مركَّبٌ من أشياء: وضاءة، وصباحة، وحسنُ تشكيل، و تخطيطٍ، ودموثة في البشرة، وقيل: الحسنُ معنى لا تناله العبارة، ولا يُحيط به الوصفُ، وإنَّما للناس منه أوصافٌ أمكن التعبيرُ عنها.
وقد كان رسول الله [87 ب]صلى الله عليه وسلم في الذُّرْوة العُليا منه، ونظرت إليه عائشة يومًا، ثم تبسَّمتْ، فسألها:«ممَّ ذاك؟» فقالت: كأنَّ أبا كبيرٍ الهذليَّ
إنَّما عناك بقوله
(1)
:
ومُبَرَّأٌ من كلِّ غُبَّر حَيضةٍ
…
وفسادِ مُرْضِعَة وداءٍ مُغْيلِ
وإذا نظرتَ إلى أسرَّةِ وَجْهِه
…
بَرَقتْ كبرْقِ العارِض المُتَهَلِّل
ولقي بعضُ الصَّحابة راهبًا، فقال: صف لي محمدًا كأنِّي أنظرُ إليه، فإنِّي رأيتُ صفته في التوراة والإنجيل، فقال: لم يكن بالطويل البائن، ولا بالقصير، فوق الرَّبعة، أبيضَ اللون مُشْرَبًا بالحمرة، جَعْدًا ليس بالقطط، جُمَّتُه إلى شحمة أُذنه، صَلْتَ الجبين، واضحَ الخَدِّ، أدعَج العينين، أقنى الأنف، مفلَّج الثنايا، كأنَّ عنقه إبريقُ فضَّة، ووجهه كدارة القمر. فأسلم الراهب.
وفي صفة هند بن أبي هالة له صلى الله عليه وسلم: لم يكن بالطويل المُمَغَّطِ ولا بالقصير المتردِّد، كان رَبْعَةً من الرِّجال، ولم يكن بالجَعْد القطط، ولا بالسَّبط، ولم يكن بالمُطهَّم ولا بالمُكَلْثَم، وكان في الوجه تدوير، أبيضُ مُشْرَب، أدعج العينين، أهدَبُ الأشفار، جليلُ المُشاش والكتدِ، شَثْن الكفين والقدمين، دقيقُ المسْرُبة، إذا مشى تقلَّع كأنما ينحطُّ من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا، كأن الشمس تجري في وجهه
(2)
.
(1)
انظر شرح أشعار الهذليين (3/ 1073 - 1074)، وحماسة أبي تمام (1/ 73، 74). والقصة مخرجة في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 422).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 9، 11)، والترمذي في الشمائل (11).
وكان صلى الله عليه وسلم مع هذا الحسن قد أُلقيت عليه المحبَّةُ، والمهابةُ، فمن وقعت عليه عيناه؛ أحبَّه، وهابه، وكمَّل الله سبحانه له مراتب الجمال ظاهرًا وباطنًا. وكان أحسنَ خلقِ الله خَلقًا وخُلقًا، وأجملَهم صورةً ومعنى. وهكذا كان يوسفُ الصِّديق صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت امرأةُ العزيز للنِّسوة لمَّا أرتْهُنَّ إياه؛ ليعذُرْنَها في محبَّته:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف/32] أي: هذا هو الذي فُتنت به، وشُغِفْتُ بحبِّه، فمن يلومني على محبته، وهذا حسن منظره. [88 أ] ثم قالت:{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف/32] أي: ومع هذا الجمال، فباطنُه أحسنُ من ظاهره، فإنَّه في غاية العفَّة، والنَّزاهة، والبُعد عن الخنا، والمحبُّ وإن عِيبَ محبوبه؛ فلا يجري لسانه إلا بمحاسنه، ومدحه.
ويتعلَّق بهذا قوله تعالى في صفة أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان/11]. فجمَّل ظواهرهم بالنَّضْرة، وبواطنهم بالسُّرور، ومثله قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/22 ــ 23] فإنه لا شيء أشهى إليهم، وأقرُّ لعيونهم، وأنعم لبواطنهم من النَّظر إليه، فنضَّر وجوههم بالحسن، ونعَّم قلوبهم بالنظر إليه.
وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} فهذا زينة الظاهر، ثم قال:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان/21] أي: مطهرًا لبواطنهم من كل أذىً. فهذا زينة الباطن، ويشبهه قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف/26] فهذا زينةُ الظاهر، ثم قال:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف/26] فهذا زينةُ الباطن، وينظر إليه من طرف خفي قوله تعالى:{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت/12] فزيَّن ظاهرها بالمصابيح، وباطنها بحفظها من الشيطان.
وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة/197] فذكر الزَّاد الظاهر، والزاد الباطن، وهذا من زينة القرآن الباطنة المضافة إلى زينة ألفاظه، وفصاحته، وبلاغته الظاهرة.
ومنه قوله تعالى لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه/118 ــ 119] فقابل بين الجوع والعُري دون الجوع والظمأ، وبين الظمأ والضَّحْي دون الظمأ والجوع، فإن الجوع عُري الباطن، وذُلُّه، والعُرْي جوعُ الظاهر، وذُلُّه. فقابل بين ذل باطنه وظاهره، وجوع باطنه وظاهره، والظمأُ: حرُّ الباطن، والضحيُ: حرُّ الظاهر، فقابل بينهما.
وسُئل المتنبي [88 ب] عن قول امرئ القيس
(1)
:
كأنِّي لم أركبْ جوادًا للذَّةٍ
…
ولم أتبَطَّنْ كاعِبًا ذات خلخالِ
ولم أسبأ الزِّق الروي ولم أقلْ
…
لخيلي كُرِّي كرَّةً بعد إجفال
(1)
ديوانه (ص 35).
فقيل له: إنه عيب عليه مقابلةُ سبي الزق الروي بالكر، وكان الأحسن مقابلته ببطن الكاعب جمعًا بين اللذتين، وكذلك مقابلة ركوب الجواد للكر أحسن من مقابلته لتبطن الكاعب، فقال: بل الذي أتى به أحسن، فإنه قابل مركوب الشجاعة بمركوب اللذَّة واللهو، فهذا مركوب الطرب، وهذا مركوب الحرب والطلب، ولذلك قابل بين السباءين، سباء الزق وسباء الرَّقيق
(1)
.
قلت: وأيضًا فإن الشارب يفتخرُ بالشجاعة، كما قال حسان
(2)
:
ونشربُها فتترُكنا مُلوكًا
…
وأُسدًا ما يُنهنِهُنا اللقاء
وهذه جملةٌ اعتراضية من ألطف الاعتراض.
وقيل: الحسنُ ما استنطق أفواه النَّاظرين بالتسبيح والتهليل، كما قال:
ذي طلعة سبحان فالق صُبحه
…
ومعاطف جلَّت يمينُ الغارس
وقال عليُّ بن الجهم
(3)
:
طلعتْ فقال الناظرون إلى
…
تصويرها ما أعظم الله
ودنتْ فلما سلَّمتْ خجلت
…
والتفَّ بالتفّاح خدَّاها
(1)
انظر: يتيمة الدهر (1/ 21، 22).
(2)
ديوانه (ص 73).
(3)
ديوانه (ص 190).
وكأن دِعْصَ الرَّمل أسفلُها
…
وكأنَّ غُصْن البانِ أعْلاها
حتَّى إذا ثملت بنشوتها
…
قرأت كتاب الباه عيناها
وقال آخر
(1)
:
وإذا بدتْ في بعض حاجتها
…
تستنطقُ الأفواه بالتَّسْبيح
وقال بشار
(2)
:
تُلقى بتسبيحةٍ من حسن ما خُلقتْ
…
وتستفزُّ حشا الرائي بإرْعاد
ولي من أبيات:
يا صورة البدر ولا والَّذي
…
صوَّر ليس البدرُ يحكيكِ [89 أ]
مُنِّي على العين ولا تبخلي
…
بنظرة فالعينُ تفديك
وإن تحرَّجت لهذا فكم
…
قد سبح الرحمن رائيك
هذا بهذا وارتجي أجر من
…
إن غبتِ عنه ظلَّ يبكيك
قال ابن شُبْرُمة: كفاك من الحسن أنَّه مشتقٌّ من الحسنة.
وقال عمر بن الخطاب: إذا تمَّ بياضُ المرأة في حسن شعرها؛ فقد تمَّ حسنُها.
وقالت عائشة: البياض شطرُ الحسن.
(1)
البيت لابن الرومي في ديوانه (1/ 337).
(2)
ديوانه (2/ 319)، وزهر الآداب (1/ 420)، وجمع الجواهر (ص 135).