الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اختلفَ الفقهاءُ:
هل يجبُ على الزَّوج مجامعةُ امرأته
؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك، فإنَّه حقٌّ له، فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه، بمنزلة من استأْجرَ دارًا، إن شاء سكنَها، وإن شاء تركَها
(1)
.
وهذا من أضعف الأقوالِ، والقرآنُ والسُّنَّةُ والعُرْفُ والقياسُ يرُدُّه، أما القرآن، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة/228] فأخبر أنَّ للمرأة من الحقِّ مثل الذي عليها، فإذا كان الجماعُ حقًّا للزَّوج عليها؛ فهو حقٌ لها على الزَّوج بنصِّ القرآن، وأيضًا فإنَّه سبحانه وتعالى أمرَ الأزواج أن يُعاشروا الزوجات بالمعروف، ومنْ ضدِّ المعروف أن يكون عنده شابَّةٌ، شهوتُها تعدِلُ شهوة الرجل، أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة، ولا يُذيقُها لذَّة الوطء مرَّة واحدةً، ومن زعم: أنَّ هذا من المعروف؛ كفاه طبعُه ردًّا عليه. والله سبحانه وتعالى إنَّما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه، لا على غيره، فقال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة/229].
وقال طائفةٌ: يجب عليه وَطْؤُها في العُمْر مرّةً واحدةً؛ ليستقرَّ لها بذلك الصَّداق. وهذا من جنس القول الأوَّل، وهو باطلٌ من وجهٍ آخر، فإنَّ المقصود إنَّما هو المعاشرةُ بالمعروف، والصَّداقُ دخل في العقْد تعظيمًا لحُرْمته، وفرقًا بينه وبين السِّفاح، فوجوبُ المقصود بالنّكاح
(1)
«فإن شاء استوفاه
…
تركها» ساقطة من ت.
أقوى من وجوب الصَّداق.
وقالت طائفةٌ ثالثةٌ: يجبُ عليه [81 ب] أن يطأها في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، واحتجُّوا على ذلك بأنَّ الله سبحانه وتعالى أباحَ للمولي تَرَبُّص أربعة أشهر، وخيَّر المرأة بعد ذلك، إنْ شاءت أن تقيمَ عنده، وإن شاءت أن تفارِقه. فلو كان لها حقٌّ في الوَطءِ أكثر من ذلك؛ لم يجعلْ للزَّوج تركَه في تلك المدَّة.
وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللَّذين قبله؛ فليس أيضًا بصحيح، فإنه غير المعروف الذي لها وعليها. وأما جعلُ مدَّة الإيلاء أربعة أشهر؛ فنظرًا منه سبحانه للأزواج، فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطءِ امرأته مدَّة لعارضٍ منْ سفرٍ، أو تأْديبٍ، أو راحةِ نفس، أو اشتغال بمهم، فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلًا أربعة أشهر، ولا يلزم من ذلك أن يكون الْوَطءُ مؤقتًا في كلِّ أربعة أشهر مرَّة.
وقالت طائفة أُخرى: بل يجبُ عليه أن يَطَأها بالمعروف، كما ينفق عليها، ويكسوها، ويُعاشرها بالمعروف، بل هذا عمدةُ المعاشرة ومقصودُها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرَها بالمعروف، فالوَطْءُ داخلٌ في هذه المعاشرة ولابدَّ. قالوا: وعليه أن يُشبعها وَطْأً إذا أمكنه ذلك، كما عليه أن يُشبعَها قوتًا. وكان شيخنا ــ رحمه الله تعالى ــ يرجِّح هذا القول ويختاره.
وقد حضَّ النبي صلى الله عليه وسلم على استعمال هذا الدواء، ورغَّب فيه، وعلَّق
عليه الأجرَ، وجعله صدقةً لفاعله، فقال:«وفي بُضْعِ أحدِكُمْ صدَقَةٌ»
(1)
.
ومن تراجم النَّسائي على هذا: الترغيب في المُباضعة، ثم ذكر هذا الحديث، ففي هذا كمال اللذَّة، وكمال الإحسان إلى الحبيبة، وحصول الأجر، وثواب الصدقة، وفرح النفس، وذهاب أفكارها الرديئة عنها، وخفَّةُ الرُّوح، وذهابُ كثافتها وغِلَظها، وخفَّةُ الجسم، واعتدالُ المزاج، وجلبُ الصِّحة، ودفع الموادِّ الرديئة، فإن صادف ذلك وجهًا حسنًا، وخُلقًا دَمِثًا، وعشقًا وافرًا، ورغبةً تامةً، واحتسابًا للثواب؛ فذلك اللذَّة التي لا يُعادلها شيءٌ، ولاسيَّما إذا وافقتْ كمالها، فإنَّها [82 أ] لا تكمل حتى يأخذَ كلُّ جزءٍ من البدن بِقسْطه من اللَّذَّة، فتلتذُّ العين بالنَّظر إلى المحبوب، والأُذُن بسماع كلامه، والأنفُ بشمِّ رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه، وتعتكفُ كلُّ جارحةٍ على ما تطلبُه من لذَّتها، وتُقابله من المحبوب؛ فإن فُقِدَ من ذلك شيءٌ، لم تزل النفسُ متطلِّعةً إليه، متقاضيةً له، فلا تسكُن كلَّ السُّكون.
ولذلك تسمَّى المرأة سكنًا؛ لسكون النفس إليها، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم/21].
ولذلك فُضِّلَ جماعُ النهار على جماع الليل، ولسببٍ آخر طبيعي، وهو أن الليلَ وقتٌ تبرُد فيه الحواسُّ،، وتطلبُ حظَّها من السُّكون،
(1)
أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
والنَّهارُ محلُّ انتشار الحركات، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان/47]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس/67] وتمامُ النِّعمة في ذلك فرحة المحب برضا ربِّه تعالى بذلك، واحتسابُ هذه اللَّذَّة، ورجاءُ تثقيل ميزانه بها.
ولذلك كان أحبَّ شيءٍ إلى الشيطان أن يُفرّق بين الرجل وبين حبيبه؛ ليتوصل إلى تعويض كلٍّ منهما عن صاحبه بالحرام، كما في السنن
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «أَبْغضُ الحَلال إلى الله الطَّلاق» .
وفي صحيح مسلم
(2)
من حديث جابرٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ إبليس ينصبُ عرشه على الماء، ثُمَّ يَبُثُّ سراياهُ في النَّاس، فأقرَبُهم منهُ منزلةً أعْظَمُهُمْ فتنةً، فيقولُ أحدُهُم: ما زلتُ به حتَّى زنى، فيقولُ: يَتُوبُ، فيقُول الآخرُ: ما زلتُ به حتى فرَّقتُ بينهُ وبين أهله، فيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُه، ويقولُ: نعمَ أنت! نِعمَ أنت!» .
فهذا الوصال لما كان أحبَّ شيءٍ إلى الله ورسوله؛ كان أبغض شيء
(1)
أخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر. وأخرجه أبو داود (2177)، والبيهقي (7/ 322) عن محارب مرسلًا، ورجح أبو حاتم المرسل. والحديث ضعيف، انظر الإرواء (2040).
(2)
رقم (2813).
إلى عدوِّ الله، فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبَّة التي يُحبُّها الله، ويؤلِّف بين الاثنين في المحبَّة التي يُبغضها الله ويسخطها، وأكثرُ العُشاق من جنده [28 ب] وعسكره، ويرتقي بهم الحال حتى يصيرَ هو من جندهم وعسكرهم، يقود لهم، ويزيِّن لهم الفواحش، ويؤلفُ بينهم عليها، كما قيل
(1)
:
عجبتُ من إبليس في نخْوتِه
…
وقبح ما أظهر من سيرته
تاهَ على آدم في سَجْدَةٍ
…
وصارَ قوَّادًا لذُرِّيتهْ
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الذين هم مظنَّة العشق إلى أنفع أدويتهم. ففي الصحيحين
(2)
: من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب! من استطاع منكمُ الباءَة؛ فليتزوجْ، فإنَّهُ أغضُّ للْبَصر، وأحْصَنُ للْفَرْج» .
وفي لفظٍ آخر ذكره أبو عبيد
(3)
: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكُم بالباءة
…
» وذكر الحديث، وبين اللفظين فرقٌ، فإن الأوّل يقتضي أمر العزب بالتزويج، والثاني يقتضي أمر المتزوِّج بالباءة، والباءة: اسمٌ من أسماء
(1)
البيتان لأبي نواس في ديوانه (ص 315). وبلا نسبة في البيان والتبيين (1/ 32، 3/ 152).
(2)
البخاري (5065)، ومسلم (1400)، وقد تقدم.
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 85) عنه.