الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضَّرورة، و
الشَّهوةُ المجرَّدة لا تلتحق بالضرورات، ولا بالحاجات
، والحِمْيَةُ [51 ب] عنها خشيةَ إفضائها إلى مرضٍ أصعبَ منها، جارٍ مجرى الحمية عن تناول ما يضرُّ من الأطعمة والأشربة، وذلك لا تدعو الضرورةُ إلى تناوُله؛ وإنْ كانت النفسُ قد تشتهيه، فالقُبْلة، والنَّظرُ، والضَّمُّ، ونحوها جارٍ مجرى تناول الفاكهة المضرَّة، والزَّفرِ المُضرِّ للمحموم، وَمن به مرض يضرُّه معه تناولُ ذلك. فإذا قال المريض: أنا إنْ لم أتناول ذلك، وإلا خشيتُ الموت لم يكن صادقًا في قوله، وإنما الحاملُ له على ذلك مجردُ الشهوة، وربما زاد تناول ذلك في مرضه، فالطبيبُ الناصح لا يفسحُ له فيه، فكيف يفسحُ الشارع الحكيم الذي شريعته غاية طبِّ القلوب والأديان، وبها تُحفظ صحَّتُها، وتدفع موادُّها الفاسدة في تناوُل ما يزيد الدَّاء ويقوِّيه ويمدُّه؟ هذا من المُحال، بل الشريعةُ تأْمر بالحِمْيَةِ عن أسباب هذا الدَّاء؛ خوفًا من استحكامه، وتولُّدِ داءٍ آخر أصعبَ منه.
وأمَّا مسألة مَنْ خاف تشقُّق أُنْثَيَيْه، وأنَّه يباح له الوَطْءُ في رمضان؛ فهذا ليس على إطلاقه، بل إنْ أمكنه إخراجُ مائه بغير الوَطءِ لم يجُزْ له الوَطءُ بلا نزاع، وإن لم يمكنه ذلك إلا بالوطء المباح؛ فإنَّه يجري مجرى الإفطار لعذر المرض، ثمَّ يقضي ذلك اليوم، والإفطار بالمرض لا يتوقَّف على خوف الهلاك، فكيف إذا خاف تلف عُضو من أعضاء القايل، بل هذا نظيرُ من اشتدَّ عطشه، وخاف إن لم يشرب أن يَحْدُثَ له داءٌ من الأدواء، أو يتلفَ عضوٌ من أعضائه، فإنَّه يجوز له الشربُ، ثم
يقضي يومًا مكانه.
فإنْ قيل: فلو اتفق له ذلك، ولم يكن عنده إلَاّ أجنبيةٌ؛ هل يُباح له وَطْؤُها؛ لئلا تتلف أُنْثَيَاه؟
قيل: لا يُباح له ذلك، ولكن له أن يُخرج ماءه باستمنائه، فإن تعذَّر عليه، فهل يجوز له أن يمكنها من استخراج مائه بيدها؟ هذا فيه نظر، فإن أُبيح؛ جرى مجرى تطبيب المرأة الأجنبية للرَّجل، ومسِّها منه ما تدعو الحاجة إلى مَسِّه، وكذلك تطبيبُ [52 أ] الرَّجل للمرأة الأجنبية، ومسُّه ما تدعو الحاجة إليه، والله أعلم.
وقد سُئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكَلْوَذاني في رقعة:
قلْ لأبي الخَطَّاب نجمِ الهُدى
…
وقدْوةِ العالمِ في عَصْرِهِ
لازلتَ في فتواكَ مستأْمنًا
…
مِن خُدَع الشيطانِ أو مَكْرهِ
ماذا ترى في رَشَأٍ أَغْيَدٍ
…
حازَ اللَّمى والدُّرَّ في ثَغْرهِ
لَمْ يَحْكِ بدرَ التِّمِّ في حُسْنِه
…
حتَّى حكَى الزُّنْبُورَ في خَصْرهِ
فهلْ يُجيزُ الشَّرعُ تقبيلَه
…
لمُسْتَهامٍ خافَ مِنْ وِزْرهِ
أم هَلْ عَلَى المُشْتاقِ في ضَمِّه
…
مِنْ غير إدناءٍ إلى صَدْرهِ
الشربإثمٌ إذا ما لَمْ يكنْ مُضْمِرًا
…
غَيْرَ الَّذي قدَّم مِن ذِكْرِه؟
فأجاب:
يا أيُّها الشَّيخُ الأديبُ الَّذي
…
قَدْ فاقَ أهلَ العَصْرِ في شعرِه
تسألُ عَنْ تقبيل بَدْرِ الدُّجى
…
وعَطْفِ زَنْدَيْك عَلَى نَحْرِه
هلْ وردَ الشَّرعُ بتحليله
…
لمُستهامٍ خاف مِنْ وِزْرِه؟
منْ قارفَ الفتْنَة ثمَّ ادَّعى الـ
…
ـعصمةَ قدْ نافق في أمرهِ
هل فتنةُ المرْءِ سوى الضمِّ والتَّـ
…
ـقبيل للحِبِّ عَلَى ثَغْرهِ؟!
وهل دواعي ذلك المُشتَهى
…
إلا عِنَاقُ البَدْرِ في خِدْرهِ؟!
وبذْلُه ذاكَ لمشتاقِه
…
يُزريْ على هاروت في سِحْره
ولا يُجيزُ الشَّرْعُ أسباب ما
…
يورِّط المُسْلِمَ في حظْره
فانجُ ودعْ عنكَ صُدَاع الهوى
…
عسَاكَ أنْ تَسْلَمَ مِنْ شرِّه
(1)
هذا جوابُ الكَلْوَذَانِيِّ قَدْ
…
جاءَكَ يرجُو الله في أجْرِه
فهذا جواب أهل العلم، وهو مطابقٌ لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
وسئل
(2)
الإمام أبو الفرج بن الجوزيِّ رحمه الله بأبيات:
يا أيُّها العالمُ ماذا تَرى
…
في عاشقٍ ذابَ من الْوَجْدِ؟
منْ حبِّ ظبيٍ أغيدٍ أهيفٍ
…
سهْل المُحَيَّا حَسَنِ القدِّ
فهلْ ترى تقبيله جائزًا
…
في الفَمِ والعَيْنَين والخدِّ
(1)
هذا البيت ساقط من ت.
(2)
من هنا إلى آخر الفصل ساقط من النسختين، وأثبتناه من ط. وهذا السؤال موجَّه لأبي الطيب الطبري في «طبقات الشافعية» للسبكي (5/ 16 - 17)، وعنه في «تزيين الأسواق» (1/ 35 - 36). وجوابه يختلف عما هنا.
مِنْ غيرِ ما فُحْشٍ ولا ريبةٍ
…
بل بعناقٍ جائزِ الحدِّ
إنْ كنتَ ما تُفتِي فإنِّي إذًا
…
أصيحُ من وَجْدي وأسْتعدي؟
فكتب رحمه الله تعالى الجواب:
يا ذا الذي ذابَ من الوَجْد
…
وظلَّ في ضُرٍّ وفي جَهْدِ
اسمعْ فَدَتْكَ النَّفْسُ مِنْ ناصحٍ
…
بنصحِه يَهْدِي إلى الرُّشْدِ
لو صحَّ منك العِشْقُ ما جئتني
…
تسألُني عنه وتَسْتَعْدِي
فالعاشقُ الصَّادقُ في حُبِّه
…
ما باله يسألُ ما عِنْدي
غيَّبَه العِشْقُ فَمَا إنْ يُرى
…
يعيدُ في العِشْقِ ولَا يُبْدي
وكلُّ ما تَذْكُرُ مستفتيًا
…
حرَّمَه الله على العَبْدِ
إلا لِمَا حلَّله ربُّنا
…
في الشَّرعِ بالإبرام والعَقْدِ
فَعَدِّ عن طُرْق الهوى مُعْرِضًا
…
وقفْ ببابِ الواحدِ الفَرْدِ
وسَلْه يَشْفيْكَ ولا يَبتلي
…
قلبَكَ بالتَّعذيبِ والصَّدِّ
وعِفَّ في العِشْقِ ولا تُبْدِهِ
…
واصْبِرْ وَكاتمْ غايَةَ الجُهْدِ
فإن تَمُتْ مُحتسبًا صابِرًا
…
تفُزْ غدًا في جنَّة الخُلْد
الباب العاشر
في ذكر حقيقة العشق وأوصافه [52 ب]
وكلام النَّاس فيه
(1)
فالَّذي عليه الأطباء قاطبةً: أنَّه مرض وَسْوَاسي شبيهٌ بالماليخوليا، يَجْلِبُهُ المرءُ إلى نفسه بتسليط فكره على استحسانِ بعض الصُّور والشمائل، وسببُه النفسانيُّ: الاستحسانُ والفكر، وسببُه البَدَنيُّ: ارتفاعُ بخارٍ رديءٍ إلى الدِّماغ من مَنِيٍّ مُحْتَقِنٍ، ولذلك أكثر ما يعتري العُزَّاب، وكثرةُ الجماع تزيلهُ بسرعة.
وقال بعضُ الفلاسفة
(2)
: العشق طمعٌ يتولَّد في القلب، ويتحرَّك، ويَنْمي، ثم يَتربَّى، وتجتمعُ إليه موادُّ من الحرص، وكلَّما قويَ؛ ازداد صاحبُه في الاهتياج واللَّجاج والتَّمادي في الطمع والحرص على الطَّلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغمّ والقلق
(3)
، ويكون احتراقُ الدَّم عند ذلك باستحالته إلى السوداء، والتهاب الصَّفراء، وانقلابها إليها. ومن غلبَتْهُ السَّوداء يحصُلُ له فساد الفكر، ومع فساد الفكر يكون زوالُ العقل، ورجاءُ ما لا يكون، وتمنِّي ما لا يتمّ، حتى يؤدِّيَ ذلك إلى
(1)
هذا الباب كله مأخوذ من «الواضح المبين» (ص 40 ـ 50).
(2)
هو فيثاغورس، كما في «ذم الهوى» (ص 289).
(3)
ت: «المقلق» .
الجنون، فحينئذٍ ربَّما قتل العاشقُ نفسه، وربَّما مات غمًّا، وربَّما نظرَ إلى معشوقه، فمات فرحًا، وربما شَهِقَ شَهْقَةً فتختنق رُوحُه، فيبقى أربعًا وعشرين ساعةً فيُظَنُّ: أنَّه قد ماتَ، فيدفن وهو حيّ، وربَّما تنفَّس الصُّعداء، فتختنق نفسُه في تَامُور قلبه، وينضمُّ عليها القلبُ، ولا ينفرج حتى يموت، وتراه إذا ذُكر له مَنْ يهواه؛ هرب دمُه، واستحال لونُه. وقال أفلاطون: العِشْق حركةُ النَّفس الفارغة. وقال أرسطاطاليس: العِشْقُ عمى الحِسِّ عن إدراك عيوب المحبوب.
ومن هذا أخذ جرير قوله
(1)
:
فلست براءٍ عيبَ ذي الودِّ كلَّه
…
ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضيا
فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كَليلَةٌ
…
ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدِي المَساويا
وقال أرسطو: العشقُ جهلٌ عارضٌ، صادفَ قلبًا فارغًا لا شُغْل له من تجارةٍ وصناعةٍ.
وقال غيره
(2)
هو سوءُ اختيارٍ صادفَ نفسًا فارغة.
(1)
البيتان لعبد الله بن معاوية في «عيون الأخبار» (3/ 11، 76)، و «الكامل» للمبرد (1/ 277)، و «حماسة ابن الشجري» (ص 66)، و «مجموعة المعاني» (ص 106)، و «ثمار القلوب» (ص 327)، و «بهجة المجالس» (1/ 709)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (4/ 267)، و «الحماسة البصرية» (2/ 55)، و «التذكرة الحمدونية» (5/ 35). ولم أجده مرويًّا لجرير. وانظر «الواضح المبين» (ص 44).
(2)
هو ذيوجانس، كما في «ذم الهوى» (ص 289).
قال [53 أ] قيس بن الملوَّح
(1)
:
أتاني هَواها قبلَ أنْ أعرِفَ الهوى
…
فَصَادَفَ قلبًا خاليًا فتمكَّنًا
وقال بعضُهم
(2)
: لم أرَ حقًّا أشبه بباطلٍ، ولا باطلًا أشبَهَ بحقٍّ من العِشْق، هزلُه جِدٌّ، وجِدُّه هزلٌ، وَأَوَّلُه لَعِبٌ، وآخرُه عَطَبٌ.
وقال الجاحظ
(3)
: العِشْقُ اسمٌ لما فَضَل عن المحبَّة، كما أنَّ السَّرَف اسم لما جاوزَ الجود، والبُخلَ اسمٌ لِمَا جاوزَ الاقتصاد، فكلُّ عشقٍ يُسمَّى حبًّا، وليس كل حبٍّ يُسمَّى عِشْقًا، والمحبةُ جنسٌ، والعشقُ نوعٌ منها. ألا ترى أنَّ كلَّ محبَّةٍ شوقٌ، وليس كلُّ شوق محبةً؟
وقالت فرقةٌ أُخرى: العِشْقُ هو الاستهيام، والتضرُّع، واللَّوَذَانُ بالمعشوق. والوَجْدُ هو الحب الساكن. والهوى أن يهوى الشَّيء فيتبعه، غيًّا كان أو رشدًا، والحُبُّ حرفٌ ينتظم هذه الثلاثة. وقال المأمون ليحيى ابن أكثم
(4)
: ما العشقُ؟ فقال: سوانحُ تسنح للمرء، فيهيم بها قلبُه وتؤثرُها
(1)
هو المجنون، انظر:«ديوانه» (ص 282)، و «البيان والتبيين» (2/ 42)، و «الحيوان» (1/ 169، 4/ 167). ونُسب لابن الطثرية في «الزهرة» (ص 21 - 22)، و «وفيات الأعيان» (6/ 370).
(2)
هذا مروي عن بعض الفلاسفة، انظر:«مصارع العشاق» (1/ 12)، و «ذم الهوى» (ص 290).
(3)
كما في «ذم الهوى» (ص 295)، و «ربيع الأبرار» (4/ 18)، و «المستطرف» (3/ 30).
(4)
رواه المعافى في «الجليس الصالح» (3/ 142)، والسراج في «مصارع العشاق» (1/ 11 - 12) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 290). وانظر:«التذكرة الحمدونية» (6/ 162)، و «المستطرف» (3/ 31).
نفسُه. فقال له ثُمامةُ بن أشرس: اسكت يا يحيى! إنَّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق، أو مُحْرِم صاد ظبيًا، فأمَّا هذه فمن مسائلنا نحن! فقال له المأمون: قل يا ثُمامة! قال: العشقُ: جليسٌ مُمْتِع، وأليِفٌ مُؤْنِسٌ، وصاحبُ ملكٍ مسالكه لطيفةٌ، ومذاهبه غامضةٌ، وأحكامُه جاريةٌ، ملكَ الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعقول وآراءها، قد أُعطي عِنان طاعتها، وقوَّة تصرفها، توارى عن الأبصار مَدْخَلُه، وعَمِيَ في القلوب مسلكُه. فقال له المأمون: أحسنت يا ثُمامة! وأمر له بألف دينار.
وقال بعضهم
(1)
: قلتُ لمجنون قد أذهبَ عقلَه العشْقُ: أَجِزْ هذا البيت:
وما الحبُّ إلا شُعْلَةٌ قدحتْ بها
…
عيونُ المها باللَّحْظِ بين الجوانح
فقال بديهًا:
ونارُ الهوى تخفى وفي القلب فعلُها
…
كَفِعْلِ الَّذي جاءتْ به كفُّ قادح
وقال الأصمعيُّ
(2)
: سألت أعرابيًّا عن العشق فقال: جلَّ والله عن أن
(1)
هو مساور الوراق، كما في «مصارع العشاق» (1/ 13)، و «أمالي» القالي (2/ 126)، و «ذم الهوى» (ص 320 - 321). والبيتان بلا نسبة في «تزيين الأسواق» (2/ 290).
(2)
الخبر في «ربيع الأبرار» (4/ 23)، و «المستطرف» (3/ 30).
يُرى! وخَفِي [53 ب] عن أبصار الورى، فهو في الصُّدور كامنٌ ككُمون النار في الحجر، إن قُدح؛ أورى، وإن تُرك؛ تَوارى.
وقال بعضُهم
(1)
: العشقُ نوعٌ من الجنون، والجنون فنونٌ، فالعِشْق فنٌّ من فنونه. واحتجَّ بقول قيس
(2)
:
قالوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهوى فقلتُ لهم
…
العِشْقُ أعظمُ مِمَّا بالمجانينِ
العِشْقُ لا يستفيقُ الدَّهرَ صاحبُه
…
وإنَّما يُصْرَع المجنونُ في الحين
وقال آخر
(3)
: إذا امتزجت جواهرُ النُّفوس بوصف المشاكلة؛ أنتجت لمح نورٍ ساطعٍ تستضيءُ به النَّفسُ في معرفة محاسنِ المعشوق، فتسلك طريق الوصول إليه.
وقال أعرابيٌّ: العِشْقُ أعظمُ مسلكًا في القلب من الرُّوح في الجسم، وأمْلَكُ بالنَّفس من ذاتها، بطنَ، وظهر، فامتنع وصفُه على اللسان، وخَفيَ نعتُه عن البيان، فهو بين السِّحر والجنون، لطِيفُ المَسْلَكِ والكُمون.
وقيل: العشق ملكٌ غشومٌ، مُسلَّطٌ ظلومٌ، دانت له القلوب، وانقادت له الألبابُ، وخضعت له النُّفوس. العقل أسيرُه، والنظرُ رسولُه، واللحظُ لفظه، دقيقُ المسلك، عسيرُ المَخْرَج.
(1)
هو سقراط، كما في «مصارع العشاق» (1/ 15)، و «ذم الهوى» (ص 289).
(2)
تقدم البيتان وتخريجهما.
(3)
هو ثمامة بن أشرس، كما في «ذم الهوى» (ص 291).
وقيل لآخر
(1)
: ما تقولُ في العشق؟ فقال: إن لم يكن طرفًا من الجنون؛ فهو نوعٌ من السِّحر.
وأما الفلاسفةُ المشَّاؤون فقالوا: هو اتِّفاق أخلاقٍ، وتشاكل محَبَّاتٍ وتجانُسُها، وشوقُ كُلِّ نفس إلى مُشاكِلِها ومُجانِسها في الخلْقَة القديمة قبل إهباطها إلى الأجساد.
قلت: وهذا مبنيٌّ على قولهم الفاسد بتقدُّم النفوس على الأبدان، وعليه بنَى ابنُ سينا قصيدته المشهورة
(2)
:
هَبَطَتْ إليكَ من المَحلِّ الأرفَعِ
وسمعتُ شيخنا يحكي عن بعض فُضلاء المغاربة، وهو جمالُ الدِّين بنُ الشرِيشيِّ شارحُ المقامات: أنَّه كان ينكر أن تكون هذه له، قال: وهي مُخالِفةٌ لما قرَّره في كتبه من أنَّ حدوثَ النفس الناطقة مع البدن.
وقال آخرون في وصفه: دَقَّ عن الأفهام مسْلَكُه، وخَفِيَ عن الأبصار [54 أ] موضعُه، وحارت العقولُ في كيفية تمكُّنه، غير أنَّ ابتداء
(1)
انظر: «ذم الهوى» (ص 292).
(2)
عجزه:
ورقاء ذات تعزُّزٍ وتمنُّعِ
وقصيدته هذه في «معجم الأدباء» (3/ 1076)، و «وفيات الأعيان» (2/ 160، 161)، و «عيون الأنباء» (3/ 15، 16)، و «جلاء العينين» (ص 172 - 173).
حركته، وعظم سلطانه من القلب، ثم يتغشَّى على سائر الأعضاء، فيُبْدي الرِّعدةَ في الأطراف، والصُّفْرةَ في الوجه
(1)
، والضَّعفَ في الرأْي، واللَّجْلَجَةَ في الكلام، والزَّللَ والعِثار، حتى يُنْسَب صاحبُه إلى الجنون.
وقيل لأبي زهير المديني
(2)
: ما العشق؟ قال: الجنون والذلُّ، وهو داء أهل الظَّرْف.
ونظر عاشقٌ إلى معشوقه
(3)
، فارتعدتْ فرائصُهُ، وغُشيَ عليه، فقيل لحكيم: ما الَّذي أصابَه؟ فقال: نظرَ إلى من يُحِبُّه، فانفرج له قلبُه، فتحرَّكَ الجسم بانفراج القلب.
فقيل له: نحن نحبُّ أولادنا، وأهلَنا، ولا يُصيبُنا ذلك، فقال: تلك محبَّةُ العقل، وهذه محبَّةُ الرُّوح، قال
(4)
:
وما هو إلا أن يَراها فُجَاءَةً
…
فتَصْطَكَّ رِجْلاهُ وَيسْقُطَ للجَنْب
وقال: العشقُ ملكٌ مُسلَّطٌ على قهر النفوس، وأسْرِ القُلوب، قال الشاعر:
ملك القلوبَ فأصبحتْ في أسرِه
…
وبِودِّها ألَّا يُفَكَّ إِسارُها
(1)
ش: «الألوان» .
(2)
انظر: «مصارع العشاق» (1/ 12) و «ذم الهوى» (ص 292).
(3)
الخبر في «ذم الهوى» ، (ص 295).
(4)
البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 53).
وقال أعرابي في وصفه: بالقلب وَثْبَتُه، وبالفؤاد وَجْبَتُه، وبالأحشاء نارُه، وسائرُ الأعضاء خُدَّامُه، فالقلبُ من العاشق ذاهلٌ، والدمعُ منه هاملٌ، والجسمُ منه ناحلٌ. مرورُ الليالي تُجدِّده، وإساءة المحبوب لا تُفسده.
وقيل: ليس هو موقوفًا على الحُسْن والجمال، وإنما هو تشاكُلُ النُّفوس، وتمازُجها في الطِّباع المخلوقة فيها، كما قيل
(1)
:
وما الحبُّ مِنْ حُسْنٍ ولا من مَلاحةٍ
…
ولكنَّه شيءٌ به الرُّوحُ تَكْلَفُ
وقيل: أوَّلُ العشق عَناء، وأوسطُه سُقْم، وآخرُه قتل. كما قال القائل
(2)
:
هو الحبُّ فاسْلَمْ بالحشا ما الهوى سَهْلُ
…
فما اختارَه مُضْنًى به وله عَقْلُ
وعِشْ خاليًا فالحُبُّ أوَّلُه عَنَا
…
وأوْسَطُه سُقْمٌ وآخرُه قتْلُ
(1)
البيت لمحمد بن داود الأصفهاني في «مصارع العشاق» (2/ 58)، و «ديوان الصبابة» (ص 53). وبلا نسبة في «تزيين الأسواق» (1/ 55). وسبق ذكره فيما مضى.
(2)
في هامش ت: ابن الفارض. والبيتان في «ديوانه» (ص 134).
الباب الحادي عشر
في العشق: هل هو اضطراريٌّ خارجٌ [54 ب] عن الاختيار أو أمرٌ اختياريٌّ؟ واختلاف النَّاس في ذلك، وذكر الصَّواب فيه
فنقول: اختلف الناس في العشق: هل هو أمر اختياريٌّ أو اضطراريٌّ خارجٌ عن مقدور البشر؟
فقالت فرقة: هو اضطراريٌّ، وليس باختياريٍّ، قالوا: وهو بمنزلة محبَّة الظمآن للماء البارد، والجائع للطعام، وهذا ممَّا لا يُمْلَكُ.
وقال بعضهم: والله لو كان لي من الأمر شيءٌ ما عذَّبتُ عاشقًا! لأن ذنوبَ العُشَّاق اضطراريةٌ، فإذا كان هذا قولَه فيما تولَّد عن العِشْقِ مِنْ فعلٍ اختياريٍّ، فما الظنُّ بالعشق نفسه؟
وقال أبو محمد بنُ حزم: قال رجلٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أميرَ المؤمنين! إني رأيت امرأةً فعَشِقْتُها! فقال عمر: ذاك ممَّا لا يُمْلك.
وقال كامل في سَلْمى
(1)
:
يلومُونني في حُبِّ سَلْمَى كأنَّما
…
يَرَوْنَ الهَوى شيئًا تَيَمَّمْتُه عَمْدَا
(1)
البيتان في «ديوان الصبابة» (ص 51). والصواب «كاهل» كما في الواضح المبين (ص 30).
ألا إنَّما الحبُّ الذي صَدَع الحَشَا
…
قضاءٌ من الرَّحمن يَبْلو به العَبْدَا
وقال التميمي في كتاب «امتزاج الأرواح» : سُئل بعض الأطباء عن العشق، فقال: إنَّ وقوعَه بأهله ليس باختيارٍ منهم، ولا بحرصهم عليه، ولا لَذَّة لأكثرهم فيه، ولكنَّ وقوعَه بهم كوقوع العِلَل المُدْنِفَة، والأمراض المُتْلِفَةِ، لا فرقَ بينه وبين ذلك.
وقال المدائنيُّ
(1)
: لامَ رجلٌ رجلًا من أهل الهوى، فقال: لو صحَّ لذي هوًى اختيارٌ؛ لاختارَ ألَاّ يهوى.
ويَدُلّ على ذلك من السُّنَّة ما رواه البخاريُّ في صحيحه
(2)
من قصَّة بَرِيرة: أنَّ زوجَها كان يمشي خلفها بعد فراقها له، وقد صارت أجنبيةً منه، ودموعُه تسيلُ على خدَّيه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا عبَّاسُ ألا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَة، ومن بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغيثًا؟» ، ثم قال لها:«لو رَاجَعْتِيه» فقالت: أَتَأْمُرُنِي؟ فقال: «إنَّما أنا شافِعٌ» قالت: لا حاجةَ لي فيه. ولم يَنْهَهُ عن عشقها في هذه الحالة؛ إذ ذلك شيءٌ لا يُملكُ، ولا يدخلُ تحت الاختيار، وقال جامع
(3)
:
(1)
أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 71). وانظر: «ديوان الصبابة» (ص 51).
(2)
رقم (5283) من حديث ابن عباس.
(3)
تقدم البيتان.
سألتُ سعيدَ بن المسيَّب مفتيَ الـ
…
ـمدينة هل في حبِّ دَهْمَاء منْ وِزْرِ؟
فقال سعيدُ بن المسيب إنَّما
…
يُلامُ على ما يُسْتطاعُ من الأمر
قالوا: والعشقُ نوعٌ من العذاب، والعاقلُ لا يختارُ عذابَ نفسه، وفي هذا قال المؤَمَّل
(1)
:
شَفَّ المُؤَمَّلَ يومَ الحِيرَة النظرُ
…
ليتَ المؤمَّل لم يُخْلَق له بَصَرُ
يكفي المحبِّينَ في الدنيا عذابُهمُ
…
والله لا عَذَّبتْهُمْ بعدَها سَقَرُ
فيقال: إنَّه عَمِيَ بعد هذا. وقال آخر: ليس الهوى إلى الرأْي فيَمْلِكَهُ، ولا إلى العقل فَيُدْرِكَهُ، ثم أنشد
(2)
:
ليس خَطْبُ الهوى بخطبٍ يسير
…
لا يُنَبِّيْك عنه مثلُ خبيرِ
ليس أمرُ الهوى يُدَبَّر بالرأْ
…
ي ولا بالقياس والتَّفكير
إنَّما الأمرُ في الهوى خطَرَاتٌ
…
محْدِثَاتُ الأمورِ بعدَ الأمور
وقال القاضي أبو عمر محمَّد بن أحمد بن محمد بن سليمان النُّوقَاتي في كتابه «محنة الظرّاف» : العشاقُ معذورون علَى الأحوال؛ إذ العشقُ إنَّما
(1)
ابن أُميل المحاربي، والشعر له في «الأغاني» (22/ 251)، و «الزهرة» (1/ 134)، و «الحماسة البصرية» (2/ 116)، و «خزانة الأدب» (3/ 523)، و «ديوان الصبابة» (ص 51)، و «نكت الهميان» (ص 299).
(2)
الشعر لعلية بنت المهدي في «أشعار أولاد الخلفاء» (ص 65)، و «الأغاني» (10/ 185)، و «زهر الآداب» (2/ 725)، و «تزيين الأسواق» (1/ 48).
دهاهم عن غير اختيار، بل اعتراهم عن جبرٍ واضطرار، والمرءُ إنَّما يُلامُ على ما يستطيع من الأمور، لا على المقْضِيّ عليه والمقدور. فقد قيل: إن الحامل كانت ترى يوسف عليه الصلاة والسلام، فتضعُ حَمْلها، فكيف ترى هذه وضَعَتْهُ؟! أباختيارٍ كان ذلك أم باضطرارٍ؟
قال غيره: وهؤلاء النِّسوة قَطَّعنَ أيديَهنَّ لما بدا لهنَّ حسنُ يوسف عليه السلام وما تمكَّن حبُّه من قلوبهنَّ، فكيف لو شُغِفْن حُبًّا؟! وكان مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْر إذا رأته المرأة؛ حاضتْ لحسنه، وجماله. كما قال فيه الشاعر
(1)
:
إنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ من الله
…
تجلَّتْ عن وجهِه الظَّلْمَاءُ
ومن ها هنا أخذَ أحمدُ بن الحسين الكندي المتنبي قوله
(2)
:
تَقِ الله واستُرْ ذا الجمال بِبُرْقُعٍ
…
فإن لُحْتَ حاضَتْ في الخدور العواتِقُ
فإذا كان هذا من مجرَّد الرؤية، فكيف بالمحبة التي لا تُمْلَك؟! وقال هشام بن عُرْوة عن أبيه: مات بالمدينة عاشقٌ، فصلى عليه زيد بن ثابتٍ، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي رَحِمْتُه. [55 ب]
(1)
البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات في «ديوانه» (ص 91)، و «الكامل» للمبرد (2/ 827)، و «الشعر والشعراء» (1/ 539)، و «الأغاني» (5/ 79)، و «خزانة الأدب» (3/ 268).
(2)
«ديوانه» (3/ 89).
ورُئي أبو السَّائب المخزوميُّ
(1)
ـ وكان من العلم والدِّين بمكان ـ متعلِّقًا بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم ارحمِ العاشقينَ، وقوِّ قلوبَهم! واعطفْ عليهم قلوبَ المعشوقين! فقيل له في ذلك، فقال: والله للدُّعاءُ لهم أفضلُ من عُمرَةٍ من الجِعْرَانَة! ثم أنشد
(2)
:
يا هَجْرُ كُفَّ عن الهوى ودعِ الهوَى
…
للعاشقينَ يطيبُ يا هَجْرُ
ماذا تريدُ من الذين جُفونُهم
…
قرْحى وَحَشْوُ قُلوبهم جَمْرُ؟!
مُتَبَلِّدِين مِن الهوى ألوانُهم
…
مما تُجِنُّ قلوبُهم صُفْرُ
وسوابقُ العَبَرَات فوقَ خُدودِهم
…
دُرَرٌ تَفِيضُ كأنَّها قَطْرُ
ويُذكَرُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بجاريةٍ تتغنَّى:
هل عليَّ وَيْحَكُما
…
إنْ لَهَوْتُ مِن حَرَج
فتبسَّم، وقال:«لا حَرَجَ إن شاء الله»
(3)
.
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 237). وانظر: «ذم الهوى» (ص 347)، و «الموشى» (ص 158 - 159)، و «الواضح المبين» (ص 33)، و «ديوان الصبابة» (ص 50).
(2)
الأبيات للعباس بن الأحنف في «ديوانه» (ص 146)، وأنشدها أبو السائب المخزومي في المصادر السابقة.
(3)
أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 116) من حديث ابن عباس. ولا يصح، انظر:«اللآلئ المصنوعة» (2/ 207)، و «تنزيه الشريعة» (2/ 223). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الاستقامة» (1/ 296): هذا الحديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
قالوا: وقد فسَّر كثيرٌ من السَّلَف قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة/286] بالعشق. وهذا لم يُريدوا به التَّخصيص، وإنَّما أرادوا به التمثيلَ، وأنَّ العشق من تحميل ما لا يُطاق.
والمراد بالتَّحميل ها هنا التحميلُ القدَريُّ، لا الشَّرعيُّ الأمريُّ.
قالوا: وقد رأينا جماعةً من العُشَّاق يطوفون على مَنْ يدعو لهم أن يُعافِيَهم الله من العِشْق، ولو كان اختيارًا؛ لأزالوه عن نفوسهم.
ومن ها هنا يتبيَّن خطأ كثيرٍ من العاذلين، وعَذْلُهم في هذه الحال بمنزلة عَذْلِ المريض في مرضه، قال
(1)
:
يا عاذلي والأمرُ في يَدِه
…
هَلَّا عَذَلْتَ وفي يَدِي الأمرُ
وإنَّما ينبغي هذا العذلُ قبلَ تعلُّق هذا الدَّاء بالقلب، كما قيل
(2)
:
يُذكِّرُني {حم} والرُّمحُ شاجِرٌ
…
فهلَّا تلا {حم} قبلَ التَّقَدُّم
(1)
البيت في «ديوان الصبابة» (ص 52).
(2)
البيت للمقشعر بن جديع النضري في «الحماسة البصرية» (1/ 69). ولشريح بن أبي أوفى العبسي في «مجاز القرآن» (2/ 193)، و «اللسان» (حمم). وينسب لغيرهما، انظر:«الاقتضاب» (ص 439)، و «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 270)، و «فتح الباري» (8/ 553، 554)، و «طبقات ابن سعد» (5/ 39)، و «نسب قريش» للزبير (ص 281)، و «الأمثال» لأبي عبيد (ص 217)، و «فصل المقال» (ص 313)، و «المعارف» (ص 231)، و «الاشتقاق» (ص 145).
وقالت فرقةٌ أُخرى: بل هو اختياريٌّ تابعٌ لهوى النفس وإرادتها، بل هو استحكامُ الهوى الذي مدح الله مَنْ نهى عنه نفسَه، فقال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ [56 أ] هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/40 ــ 41].
فمحالٌ أن ينهى الإنسانُ نفسَه عما لا يدخلُ تحت قدرته.
قالوا: والعشقُ حركةٌ اختياريةٌ للنَّفس إلى نحو محبوبها، وليس بمنزلة الحركات الاضطرارية التي لا تدخلُ تحت قدرة العبد.
قالوا: وقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى أصحاب المحبَّة الفاسدة الذي يُحبُّون من دونه أندادًا، ولو كانت المحبَّةُ اضطراريةً، لما ذُمُّوا على ذلك.
قالوا: ولأن المحبَّةَ إرادةٌ قويَّةٌ، والعبدُ يُحْمدُ، ويُذَمُّ على إرادتِه، ولهذا يُحْمَد مُريدُ الخير، وإن لم يفعلْه، ويُذَمّ مريدُ الشرِّ، وإن لم يفعلْه.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يُحِبُّون أن تَشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، وأخبرَ أنَّ لهم عذابًا أليمًا.
ولو كانت المحبَّةُ لا تُملك لم يتوعَّدْهم بالعذابِ على ما لا يدخلُ تحت قُدرتهم.
قالوا: والعقلاءُ قاطبةً مُطْبِقُون على لوم من يُحِبُّ ما يتضرَّر بمحبَّتِه، وهذا فطرةٌ فطرَ الله عليها الخلقَ، فلو اعتذرَ بأني لا أملكُ قلبي؛ لم يقبلُوا له
عذرًا.
وفصل النِّزاع بين الفرقتين: أنَّ مبادئ العشق وأسبابَهُ اختياريةٌ داخلةٌ تحت التكليف، فإنَّ النظرَ والتفكُّر والتعرُّض للمحبَّة أمرٌ اختياريٌّ، فإذا أتى بالأسباب كان تَرَتُّبُ المُسبَّبِ عليها بغير اختياره، كما قيل
(1)
:
تَوَلَّعَ بالعِشْق حتى عَشِقْ
…
فلما استقلَّ بهِ لَمْ يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنَّها مَوْجَةً
…
فلمَّا تمكَّن منها غَرِقْ
ولما رأى أدْمُعًا تَسْتَهلّ
…
وأبصر أحشاءه تحترقْ
(2)
تمنَّى الإقالةَ مِنْ ذنبه
…
فلم يستطعْها ولم يسْتفقْ
وهذا بمنزلة السُّكر مع شُرْب الخمر، فإنَّ تناوُلَ المُسكر اختياريٌّ، وما يتولَّد عنه من السُّكر اضطراريٌّ، فمتى كان السببُ واقعًا باختياره لم يكن معذورًا فيما تولَّد عنه بغير اختياره، فمتى كان السببُ محظورًا لم يكن السَّكرانُ معذورًا.
ولا ريبَ أنَّ متابعة النظر، واستدامةَ الفكر بمنزلة شُرب المُسكر، فهو يُلام على السَّبب، ولهذا إذا حصلَ العِشْقُ بسببٍ غير محظورٍ؛ لم يُلَمْ عليه صاحبُه، كمن كان [56 ب] يعشقُ امرأتَه، أو جاريته، ثم فارقها، وبقي عشقُها غير مفارقٍ له، فهذا لا يُلام على ذلك، كما تقدَّم في قصَّة بَرِيرَة ومُغِيث.
(1)
الأبيات بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 586)، و «ديوان الصبابة» (ص 54).
(2)
هذا البيت لم يرد في النسختين، والزيادة من «ذم الهوى» ليستقيم المعنى.
وكذلك إذا نظر نظرة فجَاءَةٍ، ثم صرفَ بصرَه، وقد تمكَّن العِشْقُ من قلبه بغير اختياره، على أنَّ عليه مُدافعتَه، وصرفَه عن قلبه بضدِّه، فإذا جاءَ أمرٌ يَغْلِبُه؛ فهناك لا يُلام بعد بذل الجهد في دفعه. ومِمَّا يُبيِّنُ ما قلناه: أنَّ سكرَ العشق أعظمُ من سُكر الخمر، كما قال تعالى عن عُشَّاق الصُّور من قوم لوطٍ:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر/72].
وإذا كان أدنى السُّكرَين لا يُعْذَر صاحبُه إذا تعاطَى أسبابَه؛ فكيف يُعْذر صاحبُ السُّكر الأقوى مع تعاطِي أسبابه؟ وإذ قد وصلنا إلى هذا الموضع؛ فلنذكرْ بابًا في سَكْرةِ الحُبِّ وسببها.