الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع عشر
في ذكر فضيلة الجمال
وميل النفوس إليه على كلِّ حال
اعلم أنَّ
الجمال ينقسمُ قسمين: ظاهر وباطن
، والجمال هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم، والعقل، والجود، والعفَّة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبد ه وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح
(1)
: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
وهذا
الجمال الباطن يُزيِّن الصورة الظاهرة
، وإن لم تكن ذات جمالٍ، فيكسو صاحبه من الجمال، والمهابة، والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يُعطى مهابة، وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه. وهذا أمرٌ مشهودٌ بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح، الحسن، ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود، أو غير جميل، ولاسيَّما إذا رُزق حظًّا من صلاة الليل، فإنَّها تُنوّر الوجه، وتحسِّنُه.
وقد كان بعضُ النساء تكثرُ صلاة الليل، فقيل لها في ذلك، فقالت:
(1)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة.
إنها تحسِّنُ الوجه، وأنا أحبُّ أن يحسن وجهي. ومما يدلُّ على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر: أن القلوب لا تنفكُّ عن تعظيم صاحبه، ومحبته، والميل إليه.
فصل
وأما الجمال الظاهر؛ فزينةٌ خصَّ الله بها بعض الصُّور عن بعض، وهي من زيادة الخلق؛ التي قال الله تعالى فيها:{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر/1] قالوا: هو الصوت الحسن، والصُّورة الحسنة. والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورةٌ على استحسانه [83 ب].
وقد ثبت في الصحيح
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر» قالوا: يا رسول الله! الرجل يُحبُّ أن تكون نعله حسنة، وثوبه حسنًا؛ أفذلك من الكبر؟ فقال:«لا، إن الله جميل يحبُّ الجمال. الكِبْرُ بطرُ الحقِّ، وغمط الناس» . فبطر الحقِّ: جحدُه، ودفعه بعد معرفته، وغمط الناس: النظرُ إليهم بعين الازدراء، والاحتقار، والاستصغار لهم، ولا بأس بهذا إذا كان لله، وعلامتُه: أن يكون لنفسه أشدَّ ازدراءً واستصغارًا منه لهم. فأمَّا إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده، فهذا الذي لا يدخل صاحبُه الجنَّة.
(1)
أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.
فصل
وكما أنَّ الجمال الباطن من أعظم نعم الله على عبده؛ فالجمالُ الظاهر نعمةٌ منه أيضًا على عبده، يُوجب شكرًا، فإن شكره بتقواه وصيانته؛ ازداد جمالًا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه؛ قلبه له شَيْنًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعودُ تلك المحاسنُ وحشةً، وقبحًا، وشينًا، وينفر عنه من رآه، فكلُّ منْ لم يتَّقِ الله في حسنه وجماله؛ انقلب قبحًا وشينًا يشينه به بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبحُ الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر، كما قال جرير بن عبد الله، وكان عمر بن الخطاب يُسميه: يوسف هذه الأمة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت امرُؤٌ قد أحسنَ الله خَلْقك، فأحسِنْ خُلُقك»
(1)
.
وقال بعض الحكماء
(2)
: ينبغي للعبد أن ينظر كلَّ يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنةً؛ لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحةً؛ لم يجمعْ بين قُبح الصورة، وقُبح الفعل.
ولمَّا كان الجمال من حيث هو محبوبًا للنفوس، معظمًا في القلوب؛
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 160).
(2)
انظر اعتلال القلوب (ص 165).
لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال عليُّ بن أبي طالب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم[84 أ] أجمل خلق الله، وأحسنهم وجهًا، كما قال البراء بن عازب وقد سُئل: أكان وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر
(1)
.
وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كأنَّ الشمس تجري في وجهه، يقول واصفُه: لم أرَ قبله، ولا بعده مثله
(2)
.
وقال ربيعةُ الجُرشي
(3)
: قُسِم الحُسْنُ نصفين: فبين سارة ويوسف نصفُ الحسن، ونصفٌ بين سائر الناس.
وفي الصحيح
(4)
عنه صلى الله عليه وسلم: أنه رأى يوسف ليلة الإسراء، وقد أُعطي شطر الحُسن.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبُّ أن يكون الرسول الذي يُرسل إليه حسن الوجه، حسن الاسم، وكان يقول:«إذا أبردتم إليَّ بريدًا؛ فليكن حسن الوجه، حسن الاسم»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (3552).
(2)
أخرجه الترمذي (3648) وغيره.
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 163).
(4)
أخرجه مسلم (162) من حديث أنس.
(5)
أخرجه البزار (1986 - كشف الأستار) من حديث أبي هريرة. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 248)، ووافقه المؤلف في المنار المنيف (ص 56).
وقد روى الخرائطي
(1)
: من حديث ابن جُريج، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس يرفعه:«من آتاهُ الله وجهًا حسنًا، واسمًا حسنًا، وخُلُقًا حسنًا، وجعلهُ في موضع غير شائنٍ له؛ فهو من صفوة الله على خلقه» .
وقال وهب
(2)
: قال داود: يا ربّ! أي عبادك أحبُّ إليك؟ قال: مؤمن حسن الصورة، قال: فأيُّ عبادك أبغضُ إليك؟ قال: كافرٌ قبيحُ الصورة.
ويُذكرُ عن عائشة
(3)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظره نفرٌ من أصحابه على الباب، فجعل ينظر في الماء، ويُسَوّي شعره ولحيته، ثم خرج إليهم، فقلت: يارسول الله! وأنت تفعلُ هذا؟ فقال: «نعمْ، إذا خرج الرَّجُلُ إلى إخْوَانِهِ؛ فليُهَيِّئ من نفسه؛ فإن الله جميلٌ يُحِبُّ الجمال» .
وقال يحيى بن أبي كثير
(4)
: دخل رجلٌ على معاوية غمصًا، يعني: رمص العينين، فحطَّ من عطائه وقال: ما يمنعُ أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه؟!
(1)
في اعتلال القلوب (ص 162)، وأخرجه الطبراني في الأوسط (4503) والصغير (635). وفي إسناده خلف بن خالد، متهم بالوضع.
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 165)، وأبونعيم في الحلية (4/ 55).
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 166)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (173). وإسناده مظلم.
(4)
أخرجه الخرائطي (ص 160).
وكانت عائشةُ بنتُ طلحة
(1)
من أجمل أهل زمانها، أو أجملهم، فقال لها أنس بن مالك: والله ما رأيتُ أحسنَ منكِ إلا معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لأنا أحسنُ [84 ب] من النَّار في عين المقرور في الليلة القارَّة!
ودخل
(2)
عليها أنسٌ يومًا في حاجة، فقال: إن القوم يريدون أن يدخلوا عليك، فينظروا جمالك، قالت: أفلا قُلْت لي، فألبس ثيابي؟
وكان مُصعب بن الزُّبير
(3)
من أجمل الناس، وكان يحسدُ الناس على الجمال، فبينا هو يخطبُ يومًا إذ دخل ابن جودان من ناحية الأزد، وكان جميلًا، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحيةٍ أُخرى، فدخل ابن جبران من تلك الناحية، وكان جميلًا، فرمى ببصره إلى مُؤخَّر المسجد، فدخل الحسنُ البصريُّ، وكان من أجمل النَّاس، فنزل مُصْعبٌ عن المنبر.
وخرج نسوة
(4)
يوم العيد ينظرون إلى الناس، فقيل لهنَّ: من أحسن من مرَّ بكنَّ؟ قلن: شيخٌ عليه عمامةٌ سوداء، يَعْنِينَ الحسن البصري.
(1)
أخرج هذا الخبر الخرائطي (ص 161). وفي إسناده مجاهيل.
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 160). وإسناده مظلم.
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 162).
(4)
أخرجه الخرائطي (ص 162).
وأخذ مصعبُ بن الزُّبير
(1)
رجلًا من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه، فقال الرجل: أيُّها الأمير، ما أقبحُ من أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يُسْتضاء به، فأتعلَّق بأطرافك، وأقول: يا ربِّ! سل مُصْعبًا فيم قتلني؟ فقال مُصعب: أطلقوه. فقال الرَّجُل: أيها الأمير، اجعل ما وُهب لي من حياتي في خفضٍ، فقال مصعب: أعطوه مئة ألف درهم، فقال الرَّجل: إنِّي أُشهد الله أنَّ لعبد الرحمن بن قيس الرُّقيَّات مثلها. قال مصعب: ولم ذلك؟ قال: لقوله:
إنَّما مُصعبٌ شهابٌ من الله
…
تجلَّت عن وجهه الظَّلْمَاءُ
فضحك مُصعب وقال: إن فيك لموضعًا للصَّنيعة. وأمره بلزومه.
وقال الزُّبير بن بكار
(2)
: حدَّثنا مُصعب الزبيري، حدَّثنا عبد الرحمن ابن أبي الجيش، قال: خرج أبو حازم يرمي الجمار، ومعه قوم متعبِّدون، وهو يُكلمهم، ويحدِّثهم، ويقصُّ عليهم، فبينا هو يمشي وهم معه؛ إذ نظر إلى فتاة مستترةٍ بخمارها، ترمي النَّاس بطرفها يمنةً [85 أ] ويسرةً، وقد شغلت النَّاس، وهم ينظرون إليها مبهوتين، وقد خَبَط بعضُهم بعضًا
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 162 - 163). والخبر في عيون الأخبار (1/ 103). وسبق تخريج البيت.
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 151 - 152). والخبر مع الشعر في عيون الأخبار (4/ 29)، والأغاني (1/ 404، 19/ 219)، وزهر الآداب (1/ 168) وقال: الشعر للحارث بن خالد المخزومي. ويُروى للعرجي في عامة المصادر.
في الطريق، فرآها أبو حازم، فقال: يا هذه! اتَّقِي الله، فإنَّك في مشعرٍ من مشاعر الله عظيم، وقد فتنتِ الناسَ، فاضربي بخمارك على جيبك، فإنَّ الله عز وجل يقول:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور/31] فأقبلت تضحكُ من كلامه وقالت: إنِّي والله:
من اللَاّءِ لم يحجُجْن يبغين حِسْبَةً
…
ولكن ليقْتُلْن الْبَريء المُغفَّلا
فأقبل أبو حازم على أصحابه وقال: تعالوا ندعو الله ألَّا يعذِّب هذه الصُّورة الحسناء بالنَّار. فجعل يدعو، وأصحابُه يُؤمِّنون.
وقال ضمرة بن ربيعة
(1)
، عن عبد الله بن شوذَب: دخلت امرأة جميلةٌ على الحسن البصري، فقالت: يا أبا سعيد! ينبغي للرِّجال أن يتزوَّجوا على النِّساء؟! قال: نعم! قالت: وعلى مثلي؟ ثم أسفرت عن وجه لم يُرَ مثلُه حسنًا، وقالت: يا أبا سعيد! لا تُفتوا الرجال بهذا. ثم ولَّت، فقال الحسن: ما على رجلٍ كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدُّنيا!
وقال عبد الملك بنُ قُرَيْب
(2)
: كنتُ في بعض مياه العرب، فسمعتُ الناس يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فتحوَّل النَّاسُ، فقمتُ معهم، فإذا جاريةٌ قد وردت الماء، ما رأيتُ مثلها قطُّ في حُسن وجهها، وتمام
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 151).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 156).
خلقها، فلما رأت تشوُّف الناس إليها أرسلت بُرقُعها، فكأنَّه غمامةٌ غطَّت شمسًا، فقلت: لِمَ تمنعيننا النظر إلى وجهك هذا الحسن؟ فأنشأت تقول
(1)
:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائدًا
…
لقلبك يومًا أتعبتْك المناظرُ
رأيت الذي لا كلُّه أنت قادرٌ
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
ونظر إليها أعرابيٌّ
(2)
فقال: أنا والله ممَّنْ قلَّ صبره، ثم قال:
أوَحْشِيَّة العينين أين لك الأهلُ
…
أبِالْحَزْن حلُّوا أم محلُّهُم السَّهْلُ
وأيَّةُ أرضٍ أخرجتك فإنَّني
…
أراك من الفِرْدَوْسِ إن فُتِّش الأصلُ
قفي خبِّرينا ما طَعِمْتِ وما الذي
…
شرِبْتِ ومن أين استقلَّ بك الرَّحْلُ
لأنَّ علامات الْجِنان مُبِينَةٌ
…
عليك وإنَّ الشَّكل يُشبِهُه الشَّكْلُ
تناهيتِ حسنًا في النِّساء فإنْ يكن
…
لبدرِ الدُّجى نَسْلٌ فأنتِ له نسلُ
وقال آخر
(3)
:
يا مُنْسِيَ المحزون أحزانَه
…
لما أتته في المُعَزِّينا
استقبلتْهنَّ بتمثالها
…
فقُمْنَ يَضْحَكْن ويَبْكِينا
(1)
تقدم البيتان وتخريجهما.
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 156).
(3)
في اعتلال القلوب (ص 156 - 157): «أنشدني أبو نواس» . والأبيات له في ديوانه (ص 242).
حَقٌّ لهذا الوجه أن يَزْدَهي
…
عن حُزْنِهِ منْ كان محْزُونَا
وقال آخر
(1)
:
أنيري مكان البدر إن أفل البدرُ
…
وقُومي مقام الشَّمْسِ ما استأخرَ الفجرُ
ففيك من الشَّمسِ المنيرة ضَوْءُها
…
وليسَ لها منك التبسُّم والثَّغْرُ
وقال آخر
(2)
:
رُقاديَ يا طرفي عليك حرامُ
…
فخلِّ دموعًا فيضُهنَّ سِجَامُ
ففي الدَّمع إطفاءٌ لنار صبابةٍ
…
لها بين أحْناء الضُّلوعِ ضِرام
ويا كبدي الحرَّى التي قد تصدَّعتْ
…
من الوجد ذُوبي ما عليك ملامُ
ويا وجه من ذلَّت وجوهٌ أعزَّةٌ
…
له وزها عزًّا فليس يُرام
أجِرْ مستجيرًا في الهوى بك باسطًا
…
إليك يديه والعيونُ نيامُ
وذكر الخرائطي
(3)
عن بعض العلويين قال: بينا أنا عند الحسن بن
(1)
بلا نسبة في اعتلال القلوب (ص 157)، وللمجنون في ديوانه (ص 128)، ولعمر ابن أبي ربيعة في الإمتاع والمؤانسة (2/ 172)، ولابن كيغلغ في المحب والمحبوب (1/ 183).
(2)
الأبيات بلا نسبة في اعتلال القلوب (ص 223).
(3)
في اعتلال القلوب (ص 167).
هانئ وهو يُنْشِدُ:
ويلي على سُود العيو
…
نِ النُّهَّدِ الضُّمرِ البطونِ
الناطقات عن الضميـ
…
ـر لنا بألسنةِ الجُفون
فوقف عليه أعرابيٌّ ومعه بُنيُّه، فقال: أعِدْ عليَّ، فأعاد عليه، فقال: يا ابن أخي! ويلك أنت وحدك من هذا؟ ويلي أنا وأنت، وويلُ ابني هذا، وويل هذه الجماعة، وويل جيراننا كلِّهم.
وقال الخرائطي
(1)
: حدَّثنا يموت بن المُزرَّع، حدَّثنا محمَّد بن حميد، حدَّثنا محمد بن سلمة [86 أ] قال: حدّثني أبي، قال: أتيتُ عبد العزيز بن المُطلب، أسأله عن بيعة الجنِّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدتُه مستلقيًا يتغنَّى:
ما روضةٌ بالحزن طيِّبةٌ الثَّرَى
…
يمُجُّ الندى جثجاثُها وعرارُها
بأطيب من أردان عزَّة مَوهنًا
…
وقد أُوقدت بالمندل الرَّطب نارُها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة
…
وفي الحسب المكنون صافٍ نجارُها
فإن برزت كانت لعينك قُرَّةً
…
وإن غبْتَ عنها لم يَعُمَّك عارُها
(1)
في المصدر السابق (ص 167 - 168). والخبر والشعر في جمع الجواهر (ص 58). والأبيات الرائية لكثير في ديوانه (ص 429 - 430)، وبعضها في العقد الفريد (5/ 373)، والأغاني (15/ 283)، وأمالي المرتضى (1/ 221). وستأتي الأبيات ضمن خبر آخر عند المؤلف.
فقلت له: أتُغني ــ أصلحك الله ــ وأنت في جلالك وشرفك؟! أما والله لأحملنَّها ركبان نجدٍ، قال: فوالله ما اكترثَ بي، وعاد يتغنَّى:
فما ظبيةٌ أدْماءُ خفَّاقةُ الحشا
…
تجوبُ بظِلْفَيها متون الخمائل
بأحسن منها إذ تقولُ تدلُّلًا
…
وأدمُعُها يُذْرين حشو المكاحل
تمتَّعْ بذا اليوم القصير فإنَّه
…
رهينٌ بأيَّام الصُّدود الأطاول
قال: فندمت على قولي، وقلت له: أصلحك الله! أتحدِّثني في هذا بشيءٍ؟ قال: نعم! حدَّثني أبي قال: دخلتُ على سالم بن عبد الله بن عمر وأشعث يغنِّيه:
مغيبة كالبدر سنّة وجهها
…
مُطَهَّرَةُ الأثواب والعِرضُ وافرُ
لها حسبٌ زاكٍ وعِرْضٌ مهذَّبٌ
…
وعن كل مكروه من الأمر زاجرُ
من الخَفراتِ البيض لم تَلْقَ ريبةً
…
ولم يَسْتَمِلها عن تُقى الله شاعرُ
فقال له سالم: زدني. فغنّاه:
ألمَّت بنا والليلُ داجٍ كأنَّه
…
جناحُ غُرابٍ عنه قد نفض القَطْرا
فقلتُ أعطَّارٌ ثَوى في رِحالِنا
…
وما احتملت ليلى سوى طيبها عِطْرا
[86 ب] فقال له سالم: والله لولا أن تداوله الرُّواة لأجزلتُ جائزتك! فإنَّك من هذا الأمر بمكان.
قال الخرائطي
(1)
: حدَّثنا العبَّاسُ بنُ الفضل، عن بعض أصحابه،
(1)
في اعتلال القلوب (ص 146).
قال: حججْتُ سنةً من السنين، فإني لبالرَّبَذة؛ إذ وقفت علينا جاريةٌ على وجهها بُرْقُعٌ، فقالت: يا معشر الحجيج! نفَرٌ من هُذيل، ذهب بنعمهم السَّيلُ، وقعدت بهم الأيام، ما لهم نُجعَة، فمن يراقبُ فيهم الدَّار الآخرة ويعرفُ لهم حقَّ الأخوة؟ جزاه الله خيرًا! قال: فرضخنا لها، فقلت لها: هل قلتِ في ذلك شيئًا؟ فأنشأت تقول:
كفُّ الزمان توَسَّدَتنا عنوةً
…
شَلَّت أناملُها عن الأعراب
قوم إذا حلَّ العُفاة ببابهم
…
ألْفَوْا نوافلهم بغيرِ حساب
فقلتُ لها: لو أمتعتينا بالنظر إلى وجهك، فكشفت البُرْقُع عن وجهٍ لا تهتدي العقولُ لوصفه، فلما رأتنا قد بُهِتْنا لحسنها؛ أنشأت تقول:
الدَّهرُ أبدى صفحةً قد صانها
…
أبوايَ قبلَ تمرُّس الأيَّامِ
فتمتَّعوا بعيونِكم في حُسْنِها
…
وانْهَوْا جوارِحَكُمْ عن الآثام
ثم انصرفت.
وكان محمدُ بن حميد الطوسي
(1)
يهوى جاريةً، فأرسل إليها مرَّةً أُتْرُجَّةً، فبكتْ بكاءً شديدًا، فقيل لها: يُوجِّه إليك من تُحبِّينه بهدية، فتبكين هذا البكاء؟ فغنَّت
(2)
:
أهدى له أحبابُه أُتْرُجَّةً
…
فبكى وأشفق من عِيَافَةِ زاجرِ
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 195 - 197).
(2)
البيتان للعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 150)، وزهر الآداب (2/ 947).
خاف التلوُّنَ والفِراقَ لأنَّها
…
لونانِ باطنُها خِلافُ الظَّاهِر
فلمَّا جاءه الرَّسولَ؛ أخبره عنها بما أغاظه، فكتب إليها
(1)
:
ضيَّعتِ عهد فتًى لغيبكِ حافظٍ
…
في حفظِه عجَبٌ وفي تضييعكِ
وصددتِ عنه وماله من حيلةٍ
…
إلا الوقوف إلى أوانِ رُجوعكِ [78 أ]
إنْ تقتليه وتذهبي بحياته
…
فبحسن وجهك لا بحُسْنِ صنيعك
فلمَّا وافتها الرُّقعةُ بكتْ، حتى رَحِمها من حولَها، ثم اندفعتْ تقول:
هل لعيني إلى الرُّقاد شفيعُ
…
إنَّ قلبي من السَّقَامِ مَرُوعُ
لا تراني بخلتُ عنك بدمع
…
لا وحقِّ الحبيب ما لي دموعُ
إنَّ قلبي إليك صَبٌّ حزينٌ
…
فاستراحت إلى الحنين الضُّلوع
ليس في العطف يا حبيبي بديعٌ
…
إنما هجرُ من يُحب بديعُ
ثم كتبت إليه: أنا مملوكةٌ، لا أملك من أمري شيئًا، فإن كان لك فيَّ حاجةٌ فاشترني؛ لأكون طوع يديْك، فاشتراها، فمكثتْ عنده، وكانت من أحظى إمائه، حتى قُتل في وقعة بابك الخُرَّمي، فكانت تتمثل في رثائه بقول أبي تمَّام فيه
(2)
:
(1)
الأبيات لابن أبي عيينة في الأغاني (20/ 82)، وفي المصون في سر الهوى المكنون (ص 51) لأبي عيينة المهلبي، وكذا في معجم الشعراء للمرزباني (ص 267، 268).
(2)
ديوانه (4/ 137).