الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحسب ما اتَّبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يُعَذَّب به في قلبه، كما قال القائل:
مآربُ كانت في الشَّبابِ لأهلها
…
عِذابًا فصارت في المشيبِ عذابا
فلو تأمَّلت حال كل ذي حالٍ سيئةٍ زَرِيَّةٍ، لرأيت بدايتَه الذَّهاب مع هواه، وإيثارَه على عقله، ومن كانت بدايتُه مخالفةَ هواه، وطاعة داعي رُشْده؛ كانت نهايتُه العزَّ والشَّرفَ، والغنى، والجاه عند الله، وعند النَّاس.
قال أبو عليٍّ الدَّقاقُ: من ملك شهوته في حال شبيبته؛ أعزَّه الله
ــ تعالى ــ في حال كهولته. وقيل للمُهلَّب بن أبي صُفْرة: بمَ نلتَ ما نلتَ؟ قال: بطاعة الحَزْم، وعصيانِ الهوى. فهذا في بداية الدُّنيا ونهايتها، وأمَّا الآخرة؛ فقد جعل الله ــ سبحانه وتعالى ــ الجنَّة نهاية من خالف هواه، والنَّارَ نهايةَ من اتَّبع هواه. [184 ب]
السَّابع والأربعون: أنَّ
الهوى رِقٌّ في القلب، وغُلٌّ في العُنُق، وقيدٌ في الرِّجل
، ومتابعه أسيرٌ لكلِّ سيئِ الملكة، فمن خالفه عتق من رقِّه، وصار حرًّا، وخلعَ الغُلَّ من عنقه، والقيد من رجله، وصار بمنزلة رجل سَلَمٍ لرجل، بعد أن كان رجلًا فيه شركاء متشاكسون
(1)
.
ربَّ مستورٍ سَبَتهُ شَهوةٌ
…
فتعرَّى سَتْرُه فانْهَتَكا
صاحبُ الشَّهوةِ عبد فإذا
…
غلبَ الشَّهوةَ أضحى مَلِكًا
(1)
البيتان في ذم الهوى (ص 34).
وقال ابن المبارك
(1)
:
ومن البلاء وللبلاء علامةٌ
…
ألَّا يُرَى لك عن هواك نُزُوعُ
العَبْد عبد النَّفْسِ في شَهَواتِها
…
والحُرُّ يشبَع تارةً ويجوعُ
الثامن والأربعون: أنَّ مخالفة الهوى تُقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله؛ لأبرَّه، فيقضي له من الحوائج أضعافَ أضعافِ ما فاته من هواه، فهو كَمَن رَغِبَ عن بعرة، فأُعطيَ عوضها دُرَّةً. ومُتَّبعُ الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لِمَا ظَفِرَ به من هواه البتَّةَ. فتأمَّل انبساط يد يوسف الصِّديق ــ عليه الصلاة والسلام ــ ولسانه، وقدمِه، ونفسِه بعد خروجه من السِّجن لمَّا قبض نفسَه عن الحرام.
قال عبد الرحمن بن مهدي
(2)
: رأيت سفيان الثوري ــ رحمه الله ــ في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلَّا أني وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله ــ تبارك وتعالى ــ فحاسبني حسابًا يسيرًا، ثمَّ أمر بي إلى الجنَّة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها، لا أسمع حِسًّا ولا حركةً؛ إذ سمعتُ قائلاً يقول: سفيانُ بن سعيد؟! فقلتُ: سفيان بن سعيد! فقال: تحفظ أنَّك آثرت الله ــ عز وجل ــ على هواك
(1)
كما في ذم الهوى (ص 34). وله وقيل لغيره في بهجة المجالس (2/ 306).
(2)
ذم الهوى (ص 56).