المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ من ترك لله شيئا؛ عوضه الله خيرا منه - روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي أسماء المحبة

- ‌الباب الثانيفي اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها

- ‌الأسماءُ الدالَّة عَلَى مسمًّى واحدٍ نوعان:

- ‌الباب الرابعفي أنَّ العالمَ العُلويَّ والسُّفليَّ إنَّما وُجد بالمحبَّة ولأجلها

- ‌الحركة الإرادية تابعةٌ لإرادة المتحرِّك

- ‌ الملائكة مُوَكَّلَةٌ بالعالم العُلويِّ والسُّفلي

- ‌ الإيمانُ بالملائكة أحدَ أركان الإيمان الذي لا يَتمّ إلا به

- ‌الحبُّ والإرادة أصلُ كلِّ فعلٍ ومبدؤه

- ‌جميعُ حركات العالم العلويِّ والسُّفليِّ تابعةٌ للإرادة والمحبَّة

- ‌ يَنْطِق الكونُ بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالًا وحالًا

- ‌الباب الخامسفي دَواعي المحبَّة ومتعلَّقها

- ‌ المحبَّة تستدعي مشاكلةً ومناسبةً

- ‌داعي الحبِّ مِنَ المُحبِّ أربعة أشياء:

- ‌الباب السادسفي أحكام النظر، وغائلته، وما يجني على صاحبه

- ‌ العينَ مِرْآة القلب

- ‌سكرُ العشق أعظمُ من سكر الخمر

- ‌الباب السابعفي ذكر مناظرةٍ بين القلب والعين،ولوم كلٍّ منهما صاحبه(1)، والحكم بينهما

- ‌ أقوال الأئمة

- ‌الباب التاسعفي الجواب عمَّا احتجَّت به هذه الطَّائفة،وما لها وما عليها

- ‌الشَّهوةُ المجرَّدة لا تلتحق بالضرورات، ولا بالحاجات

- ‌الباب الثاني عشرفي سَكْرَةِ العُشَّاق

- ‌ حقيقة السُّكْرِ وسببه

- ‌الخمرُ شرابُ الأجسام، والعشق شراب النفوس، والألحانُ شراب الأرواح

- ‌الباب الثالث عشرفي أنَّ اللذَّة تابعةٌ لِلْمَحَبَّة في الكمال والنُّقصان

- ‌اللذَّة والألم يَنْشآن عن إدراك المُلائم والمُنافي

- ‌اللذَّة الجثمانيةُ:

- ‌الباب الرابع عشرفيمنْ مدح العِشْقَ وتمنَّاه، وَغَبَطَ صاحبَهعلى ما أُوتِيَهُ مِنْ مُناه

- ‌الباب الخامس عشرفيمن ذمَّ العِشْقَ، وتبرَّم به، وما احتجَّ بهكلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه

- ‌العشق هو الدَّاء الدَّويُّ؛ الذي تذوب معه الأرواح

- ‌العشقُ والهوى أصلُ كلِّ بليَّة

- ‌ الباب السَّادس عشرفي الحُكْم بين الفريقينوفصل النِّزاع بين الطائفتين

- ‌ العشق لا يُحْمدَ مطلقًا، ولا يُذَمُّ مطلقًا

- ‌الباب السابع عشرفي استحباب تخيُّر الصورة الجميلة للوِصالالذي يحبُّه الله ورسوله

- ‌الباب الثَّامن عشرفي أنَّ دواء المُحبِّين في كمال الوصالالذي أباحه ربُّ العالمين

- ‌ هل يجبُ على الزَّوج مجامعةُ امرأته

- ‌«خيرُ الأمور أوساطها»

- ‌الباب التاسع عشرفي ذكر فضيلة الجمالوميل النفوس إليه على كلِّ حال

- ‌ الجمال ينقسمُ قسمين: ظاهر وباطن

- ‌ الجمال الباطن يُزيِّن الصورة الظاهرة

- ‌ فصل في ذكر حقيقة الحُسْنِ والجمال ما هي

- ‌ممَّا يُذمُّ في النساء

- ‌ الباب العشرونفي علامات المحبَّة وشواهدها

- ‌ ذكر أقسام النفوس ومحابِّها

- ‌فصلومنها: إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه

- ‌فصلومنها: كثرةُ ذكر المحبوب

- ‌أعلى أنواع ذكر الحبيب

- ‌المحبُّون ثلاثة أقسام:

- ‌فصلومنها: الإقبالُ على حديثه، وإلقاءُ سمعه كلِّه إليه

- ‌فصلومنها: محبَّةُ دار المحبوب وبيته

- ‌فصلومنها: الإسراع إليه في السير

- ‌فصلومنها: محبةُ أحباب المحبوب، وجيرانه، وخدمه

- ‌فصلومنها: انجلاء همومه وغمومه إذا رأى محبوبه أو زاره

- ‌فصلومنها: البهتُ والرَّوعة التي تحصلُ عند مواجهة الحبيب، أو عند سماع ذكره

- ‌ سبب هذه الرَّوعة، والفزع، والاضطراب

- ‌فصلومنها: غيرتُه لمحبوبه وعلى محبوبه

- ‌أقوى الناس دينًا أعظمُهم غيرةً

- ‌للمحب في هذا ثلاثةُ أحوال:

- ‌فصلومنها: سروره بما يُسرُّ به محبوبه

- ‌فصلومنها: حبُّ الوحدة، والأنس بالخلوة، والتفرُّد عن الناس

- ‌فصلومنها: استكانةُ المحبِّ لمحبوبه، وخضوعُه، وذلُّه له

- ‌فصلومنها: امتدادُ النفَس، وتردُّد الأنفاس، وتصاعدُها

- ‌فصلومنها: هجرُه كل سبب يُقصيه من محبوبه

- ‌المحبَّة النافعة

- ‌فصلومنها: الاتفاق الواقع بين المحبّ والمحبوب

- ‌الباب الحادي والعشرونفي اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحبوعدم التَّشريك بينه وبين غيره فيه

- ‌ المحبة ثلاثة أقسام: محبة الله، والمحبة له وفيه، والمحبة معه

- ‌الباب الثاني والعشرونفي غَيْرَةِ المُحبِّين على أحبابهم

- ‌الغيرة نوعان: غيرةٌ للمحبوب، وغيرة عليه

- ‌فصلومنها: شدةُ الموافقة للحبيب

- ‌الباب الثالث والعشرونفي عفاف المُحبِّين مع أحبابهم

- ‌الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام

- ‌الصحيح: أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزاني

- ‌الباب الخامس والعشرون في رحمة المُحبين، والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين

- ‌الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبَينِ رغبةً في أعلاهما

- ‌النفس الأبيةُ لا ترضى بالدُّون

- ‌الرَّاغبون ثلاثةُ أقسام: راغبٌ في الله، وراغبٌ فيما عند الله، وراغبٌ عن الله

- ‌حياةُ القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدًا

- ‌من أسمائه الحسنى: الجميلُ

- ‌من علامات المحبَّة الصَّادقة

- ‌أشدُّ العقوبات العقوبة بسلب الإيمان

- ‌ من ترك لله شيئًا؛ عوَّضه الله خيرًا منه

- ‌الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذَّة الوصال الحرام

- ‌الباب التَّاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى

- ‌لا ينبغي ذم الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا

- ‌ حاكم العقل، وحاكم الدِّين

- ‌ متَّبع الهوى ليس أهلًا أن يطاع

- ‌ متَّبع الهوى بمنزلة عابد الوثن

- ‌ الهوى داءٌ، ودواؤه مخالفته

- ‌ الهوى تخليطٌ، ومخالفته حِمْيَةٌ

- ‌ التَّوحيد واتِّباع الهوى متضادَّان

- ‌ الهوى رِقٌّ في القلب، وغُلٌّ في العُنُق، وقيدٌ في الرِّجل

- ‌ مخالفة الهوى توجبُ شرف الدنيا، وشرف الآخرة

الفصل: ‌ من ترك لله شيئا؛ عوضه الله خيرا منه

الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حرامًا، فبُدِّل له حلالًا أو أعاضه الله خيرًا منه

عنوانُ هذا الباب، وقاعدتُه: أنَّ‌

‌ من ترك لله شيئًا؛ عوَّضه الله خيرًا منه

، كما ترك يوسف الصِّديقُ ــ عليه السلام ــ امرأة العزيز لله، واختارَ السِّجن على الفاحشة، فعوَّضه [169 ب] الله: أن مكَّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وأتته المرأة صاغرةً، سائلةً، راغبةً في الوصل الحلال، فتزوَّجها، فلمَّا دخل بها قال: هذا خيرٌ ممَّا كنتِ تريدين.

وتأمَّل كيف جزاه الله ــ سبحانه ــ على ضيق السجن: أن مكَّنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذلَّ له العزيز، وامرأته، وأقرَّت المرأة والنِّسوة ببراءته، وهذه سُنَّته تعالى في عباده قديمًا وحديثًا إلى يوم القيامة.

ولمَّا عقر سليمان بن داود ــ عليهما الصلاة والسلام ــ الخيلَ التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس غضبًا لله، أعاضه الله عنها الريحَ يركب هو و عسكره على متنها حيث أراد.

ولمَّا ترك المهاجرون ديارَهم لله، وأوطانهم التي هي أحبُّ شيءٍ إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدُّنيا، وملَّكهم شرقَ الأرض وغربَها.

ولو اتقى الله السَّارقُ، وترك سرقة المال المعصوم لله؛ لآتاه الله مثلَه

ص: 600

حلالًا. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 ــ 3] فأخبر ــ سبحانه وتعالى ــ: أنَّه إذا اتقاه بترك ما لا يحلُّ له؛ رزقه من حيث لا يحتسب، وكذلك الزاني لو ترك ركوبَ ذلك الفرج حرامًا لله؛ لأثابه الله بركوبه، أو ركوب ما هو خيرٌ منه حلالًا.

قال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا هشيم، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار، عن صلة، عن حذيفة بن اليمان ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظرُ إلى المرأة سهمٌ من سهام إبليس مسمومٌ، من تركه خوف الله؛ أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه» .

وقال عمر بن شبَّة

(2)

: حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدَّثنا عنبسة بن عبد الرحمن، حدَّثنا أبو الحسن المزنيُّ، عن علي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظرُ الرَّجلِ في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم، فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة [170 أ] تسرُّه» .

وقال أبو الفرج ابن الجوزي

(3)

ــ رحمه الله تعالى ــ: بلغني عن بعض الأشراف: أنَّه اجتاز بمقبرة، وإذا بجارية حسناءَ عليها ثيابُ سوادٍ،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

في ذم الهوى (ص 81).

ص: 601

فنظر إليها، فعلقت بقلبه، فكتب إليها:

قد كنتُ أحسب أنَّ الشمس واحدة

والبدر في منظر بالحسن موصوف

حتَّى رأيتُك في أثواب ثاكلة

سودٍ وصدغُك فوق الخَدِّ معطوف

فرحتُ والقلبُ منِّي هائمٌ دنِفٌ

والكبد حرَّى ودمعُ العين مذروف

رُدِّي الجواب ففيه الشكر واغتنمي

وصل المحبِّ الَّذي بالحُبِّ مشغوفُ

ورمى بالرقعة إليها، فلمَّا قرأتها كتبت:

إن كنت ذا حسبٍ زاكٍ وذا نسبٍ

إنَّ الشريف بغضِّ الطرف معروف

إنَّ الزُّناةَ أُناسٌ لا خلاقَ لهم

فاعْلم بأنَّك يوم الدين موقوف

واقطع رجاك لحاك الله من رجلٍ

فإنَّ قلبي عن الفحشاء مصروف

فلمَّا قرأ الرُّقعة؛ زجر نفسه، وقال: أليس امرأةٌ تكون أشجع منك؟ ثمَّ تاب، ولبس مدرعةً من الصُّوف، والتجأ إلى الحرم، فبينا هو في الطَّواف يومًا؛ وإذا بتلك الجارية عليها جبَّة من صوفٍ، فقالت له: ما أليق هذا بالشريف، هل لك في المباح؟ فقال: قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله، وأُحبَّه، والآن فقد شغلني حبُّه عن حبِّ غيره، فقالت له: أحسنت! والله ما قلتُ لك هذا إلَّا لاختبارك؛ لأعلم حدَّ ما انتهيت إليه،

ص: 602

ثمَّ طافت، وأنشدت:

فطفنا فلاحت في الطواف لوائحٌ

غنينا بها عن كل مرأًى ومسمع

وقال الحسن البصري

(1)

: كانت امرأةٌ بغيٌّ قد فاقت أهل عصرها في الحسن، لا تمكِّن من نفسها إلَّا بمائة دينار، وإنَّ رجلًا أبصرها فأعجبته، فذهب فعمل بيديه، وعالج، فجمع مائة دينار، فجاء، فقال: إنَّك قد أعجبتني، فانطلقت، فعملت [170 ب] بيدي، وعالجت حتى جمعت مائة دينار. فقالت: ادفعها إلى القهرمان حتى ينقدها، ويزنها. فلمَّا فعل، قالت: ادخل! وكان لها بيتٌ منجَّدٌ، وسريرٌ من ذهب، فقالت: هلمَّ لك! فلمَّا جلس منها مجلس الخائن؛ تذكَّر مقامه بين يدي الله، فأخذته رِعدةٌ، وطفئت شهوتُه، فقال: اتركيني لأخرج، ولك المائة دينار! فقالت: ما بدا لك، وقد رأيتني كما زعمت، فأعجبتك، فذهبت، فعالجتَ، وكددت حتى جمعت مائة دينار، فلمَّا قدرتَ عليَّ فعلت الَّذي فعلت؟! فقال: ما حملني على ذلك إلَاّ الفرقُ من الله، وذكرت مقامي بين يديه! قالت: لئن كنت صادقًا؛ فما لي زوجٌ غيرُك. قال: ذريني لأخرج! قالت: لا؛ إلَاّ أن تجعل لي عهدًا أن تتزوَّجني. فقال: لا، حتى أخرج. قالت: فلي عليك عهد الله إن أنا أتيتك أن تتزوجني، قال: لعلَّ. فتقنَّع بثوبه، ثمَّ خرج إلى بلده، وارتحلت المرأةُ بدنياها نادمةً على ما كان منها حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه،

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 248 - 249).

ص: 603

ومنزله، فدُلَّت عليه، فقيل له: الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك، فلمَّا رآها؛ شهقَ شهقةً، فمات، فسُقِطَ في يدها، فقالت: أمَّا هذا فقد فاتني، أما له من قريب؟ فقيل: بلى! أخوه رجلٌ فقير. فقالت: إنِّي أتزوجك حُبًّا لأخيك. قال: فتزوجته، فولدت له سبعة.

وقال يحيى بن عامر التيمي

(1)

: خرج رجلٌ من الحي حاجًّا، فورد بعض المياه ليلًا، فإذا هو بامرأةٍ ناشرةٍ شعرها، فأعرض عنها، فقالت له: هلمَّ إليَّ، فلم تعرض عني؟ فقال: إني أخاف الله رب العالمين! فتجلببت ثم قالت: هبتَ والله مَهابًا، إنَّ أولى من شركك في ا لهيبة لمن أراد أن يشركك في المعصية! ثم ولَّت، فتبعها، فدخلت بعض خيام الأعراب، قال: فلمَّا أصبحتُ؛ أتيت رجلًا من القوم، فسألته عنها، وقلت: فتاةٌ صفتُها كذا وكذا، فقال: هي والله ابنتي! فقلت: هل أنت مُزوِّجي بها؟ قال: على الأكفاء، فمن أنت؟ فقلت: رجلٌ من تيم الله، قال:[171 أ] كُفؤٌ كريمٌ، فما رِمْتُ حتى تزوَّجتها، ودخلتُ بها، ثمَّ قلت: جهزوها إلى قدومي من الحجِّ، فلمَّا قدمنا حملتها إلى الكوفة، وهاهي ذي عندي، ولي منها بنون وبناتٌ. قال: فقلت: ويحك ما كان تعرُّضُك لي حينئذٍ؟! قالت: يا هذا ما للنساء خيرٌ من الأزواج، فلا تعجبنَّ من امرأةٍ تقول: هويتُ، فوالله لو كان عند بعض السُّودان ما تريد من هواها؛ لكان هو هواها!

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 264 - 265).

ص: 604

وقال الحسن بن زيد

(1)

: وَلِيَنَا بديار مصر رجلٌ، فوجد على بعض عُمَّاله، فحبسه، وقيَّده، فأشرفت عليه ابنةُ الوالي، فهويته، فكتبت إليه:

أيُّها الرَّامي بعينيـ

ـه وفي الطَّرف الحتُوف

إن تُردْ وصلًا فقد أمْـ

ـكَنَك الظَّبْيُ الألوفُ

فأجابها الفتى:

إن تريني زاني العيـ

ـنين فالفرجُ عفيف

ليس إلَّا النظر الفا

ترُ والشِّعْر الظَّريف

فكتبت إليه:

قد أردناك فألفيـ

ـناكَ إنسانًا عفيفا

فتأبَّيت فلا زِلـ

ـتَ لقيديك حليفا

فكتب إليها:

ما تأبَّيتُ لأنِّي

كنتُ للظبي عيوفا

غير أنِّي خفت ربًّا

كان بي برًّا لطيفا

فذاع الشِّعر، وبلغت القصَّة الواليَ، فدعا به، فزوَّجه إيَّاها، ودفعها إليه.

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 267 - 268). والخبر والشعر في الموشى (ص 114)، ومصارع العشاق (1/ 233، 2/ 199) وقد سبقا.

ص: 605

وذُكر

(1)

: أنَّ رجلًا أحبَّ امرأةً، وأحبَّته، فاجتمعا، فراودته المرأة عن نفسه، فقال: إنَّ أجلي ليس بيدي، وأجلك ليس بيدك، فربما كان الأجل قد دنا، فنلقى الله عاصيين! فقالت: صدقتَ. فتابا، وحسنت حالهما، وتزوجت به.

وذكر بكر بن عبد الله المزني

(2)

: أنَّ قصَّابًا ولع بجاريةٍ لبعض جيرانه، فأرسلها أهلُها إلى حاجة في قرية أخرى، فتبعها، فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل! لأنَّا أشدُّ حبًّا [171 ب] لك منِّي، ولكنِّي أخاف الله! قال: فأنت تخافينه، وأنا لا أخافه؟! فرجع تائبًا، فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقُه، فإذا هو برسولٍ لبني إسرائيل، فسأله، فقال: ما لك؟ قال: العطش، فقال: تعال حتى ندعوَ الله حتى تظلَّنا سحابةٌ حتَّى ندخل القرية! قال: ما لي من عملٍ، فأدعوه، قال: فأنا أدعوه، وأمِّن أنت، فدعا، وأمَّن الرَّجل، فأظلتهما سحابةٌ حتى انتهيا إلى القرية، فذهب القصَّاب إلى مكانه، فرجعت السَّحابة معه، فرجع إليه الرسولُ، فقال: زعمت أن ليس لك عملٌ، وأنا الذي دعوتُ، وأنت أمَّنت، فأظلتنا سحابةٌ، ثمَّ تبعتك، لتُخْبرنِّي ما أمرُك؟! فأخبره، فقال الرسول: إنَّ التَّائب إلى الله بمكانٍ ليس أحدٌ من الناس بمكانه.

(1)

أخرجه ابن الجوزي (ص 268).

(2)

أخرجه ابن الجوزي (ص 269 - 270).

ص: 606

وقال يحيى بن أيُّوب

(1)

: كان بالمدينة فتًى يُعجب عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ شأنه، فانصرف ليلةً من صلاة العشاء، فتمثَّلت له امرأةٌ بين يديه، فعرَّضت له بنفسها، ففُتِنَ بها، ومضت، فأتبعها حتى وقف على بابها، فأبصر، وجُلِّيَ عن قلبه، وحضرته هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فخرَّ مغشيًّا عليه، فنظرت إليه المرأة، فإذا هو كالميِّت، فلم تزل هي وجاريةٌ لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره، فخرج أبوه، فرآه مُلقًى على باب الدَّار لمَا به، فحمله، وأدخله، فأفاق، فسأله: ما أصابك يا بنيَّ؟! فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره، فلما تلا الآية شهق شهقةً، فخرجت نفسه، فبلغ عمرَ ــ رضي الله عنه ــ قصَّته فقال: ألا آذنتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره، فنادى: يا فلان: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن/ 46] فسمع صوتًا من داخل القبر: قد أعطاني ربي يا عمر!

وذكر الحسن

(2)

هذه القصة عن عمر ــ رضي الله عنه ــ على وجهٍ آخر، قال: كان شابٌّ على عهد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ ملازمًا للمسجد والعبادة، فهويته جاريةٌ، فحدَّث نفسه بها، ثمَّ إنَّه تذكَّر،

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 252 - 253).

(2)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 252).

ص: 607

وأبصر، فشهق شهقةً، غُشِيَ عليه منها، فجاء عمٌّ له، فحمله إلى [172 أ] بيته، فلمَّا أفاق؛ قال: يا عمُّ! انطلق إلى عمر، فأقرئه منِّي السلام، وقل له: ما جزاءُ من خاف مقام ربه؟ فأخبر عمر، فأتاه وقد مات، فقال: لك جنَّتان!

وفي جامع الترمذي

(1)

من حديث ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ذو الكفل لا يتورَّع من ذنبٍ عمله، فأتته امرأة، فأعطاها ستِّين دينارًا على أن يطأها، فلمَّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته؛ أرعدت، وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عملٌ لم أعمله قط، وإنَّما حملتني عليه الحاجةُ، قال: فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط؟ ثمَّ قال: اذهبي والدنانير لك، ثمَّ قال: والله لا يعصي الله ذو الكفل أبدًا! فمات من ليلته، فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله لذي الكفل» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وقال أبو هريرة، وابن عباس

(2)

ــ رضي الله عنهم ــ: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فقال في خطبته: «ومن قدر على امرأةٍ، أو جاريةٍ حرامًا، فتركها مخافةً من الله آمنه الله يوم الفزع الأكبر، وحرَّمه على النار، وأدخله الجنَّة» .

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه عنهما ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 244). وفي إسناده داود بن المحبّر وضَّاع.

ص: 608

وقال مالك بن دينار

(1)

: جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنَّات عدن، فيها جوارٍ خُلِقْنَ من ورد الجنَّة، يسكنها الَّذين همُّوا بالمعاصي، فلمَّا ذكروا الله عز وجل؛ راقبوه، فانثنتْ رقابُهم من خشية الله عز وجل.

قال ميمون بن مهران

(2)

: الذكر ذكران: فذكر الله ــ عز وجل ــ باللسان حسن، وأفضل منه أن تذكر الله ــ عز وجل ــ عندما تُشرِف على معاصيه.

وقال قتادة

(3)

ــ رضي الله عنه ــ: ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يقدر رجلٌ على حرام؛ ثمَّ يدعه، ليس به إلَّا مخافة الله ــ عز وجل ــ إلَّا أبدلَه الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك» .

وقال عبيد بن عمير

(4)

: صِدْقُ الإيمان وبرُّه أن يخلو الرَّجل بالمرأة الحسناء، فيدعها، لا يدعها [172 ب] إلَّا لله عز وجل.

وقال أبو عمران الجَوني

(5)

: كان رجلٌ من بني إسرائيل لا يمتنع من شيءٍ، فجهد أهل بيت من بني إسرائيل، فأرسلوا إليه جاريةً منهم،

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 244).

(2)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 244).

(3)

ذكره ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 245).

(4)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 245).

(5)

أخرج عنه ابن الجوزي (ص 250).

ص: 609

تسأله شيئًا، فقال: لا، أو تمكِّنيني من نفسك، فرجعت، فجهدوا جهدًا شديدًا فرجعت إليه، فقالت: أعطنا! فقال: لا، أو تمكنيني من نفسك، فرجعت، فجهدوا جهدًا كثيرًا، فأرسلوها إليه، فقال لها ذلك، فقالت: دونك! فلمَّا خلا بها؛ جعلت تنتفض، كما تنتفض السَّعَفَة. فقال لها: ما لك؟! قالت: أخاف الله هذا شيءٌ لم أصنعه قطُّ! قال: أنتِ تخافين الله، ولم تصنعيه، وأفعلُه؟ أُعاهد الله أنِّي لا أرجع إلى شيءٍ ممَّا كنتُ فيه! فأوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم: أنَّ كتاب فلان أصبح في كتب أهل الجنَّة!

وذُكِر

(1)

: أنَّ شابًّا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شابٌّ أحسن منه، كان يبيع المكاتل، فبينا هو ذات يوم يطوف بمكاتله، إذ خرجت امرأة من دار ملكٍ من ملوك بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: إني رأيت شابًّا بالباب يبيع المكاتل، لم أرَ شابًّا قطُّ أحسن منه، قالت: أدخليه! فخرجت، فقالت: ادخل، فدخل، فأغلقت الباب دونه، ثمَّ قالت: ادخل، فدخل، فأغلقت بابًا آخر دونه، ثمَّ استقبلته بنتُ الملك كاشفةً عن وجهها، ونحرها، فقال لها: استتري، عافاك الله! فقالت: إنَّا لم ندعُك لهذا! وإنَّما دعوناك لكذا، وراودته عن نفسه، فقال لها: اتقي الله! فقالت: إنَّك إن لم تطاوعني على ما أريد؛ أخبرت الملك أنَّك إنَّما دخلت تكابدني على نفسي، فقال لها: فضعي لي وضوءًا،

(1)

أخرجه ابن الجوزي (ص 251 - 252).

ص: 610

فقالت: أعليَّ تتعلَّل؟ يا جارية! ضعي له وضوءًا فوق الجَوسَق ــ مكانًا لا يستطيع أن يفرَّ منه ــ فلمَّا صار في أعلى الجوسق؛ قال: اللَّهم إنِّي دُعِيْتُ إلى معصيتك، وإنِّي أختار أن أُلقي نفسي من هذا الجوسق، ولا أركب معصيتك! ثمَّ قال: باسم الله، وألقى نفسه من أعلاه، فأهبط الله ملكًا أخذ بضَبْعَيه، فوقع قائمًا على رجليه، [173 أ] فلمَّا صار في الأرض؛ قال: اللَّهم إن شئت رزقتني رزقًا يغنيني عن بيع هذه المكاتل! فأرسل الله عليه رِجلًا من جراد من ذهبٍ، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلمَّا صار في ثوبه؛ قال: اللهم إن كان هذا رزقًا رزقتنيه من الدُّنيا؛ فبارك لي فيه! وإن كان ينقصني ممَّا لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه! فنودي: إنَّ هذا الَّذي أعطيناك جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا لصبرك على إلقائك نفسك! فقال: اللهم لا حاجة لي فيما ينقصني ممَّا لي عندك في الآخرة! فرُفِعَ الجراد.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي

(1)

عن رجل من بعض المياسير قال: بينا أنا يومًا في منزلي؛ إذ دخل عليَّ خادمٌ لي، فقال لي: رجلٌ بالباب معه كتاب، فقلت: أدخله، أو خذ كتابه. فأخذ الكتاب منه، فإذا فيه:

تجنَّبك الرَّدى ولقيتَ خيرًا

وسلَّمك المليك من الغموم

شكونَ بناتُ أحشائي إليكم

وما إن يشتكين إلى ظلوم

(1)

في ذم الهوى (ص 231 - 234) بطوله. والخبر والشعر في مصارع العشاق (2/ 271 - 274)، وتزيين الأسواق (1/ 316).

ص: 611

وسالتْني الكتابَ إليك فيما

يخامرها ــ فدتك ــ من الهموم

وهُنَّ يقلن يا ابن الجُود إنَّا

برِمنا من مراعاة النُّجوم

وعندك لو مننت شفاءُ سُقْم

لأعضاءٍ دَمِيْنَ من الكُلُوم

قال: فلمَّا قرأت الأبيات؛ قلت: عاشقٌ. فقلت للخادم: أدخله، فخرج، فلم يره، فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردَّد في قلبي، فدعوت جواريَّ كلَّهُنَّ، فجمعتهنَّ، ثمَّ قلت لهنَّ: ما قصة هذا الكتاب؟ فحلفن لي، وقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببًا فمن جاءك به؟ قلت: قد فاتني وما أردت سؤالكنَّ إلَّا أنِّي ظننتُ له هوًى في بعضكنَّ، فمن عرفت منكنَّ أنَّها صاحبته؛ فهي له، فلتذهب إليه، ولتأخذ كتابي إليه، وكتبتُ كتابًا أشكره على فعله، وأسأله عن حاله، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، فمكث الكتاب [173 ب] في موضعه حينًا لا يأخذه أحد، ولا أرى الرَّجل، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، ثمَّ قلت: لعلَّه بعض فتياننا، ثمَّ قلت: إنَّ هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قَنِعَ ممَّن يحبُّه بالنظر، فدبَّرت عليه، فحجبت جواريَّ عن الخروج، فما كان إلَّا يومٌ وبعض الآخر؛ إذ دخل عليَّ الخادم، ومعه كتابٌ، قال: أرسل به إليك فلانٌ، وذكر بعض أصدقائي، ففضضته، فإذا فيه:

ماذا أردتَ إلى روح معلَّقةٍ

عند التَّراقي وحادي الموت يحدوها

حثثتَ حاديَها ظُلمًا فجدَّ بها

في السَّير حتَّى تولَّت عن تراقيها

حجبتَ من كان تحيا عند رؤيتها

رُوحي ومن كان يشفيني ترائيها

ص: 612

فالنَّفس تجنح نحو الظلم جاهلةً

والقلبُ منِّي سليمٌ ما يواتيها

والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ

وإن عُقباك دنيانا وما فيها

لقلت لا والَّذي أخشى عقوبته

ولا بأضعافها ما كنتُ آتيها

لولا الحياء لبُحنا بالَّذي كتمت

بنتُ الفؤادِ وأبدينا تمنِّيها

قال: فبهتُّ، وقلتُ: لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرَّجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحدٌ بكتابٍ إلَّا قبضت عليه، حتى تدخله عليَّ، ثمَّ لم أعرف له خبرًا بعد ذلك، فبينا أنا أطوف بالكعبة؛ إذا فتًى قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي، ويلاحظني، وقد صار مثل العود، فلمَّا قضيت طوافي؛ خرجت، واتَّبعني، فقال: يا هذا! أتعرفني؟ قلت: لا أنكرك لسوءٍ! قال: أنا صاحب الكتابين، فما تمالكتُ أن قبَّلت رأسه، وبين عينيه، وقلت: بأبي أنت وأمِّي! والله قد شغلت قلبي، وأطلت غمِّي بشدَّة كتمانك لأمرك! فهل لك فيما سألت وطلبت؟ قال: بارك الله لك، وأقرَّ عينك، إنَّما أتيتك أستحلُّك من نظرةٍ كنت نظرتها على غير حكم الكتاب والسنَّة، والهوى داعٍ إلى كلِّ بلاء، [174 أ] وأستغفر الله العظيم! فقلت: يا حبيبي! أحب أن تصير معي إلى منزلي، فآنس بك، وتجري الحرمة بيني وبينك، قال: ليس إلى ذلك سبيل! فقلت: غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتُها لك، ومعها مائة دينار، ولك في كلِّ سنة كذا وكذا! قال: بارك الله لك فيها، فلولا عهودٌ عاهدت الله عليها، وأشياء أكدتُها عليَّ؛ لم يكن في الدنيا شيءٌ أحبُّ إليَّ من هذا الَّذي تعرضه عليَّ، ولكن ليس إلى

ص: 613

ذلك سبيل، والدنيا منقطعةٌ. فقلت له: فإذا أبيت أن تقبل منِّي ذلك، فأخبرني من هي حتَّى أكرمها لأجلك ما بقيتُ! فقال: ما كنت لأذكرها لأحدٍ! ثمَّ قام، وتركني.

وذكر عبد الملك بن قُرَيب

(1)

، قال: هويَ رجلٌ من النُّساك جاريةً، فاشتدَّ حبُّه لها، فبعث إليها يخطبها، فامتنعت وأجابته إلى غير ذلك، فأبى، وقال: لا إلَّا ما أحلَّ الله! ثمَّ إنَّ محبَّته ألقيت في قلبها، فبذلت له ما سأل، فقال: لا والله، لا حاجة لي بمن دعوتها إلى طاعة الله، ودعتني إلى معصيته!

وحكى المُبرِّدُ

(2)

عن شيخه أبي عثمان المازنيِّ: أنَّه قصده بعض أهل الذِّمَّة؛ ليقرأ عليه «كتاب سيبويه» وبذل له مائة دينار، فامتنع وردَّه، فقلت له: أترُدُّ هذا القدر مع شدَّة فاقتك؟ فقال: إنَّ هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آيةً من كتاب الله، ولست أرى تمكين هذا الذِّمِّي منها غيرةً على القرآن. فاتَّفق أن غنَّت جاريةٌ بحضرة الواثق بقول

(1)

أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 236). وسبق عند المؤلف بسياق أطول عن مخرمة بن عثمان.

(2)

أخرج عنه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (9/ 234 - 235). والخبر في معجم الأدباء (2/ 759، 760)، وإنباه الرواة (1/ 284)، ووفيات الأعيان (1/ 284، 285)، وطبقات النحويين للزبيدي (ص 87 - 88، 91 - 92). ولعلَّ المؤلف نقل هذا الخبر من درة الغواص (ص 96 - 98).

ص: 614

العَرْجيِّ

(1)

:

أظلومُ إنَّ مصابكم رجلًا

أهدى السَّلام تحيَّةً ظُلْم

فاختلف أهل مجلسه في إعراب «رجل» ، فمنهم من قال: هو نصبٌ، وجعله اسم إنَّ، ومنهم من رفعه على أنَّه خبرها، والجارية أصرَّت على النَّصب، وقالت: لقَّنني إيَّاه كذلك شيخي أبو عثمان المازنيُّ، فأمر الواثق بإحضاره إلى بين يديه، قال: فلمَّا مثلتُ بين يديه؛ قال: ممَّن الرَّجل؟ قلت: من [174 ب] بني مازن، قال: أيُّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلَّمني بكلام قومي، فقال: بَا اسمُك؟ وقومي يقلبون الميم باءً والباء ميمًا، فكرهت أن أواجهه بلفظة مكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! ففطن لما قصدتُه، وأعجب به، فقال: ما تقول في قول الشاعر:

أظلومُ إنَّ مصابكم رجلًا

أهدى السَّلام تحيَّةً ظُلْم

أترفع رجلاً أم تنصبه؟ فقلت: الوجه النَّصبُ يا أمير المؤمنين! فقال: ولم ذاك؟ فقلت: لأنَّ مصابكم مصدرٌ بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيديُّ في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك: إنَّ ضربك زيدًا ظُلْمٌ،

(1)

انظر ديوانه (ص 193). والصواب أنَّ البيت للحارث بن خالد المخزومي، انظر خزانة الأدب (1/ 217)، وشرح أبيات مغني اللبيب (7/ 158)، والحماسة البصرية (2/ 216).

ص: 615

فرَجُلًا مفعول مصابكم، ومنصوبٌ به، والدَّليل عليه أنَّ الكلام معلَّقٌ إلى أن تقول: ظُلم، فيتمَّ. فاستحسنه الواثق، وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! بُنيَّة. قال: فما قالت لك عند مسيرك إلينا؟ قلت: أنشدَتْ قول الأعشى

(1)

حيث يقول:

أيا أبتا لا تَرِمْ عندنا

فإنَّا بخير إذا لم ترِمْ

ترانا إذا أضمرتك البلا

دُ نُجفَى وتقطع منَّا الرَّحِمْ

قال: فما قلتَ لها؟ قلتُ: قولَ جرير

(2)

:

ثقي بالله ليس له شريكٌ

ومن عند الخليفة بالنَّجاح

فقال: عليَّ النجاح إن شاء الله! ثمَّ أمر لي بألف دينار، وردَّني إلى البصرة مُكرَّمًا. قال أبو العباس المبرِّد: فلمَّا عاد إلى البصرة، قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟! رددنا لله مائة دينار، فعوَّضنا ألفًا.

(1)

ديوانه (ص 41).

(2)

ديوانه (1/ 89).

ص: 616