الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعطاني البدر خودًا في محاسنها
…
والبدر لم يعطه إنسٌ ولا جان
ولستُ يومًا بناسٍ فضله أبدًا
…
حتى يغيِّبني لحدٌ وأكفان
التاسع والثلاثون: أنَّ مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديدٍ صعب جموحٍ، لا لجام له، فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به، أو يسير به إلى مهلكٍ. قال بعض العارفين
(1)
: أسرعُ المطايا إلى الجنَّة الزُّهد في الدُّنيا، وأسرعُ المطايا إلى النَّار حبُّ الشهوات، ومن استوى على متن هواه؛ أسرع به إلى وادي الهلكات. وقال آخر
(2)
: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدُّنيا، واستصعب قيادُه على الهوى. وقال عطاء
(3)
: من غلب هواه عقله، وجزعُه صبره، افتُضح.
الأربعون: أنَّ
التَّوحيد واتِّباع الهوى متضادَّان
، فإنَّ الهوى [183 ب] صنمٌ، ولكلِّ عبد صنمُ في قلبه بحسب هواه، وإنَّما بعث الله رسله بكسر الأصنام، وعبادته وحده لا شريك له، وليس مرادُ الله ــ سبحانه ــ كسرَ الأصنام المجسَّدة، وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أوَّلًا.
قال الحسن بن علي المطَّوِّعي: صنمُ كلِّ إنسانٍ هواه، فمن كسره
(1)
هو الحسن بن محمد الجريري كما في ذم الهوى (ص 27).
(2)
رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 27) عن بعض العباد.
(3)
رواه ابن الجوزي (ص 27).
بالمخالفة؛ استحقَّ اسمَ الفُتُوَّة. وتأمَّل قولَ الخليل لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء/52] كيف تجده مطابقًا للتماثيل التي يهواها القلب، ويعكف عليها، ويعبدها من دون الله، قال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان/ 43 ــ 44].
الحادي والأربعون: أنَّ مخالفة الهوى مطردة للدَّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبةٌ لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى، ولو فتَّشتَ على أمراض البدن؛ لرأيت غالبَها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركُه.
الثاني والأربعون: أنَّ أصل العداوة، والشَّرِّ، والحسد الواقع بين النَّاس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه؛ أراح قلبه، وبدنه، وجوارحه، فاستراح، وأراح.
قال أبو بكر الورَّاق: إذا غلب الهوى؛ أظلمَ القلبُ، وإذا أظلم؛ ضاق الصَّدرُ، وإذا ضاق الصَّدرُ ساء الخُلُق، وإذا ساء الخُلقُ أبغضه الخَلْق وأبغضهم. فانظر ماذا يتولَّد من التِّباغض من الشَّرِّ والعداوة، وترك الحقوق، وغيرها.
الثالث والأربعون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل في العبد هوًى، وعقلًا، فأيُّهما ظهر توارى الآخر. كما قال أبو علي الثقفي: من غلبه
هواه توارى عنه عقله، فانظر عاقبة من استتر عنه عقلُه، وظهر عليه خلافه. وقال عليُّ بن سهل ــ رحمه الله ــ: العقل والهوى يتنازعان، فالتَّوفيق قرينُ العقل، والخِذلان قرينُ الهوى، والنَّفس واقفة بينهما، فأيُّهما غلب؛ كانت النَّفس معه.
الرَّابع والأربعون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل القلب ملك الجوارح، ومعدن معرفته، ومحبَّته، [184 أ] وعبوديته، وامتحنه بسلطانين، وجيشين، وعونين، وعُدَّتين، فالحقُّ، والرشد، والهدى سلطانٌ، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصِّدق، والإخلاص، ومجانبة الهوى. والباطل سلطانٌ، وأعوانه الشياطين وجنده، وعُدَّته اتباع الهوى، والنَّفس واقعة بين الجيشين، ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلَّا من ثغرها، وناحيتها، فهي تخامر على القلب، وتصير مع عدوِّه عليه، فتكون الدَّائرة عليه، فهي التي تُعطي عدوَّها عُدَّةً من قبلها، وتفتح له باب المدينة، فيدخل، ويتملَّك، ويقع الخِذلان على القلب.
الخامس والأربعون: أنَّ أعدى عدوٍّ للمرء شيطانُه وهواه، وأصدق صديقٍ له عقله، والملك النَّاصح له، فإذا اتَّبع هواه؛ أعطى بيده لعدوِّه، واستأسر له، وأشمته به، وساء صديقُه ووليُّه، وهذا بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
السَّادس والأربعون: أنَّ لكلِّ عبد بدايةً ونهايةً، فمن كانت بدايته اتباع الهوى؛ كانت نهايته الذُّلّ، والصَّغار، والحرمان، والبلاءَ المتنوع