الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع
في الجواب عمَّا احتجَّت به هذه الطَّائفة،
وما لها وما عليها
في هذا الاحتجاج
وشُبَهُهُمُ التي ذكروها دائرةٌ بين ثلاثة أقسام:
أحدها: نُقولٌ صحيحةٌ لا حجَّة لهم فيها.
الثاني: نُقولٌ كاذبةٌ عمَّن نُسبت إليه من وضع الفُسَّاق، والفُجَّار، كما سنبيِّنُه.
الثالثُ: نُقولٌ مُجْمَلةٌ، محتملةٌ لخلاف ما ذهبوا إليه.
فأمَّا احتجاجُهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف/185] فهو نَظيرُ احتجاجهم بعينه على إباحة السَّماع الشَّيطانيِّ الفِسْقيِّ بقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر/17 ــ 18]، قالوا: والقولُ عامٌّ، فحمَّلوا لفظَه ومعناه ما هو بريءٌ منه.
وإنَّما القولُ ها هنا ما أمرَهم الله باستماعه، وهو وَحْيُهُ الذي أنزلَه علَى رسوله، وهو الذي قال فيه:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون/68]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص/51].
فهذا هو القول الذي أُمروا باتِّباع أحسنِه، كما قال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر/55] والنَّظر الذي أمَرَنا سبحانه به النظر
(1)
المُؤَدِّي إلى معرفته، والإيمان به، ومحبَّته، والاستدلالِ على صدق رُسُله فيما أخبروا به عنه من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وثوابه، وعقابه لا النظرُ الذي [47 أ] يُوجب تعلُّق الناظر بالصُّورة التي يَحْرُمُ عليه الاستمتاع بها نظرًا ومباشرةً، فهذا النظر الذي أمرَ الله سبحانه صاحبه بغضِّ بصره، هذا مع أنَّ القومَ لم يُبْتَلَوْا بالمُرْدان، وهم كانوا أشرفَ نفوسًا، وأطهر قلوبًا من ذلك، فإذا أمرَهم بغضِّ أبصارِهم عن الصُّورة التي تُباح لهم في بعض الأحوال خشيةَ الافتتان، فكيف بالنظر
(2)
إلى صورةٍ لا تُباح بحال؟ ثم يُقال لهذه الطائفة: النظر الذي ندبَ الله إليه نظرٌ يُثاب عليه الناظر، وهو نظرٌ مُوافقٌ لأمره، يقصدُ به معرفة ربِّه ومحبَّته، لا النظرُ الشَّيطانيُّ.
ويُشبه هذا الاستدلال استدلال بعض الزنادقة المنتَسبين إلى الفقه على حِلِّ الفاحشة بمملوك الرَّجل، بقوله تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون/6]، ومُعْتَقِدُ ذلك كافرٌ حلالُ الدَّم بعد قيام الحُجَّة عليه، وإنما تستَّرت هذه الطائفةُ لهواها وشهواتها، وأوهمت أنَّها تنظُر عِبرةً، واستدلالًا، حتى آل ببعضِهُمُ الأمرُ
(1)
«النظر» ساقطة من ش.
(2)
ش: «النظر» .
إلى أن ظنُّوا أنَّ نظرهم عبادةٌ؛ لأنَّهم ينظرون إلى مظاهر
(1)
الجمال الإلهيِّ، ويزعمون أنَّ الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى ـ يظهر في تلك الصُّورة الجميلة، ويجعلونَ هذا طريقًا إلى الله، كما وقعَ فيه طوائفُ كثيرةٌ مِمَّن يدَّعي المعرفة والسُّلوك.
قال شيخنا
(2)
رحمه الله تعالى: وكفرُ هؤلاء شرٌّ من كفر قوم لوط، وشرٌّ من كفر عُبَّاد الأصنام، فإنَّ أولئك لم يقولوا: إنَّ الله سبحانه يتجلَّى في تلك الصُّور، وعُبَّادُ الأصنام غايةُ ما قالوه:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر/3]، وهؤلاء قالوا: نعبدُهم؛ لأنَّ الله ظهرَ في صُوَرهم.
وحكى لي شيخنا: أنَّ رجلًا من هؤلاء مرَّ به شابٌّ جميلٌ، فجعلَ يُتبعه بصرَه، فأنكرَ عليه جليسٌ له، وقال: لا يَصلُحُ هذا لمثلِكَ، فقال: إنِّي أرى فيه صفاتِ مَعبودي، وهو يظهر في [47 ب] مظاهر جماله. فقال: لقد فعلتُ به وصنعتُ، فقال: وإن. قال شيخنا: فلعنَ الله أُمَّةً معبودُها مَوْطُوؤها.
قال
(3)
: وسُئل أفضلُ متأخريهم العفيفُ التِّلِمْسَانيُّ، فقيل له: إذا كان الوجودُ واحدًا؛ فما الفرقُ بين الأُختِ، والبنتِ، والأجنبيَّةِ حتى تحِلَّ هذه وتحرمَ هذه؟! فقال: الجميعُ عندنا سواء، ولكنْ هؤلاء
(1)
ت: «تظاهر» .
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 423).
(3)
«مجموع الفتاوى» (15/ 424).
المحجوبون قالوا: حرامٌ، فقلنا: حرامٌ عليكم.
وَمِنْ هؤلاء الزنادقة مَنْ يخصُّ ذلك ببعض الصُّوَر، فهؤلاء من جنس النَّصارى بل هم إخوانُهم، فالنَّظرُ عند هؤلاءِ إلى الصُّور المحرَّمة عبادةٌ، ويشبه أن يكون هذا الحديثُ من وَضْعِ بعضِ هؤلاء الزَّنادقةِ، أو مُجَّانِ الفُسَّاق، وإلَاّ فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم بريءٌ منه.
وسُئل شيخُنا
(1)
عَمَّنْ يقول: النظر إلى الوجه الحسن عبادةٌ، ويروي ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهل ذلك صحيحٌ أم لا؟ فأجابَ بأن قال: هذا كذبٌ باطلٌ، ومن روى ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو ما يُشبهه؛ فقد كذبَ عليه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ هذا لم يَرْوِه أحدٌ من أهل الحديث، لا بإسنادٍ صحيح، ولا ضعيفٍ، بل هو من الموضوعات، وهو مخالفٌ لإجماع المسلمين، فإنَّه لم يقل أحدٌ: إنَّ النظر إلى المرأة الأجنبية والصَّبيِّ الأمردِ عبادةٌ.
ومن زعمَ ذلك فإنَّه يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل، فإنَّ النظرَ منه ما هو حرامٌ، ومنه ما هو مكروهٌ، ومنه ما هو مباحٌ، والله أعلم.
وأمَّا الحديث الآخر، وهو:«اطْلُبُوا الخَيْرَ منْ حِسَانِ الْوُجوه» فهذا وإن كان قد رُوي بإسنادٍ، إلا أنَّه باطلٌ، لم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
السؤال في «المجموع» (15/ 410)، ولكن لم يرد الجواب عنه في كلام شيخ الإسلام، فلعل فيه نقصًا. وقد تكرر ورود هذه الفتوى في «مجموع الفتاوى» (21/ 243 - 259) دون الجواب عن هذا السؤال.
ولو صحَّ لم يكن فيه حُجَّةٌ لهذه الطائفة، فإنَّه إنَّما أمرَ بطلب الخير منهم لا بطلب وِصَالهم، ونيل المحرَّم منهم، فإنّ
(1)
الوجه الجميل مَظِنَّةُ الفِعْل الجميل، فإنَّ الأخلاقَ في الغالب مناسبةٌ للخِلْقة، بينهما نسبٌ قريب.
وأمَّا أمرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للخاطب بأن ينظر إلى المخطوبة؛ فذلك نظرٌ للحاجة، وهو مأمورٌ به أمْرَ استحبابٍ [48 أ] عند الجمهور، وأمْرَ إيجاب عند بعض أهل الظَّاهر، وهو من النَّظر المأْذون فيه لمصلحةٍ راجحةٍ، وهو دخولُ الزَّوج على بصيرةٍ، وأبعدُ من ندمه ونُفْرَته عن المرأة، فالنَّظرُ المباحُ أنواعٌ، هذا أحدُها، بخلاف النظر إلى الصُّورة المحرَّمة.
فصل
وأما ما ذكره السمعانيُّ عن الشَّافعي رحمه الله تعالى فَمِن تحريف النَّاقل، والسَّائلُ لم يذكر لفظ الشَّافعيِّ، والبيتان هكذا هما
(2)
:
سألتُ الفتى المكيَّ هل في تزاوُرٍ
…
ونظرةِ مُشتاقِ الفؤاد جُناحُ؟
فقالَ مَعاذَ اللهِ أن يُذهبَ التُّقى
…
تلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جراحُ
فهذا السَّائل هو الذي ذكر السؤَال والجواب، وهو مجهولٌ لا يُعْرَف؛
(1)
ت: «كأن» .
(2)
سبق ذكرهما وتخريجهما.
هل هو ثقةٌ، أم لا؟ ثم إنَّ الجوابَ لا يَدُلُّ على مقصود هذه الفِرْقة بوجه ما، بل هو حجةٌ عليها، فإنَّه نهى أن يُذهبَ التُّقى تلاصُق هذه الأكباد، فكأنَّه قال: لا تتلاصق هذه الأكباد؛ لئلا يُذهبَ التُّقى تلاصقُها، فالتَّلاصقُ المذكور فاعلٌ، والتُّقى مفعولٌ، فكأنَّه قال: لا تفعل؛ لئلا يُذهب التلاصُق التُّقى. وجوابٌ آخرُ: وهو أنَّ هذا التَّلاصُق إنَّما يكون غيرَ مُذْهبٍ للتُّقى إذا كان في عِشْقٍ مُبَاحٍ، بل يُستحبُّ، كعشق الزوجة والأمة.
وأمَّا ما ذكروا عن سعيد بن المسيَّب رحمه الله تعالى فقد أجاب عنه سعيدٌ نفسُه، فإنَّه لما مرّ به [جامع بن]
(1)
مُرْخِيَةَ ــ هذا السائلُ، وكان من بني كلاب ــ قال سعيد: هذا من أكذبِ العرب، قيل: كيف يا أبا محمد؟! قال أليس الذي يقول
(2)
:
سألتُ سعيدَ بن المُسَيَّبِ مفتيَ الـ
…
ـمدينةِ هل في حبِّ دَهماءَ مِنْ وِزْرِ؟
فقالَ سعيدُ بنُ المسيَّب إنَّما
…
تُلام على ما تستطيع من الأمْر
(1)
الزيادة من المصادر الآتي ذكرها.
(2)
الشعر مع الخبر في «الأغاني» (9/ 147). وتصحيح الاسم منه، و «الموشى» (ص 160 - 161)، و «الواضح المبين» (ص 36). وتحرف الاسم في الموشى، إلى «ابن مرجانة» .
كذبَ والله! ما سألني عن شيءٍ مِنْ هذا قطُّ، ولا أفتيتُه. وإذا كان هذا جواب سعيدٍ في مثل هذا؛ فما جوابُه لمن سأله أن يُقبِّل حبيبًا أجنبيًّا كلَّ يوم وليلةٍ عشرة؟ فقبَّح الله الفسقة الكذَّابين على العلماء، ولاسيَّما على مثل سعيدٍ، فهؤلاء كلُّهم فسقةٌ كاذبون، أرادوا تنفيق [48 ب] فسقهم بالكذب على علماءِ وقتهم، كما نفَّق الفاسقُ أبو نُوَاس كذبه على إسحاق ابن يوسف الأزرق.
قال عبيد الله بن محمد بن عائشة
(1)
: أتيتُ إسحاق بن يوسف الأزرق يومًا، فلمَّا رآني؛ بكى، قلت: ما يبكيك؟ قال: هذا أبو نُوَاس، قلت: ما لَه؟ قال: يا جاريةُ! ائتيني بالقرطاس، فإذا فيه مكتوبٌ:
يا ساحرَ المُقلتين والجِيْد
…
وقاتِلي مِنْهُ بالمَواعيدِ
تُوعِدُني الوَصْلَ ثم تُخْلِفُني
…
ويْلاه مِن مُخْلِفٍ لموْعُودي
حدَّثني الأزرقُ المُحَدِّث عن
…
شِمْرٍ وَعَوْفٍ عن ابن مسعودِ
لا يُخلفُ الوعدَ غيرُ كافرةٍ
…
أو كافرٍ في الجَحِيْم مَصْفُود
كذب والله عليَّ، وعلى التابعين، وعَلَى الصَّحابة!
ولو صحَّ عنْ سعيد لم يكن لكم فيه حُجَّةٌ، فإنَّ سعيدًا أمره بالصَّبْر
(1)
الخبر مع الشعر في «نور القبس» (ص 201، 202). والبيتان الأخيران لأبي نواس في «عيون الأخبار» (2/ 139، 140)، و «أخبار أبي نواس» (1/ 151)، ولا يوجد الشعر في ديوانه. وانظر «خاص الخاص» (ص 234) طبعة الهند.
أوَّلًا، ومراقبةِ الله، وخوفِ سَطْوَتِه، ومخالفةِ الفَسَقَةِ، ثمَّ أمره بتقبيل خدِّ من يحبُّه كلَّ يوم عشر مرات، وهذا قطعًا إنَّما أراد به مَنْ يَحِلُّ له تقبيلُه من زوجةٍ، أو سُرِّية، فأمرَه أن يعتاضَ بقُبلتها عن قُبْلة من لا تحلُّ له، ولا يَظُنُّ بعلماء الإسلام غير هذا إلا مُفْرِطٌ في الجهْلِ، أو مُتَّهَمٌ على الدِّين.
وأمَّا ما ذكره المبرِّد عن الأعرابيّ الذي سأل الفتى المكيَّ عن القُبلة في رمضان، فقال: للزَّوجة سبعٌ، وللخُلَّة ثمان، فهذا المُستفتي والمُفتي لا يُعرَف واحدٌ منهما حتَّى يُقْبل خبرُه، ولو صحَّ ذلك، وعُرف المستفتي والمُفتي؛ لكانت الخُلَّةُ هي أمَته الجميلة، وهي التي يَحِلُّ تقبيلُها ثمانيًا فأكثر. وأما أن يُفتيَ أحدٌ من أهل الإسلام بأنَّه يحِلُّ تقبيلُ المرأة الأجنبية المحرَّمة عليه ثمانيًا في رمضان، فمعاذ الله من ذلك!.
وهكذا حكمُ الأثر الذي ذكره
(1)
الخطيبُ في كتاب «رواة مالك» ، ولا يُظَنُّ بعالم أنَّه تمنَّى أن يقبِّل امرأةً أجنبيةً وهو مُحْرِم ببطن مِنًى؛ فإنَّ القُبلة المذكورة تُعَرِّضُ الحجَّ للفساد، وتُبطلهُ عند طائفة، فإن صحَّ هذا فإنَّما أراد امرأته، أو أمته.
وأمَّا الأثر الذي [49 أ] ذكره الحاكم في مناقب الشَّافعي رحمه الله تعالى فليس بين الحاكم وبين الرَّبيع من يُحْتَجُّ به، ويدلُّ على أنَّ القِصَّة
(1)
ت: «رواه» .
كذب ظاهرٌ أنَّ المُستفتي زعم: أنَّ الشافعيَّ أجاب بقوله:
فقال لي المُفتي وفاضت دموعُه
وهذا إنَّما هو حكاية المُستفتي قول المُفتي، فمن هو الحاكي عن الشَّافعيِّ؟ فدَعُوا هذه الأكاذيب والتُّرَّهات!
وأما ما ذكرتم عن عمرو بن سفيان بن بنت جامع، فمن ذكر هذا عن عمرو؟ ومن عمرو بن سفيان ابن بنت جامع بن مُرْخيَة هذا؟ وهذا موضعُ البيتين المشهورين
(1)
:
سألْنا عن ثُمالَة كلَّ حيٍّ
…
فقال القائلون: ومنْ ثُمَالَهْ؟
فقلتُ محمَّدُ بن يزيدَ منهم
…
فقالُوا زدتَنا بهمُ جَهالهْ
وهل يحلُّ لأحدٍ أن يُصدِّق عن مالكٍ والليثِ بن سعد أنَّهما أجازا تقبيلَ خدِّ المرأة الأجنبية المعشوقة، أو خدِّ الأمرد الجميل الصُّورة؟ هذا وقصَّةُ مالك مع الذي ضمَّ صبيًا إليه، فأفتى بضربه ستمئة سوطٍ، فمات، فقال له أبو الفتى: قتلت ابني! فقال: قتلَه الله. فمن هذا تشديدُه وفتواه؛ هل
(1)
لعبد الصمد بن المعذل كما في «ديوانه» (ص 156)، و «أمالي» القالي (1/ 113)، و «سمط اللآلي» (1/ 339). وانظر: العقد الفريد» (3/ 386، 5/ 300)، و «التنبيهات على أغاليط الرواة» (ص 144)، و «وفيات الأعيان» (4/ 320). وفيه: ويقال إن هذه الأبيات للمبرد، وكان يشتهي أن يشتهر بهذه القبيلة، فصنع هذه الأبيات، فشاعت وحصل له مقصوده من الاشتهار.
يُفتي بجواز تقبيل خدود المُرْد الحِسان؟ نعم ما حرَّم الرحمنُ قُبلةَ عاشقٍ يَحِلُّ لمعشوقه مواصلتُه، ولا قُبلة الرَّجل خدَّ ولده، كما قبَّل أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه خدَّ ابنته عائشة رضي الله عنها.
ورأى أعرابيٌّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّل أحد ابنيْ ابنته فقال: وإنكم لتُقبِّلون الصِّبيان؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُهم! فقال: «أوَ أمْلِكُ إن نزَعَ الله الرَّحْمَة منْ قلْبِك»
(1)
.
وأما صاحبُ كتاب «رُسْتاق الاتفاق» وهو شاعر المصريين، فلعمرُ الله لقد أفسدْتَ؛ إذ أسندتَ، فإنَّه الفاسقُ الماجنُ المسمى أبا الرّقَعْمَق، ولكن لا يُنكر هذا المتنُ بهذا الإسناد، فإنَّه لا يليق إلَاّ به.
وأمَّا قِصَّة إبراهيم بن المدبَّر عن أبي بكر بن عيَّاش، فنقلٌ غير مُصدَّقٍ عن قائلٍ غيرِ معصوم.
وأمَّا ما ذكروا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فو الذي لا إله غيرُه إنَّه لمنْ أقبح الكذب عليه! [49 ب] ولو أنَّ هذا الكاذبَ الفاسق نفَّق هذه الكذبة بغيره؛ لراج أمرُها بعض الرَّواج، ولكن منْ شدَّة جهله نفَّقها بأحمد بن حنبل، وهو كمن ينسب إليه القولَ بأنَّ القرآن مخلوقٌ، أو تقديمَ عليٍّ على أبي بكر، أو تقديمَ الرأْي على السُّنَّة، وأمثالَ ذلك.
وكذلك ما ذُكِر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو صحَّ لم تكن فيه
(1)
أخرجه البخاري (5998)، ومسلم (2317) من حديث عائشة.
حجَّةٌ لهذه الطائفة، فإنَّه قال: لا إثمَ فيه إذا كانت لعشرٍ وأربع، ولم يقل إذا كانت أجنبيةً، ونحن نقول بما قال به أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا كان المعشوق حلالًا.
وأمَّا ما ذُكر عن الطحاويِّ؛ فلا نعلم صحته عنه، وإن صحَّ فإنما أراد به التقبيلَ المباح، فإنَّ الرجل قد يُبتلى بهجر زوجته، أو أمَته له، فيسألُ أطبَّاءَ الدِّين، وأطباءَ الجِسْم، وأطباءَ الحبِّ عن دوائه، فيجيبه كلٌّ منهم بمقتضى علمِه، وما عندَه.
وقد شكا مُغِيثٌ زوجُ بَرِيرَة حبَّه لها فشفعَ عندَها [النبيُّ صلى الله عليه وسلم] أن تراجعَه، فلم تفعل
(1)
.
وشكا إليه رجلٌ أنَّ امرأَته لا تردُّ يدَ لامسٍ، فقال:«طلِّقها» فقال: إنِّي أخافُ أن تتبعَها نفسي، فقال:«استمتعْ بها» . ذكره الإمام أحمد والنَّسائيُّ
(2)
.
قال بعضُ أهل العلم: راعى النبيُّ صلى الله عليه وسلم دفعَ أعلى المفسدتين
(1)
أخرجه البخاري (5280 - 5283) من حديث ابن عباس.
(2)
لم أجده في «المسند» ، وأخرجه النسائي (6/ 67، 169)، وأبو داود (2049) من حديث ابن عباس. وقال النسائي: عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه، قال: وهذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث.
بأدناهما، فإنه لما شكا إليه أنَّها لا ترُدُّ يدَ لامسٍ؛ أمرَه بطلاقها، فلمَّا أخبرَه عن حبِّها وأنَّه يخافُ ألَاّ يصبِرَ عنها، ولعلَّ حبَّه لها يدعوه إلى معصيةٍ؛ أمره أن يمسكها؛ مداواةً لقلبه، ودفعًا للمفسدة التي يخافُها باحتمال المفسدة التي يشتكي منها.
وأجاب أبو عبيد عنه بأنّها كانت لا ترُدُّ يدَ لامسٍ يطلبُ منها العطاء، فكانت لا تَرُدُّ يد من سألها شيئًا من مال الزَّوج، ورُدَّ عليه هذا التأْويل بأنَّه لا يُقال لطالب العطاء: لامسٌ، وإنَّما يقال له: ملتمسٌ. وأجابت طائفة أُخرى عنه بأنَّ طريان المعصية على النكاح لا تُوجب فساده. وقال النَّسائيُّ: هذا الحديث مُنكر.
وعندي أنَّ له وجهًا غيرَ هذا كلِّه، فإنَّ الرَّجل لم يشكُ من المرأة أنَّها تزني بكلِّ مَنْ أراد ذلك منها، ولو [50 أ] سألَ عن ذلك لما أقرَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن يقيم مع بَغِيٍّ، ويكون زوج بَغيٍّ دَيُّوثًا، وإنَّما شكا إليه أنَّها لا تجذِبُ نفسها مِمَّن لاعبَها، ووضع يده عليها، أو جذبَ ثوبها، ونحو ذلك، فإنَّ من النِّساء من تلين عند الحديث واللَّعب ونحوه. وهي حَصانٌ عفيفةٌ إذا أُريد منها الزنى، وهذا كان عادة كثيرٍ من نساء العرب، ولا يَعُدُّون ذلك عيبًا، بل كانوا في الجاهلية يرون للزَّوج النِّصفَ الأسفلَ، وللعشيق النصف الأعلى
(1)
.
(1)
ش: «الآخر» .
فللحِبِّ ما ضمَّتْ عليه نِقابَها
…
وللبَعْلِ ما ضُمَّتْ عليه المآزِرُ
والمقصودُ أنَّ القومَ كانوا مع العاشق على معشوقه إذا كان يُباح له وصالُه، وسنذكر ذلك في باب: مساعدة العشَّاق بالمُباح من التَّلاقِي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا ما ذكروا عن شيوخ المعتزلة، وشيوخ الواسطيِّين، فأبو عثمان المذكور هو عمرو بن عُبيد، وواصلٌ هو واصلُ بن عطاء، وهما شيخا القوم، ولو أفتيا بذلك لكانت فُتْيا من مبتدعَيْن مذمومَيْن عند السَّلَفِ والخَلف، فكيف والمخبرُ بذلك رجلٌ مجهولٌ من المعتزلة، كذبَ على من يُعظِّمُهما المعتزلةُ؛ لينفِّقَ فِسْقَه؟
وأمَّا قصَّة محمد بن داود الأصبهانيِّ؛ فغايتُها أن تكونَ من سعيه المغفور، لا من عمله المشكور، وسلَّط الناس بذلك على عرضِه، والله يغفر لنا وله، فإنه تعرَّض بالنظر إلى السَّقم الذي صار به صاحب فِراش، وهذا لو كان مِمَّن يُباح له؛ لكان نقصًا وعيبًا، فكيف من صبيٍّ أجنبيٍّ؟ وأرضاه الشيطان بحبِّه والنظر إليه عن مواصلتِه، إذ لم يطمع في ذلك منه، فنالَ منه ما عرَف أنَّ كيدَه لا يتجاوزه، وجعله قدوةً لمن يأْتَمُّ به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهريِّ وغيره، وكيدُ الشيطان أدقُّ من هذا.
وأمَّا أبو محمد فإنَّه على قدر يُبْسه وقَسْوته في التمسُّك بالظاهر، وإلغائه المعاني والمناسبات والحِكَم والعِلَل الشَّرعية، انماعَ في باب العشق والنظر وسماع الملاهي [50 ب] المحرَّمة، فوسَّع هذا الباب جدًّا،
وضيَّق بابَ المناسبات، والمعاني، والحِكَم الشرعية جدًّا، وهو من انحرافه في الطَّرفين حتى ردَّ الحديث الذي رواه البخاريُّ في صحيحه
(1)
في تحريم آلات اللهو بأنَّه معلَّق غيرُ مسْنَد، وخَفِيَ عليه: أنَّ البخاريَّ لقي من علَّقه عنه، وسمع منه، وهو هشام بن عمَّار، وخفي عليه: أنَّ الحديث قد أسنده غير واحدٍ من أئمَّة الحديث عن هشام بن عمَّار
(2)
، فأبطل سُنَّةً صحيحةً ثابتةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مَطْعَنَ فيها بوجهٍ.
وأمَّا مَنْ حاكمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فنحن راضون بحكمه، فأين أباحَ لكم النظر المحرَّم، وعِشْقَ المُردان، والنِّساء الأجانب؟ وهل هذا إلا كذبٌ ظاهر عليه؟ وهذه تصانيفُه وفتاواه كلُّها ناطقةٌ بخلاف ما حكيتموه عنه؟ وأما الفُتْيا التي حكيتموها؛ فكذبٌ عليه، لا تُناسب كلامَه بوجهٍ، ولولا الإطالة لذكرناها جميعَها حتى يعلمَ الواقف عليها: أنَّها لا تصدُر عمَّن دونه فضلًا عنه، وقلت لمن أوقفني عليها: هذه كذبٌ عليه، لا تُشبه كلامه، وكان بعض الأُمراء قد أوقفني عليها قديمًا، وهي بخط رجلٍ متَّهَمٍ بالكذب، وقال لي: ما كنت أظنُّ الشيخَ برِقَّة هذه الحاشية، ثمَّ تأملتُها فإذا هي كذبٌ عليه، ولولا الإطالة
(1)
رقم (5590).
(2)
أخرجه موصولًا أبو داود (4039)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 221).
وانظر: «فتح الباري» (10/ 52 - 53)
لذكرنا من فتاويه ما يُبيِّن: أنَّ هذه كذب.
وأمَّا ما ذكرتُم من مسألة التزام أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فنحن لا ننكر هذه القاعدة، بل هي من أصحِّ قواعد الشريعة، ولكنَّ الشأن في إدخال هذه الصورة فيها، ونحن نحاكمكم إلى هذه القاعدة نفسها، فإنَّ احتمال مفسدة ألم الحبِّ مع غضِّ البصر، وعدم تقبيل المحبوب، وضمِّه، ونحو ذلك أقلّ من مفسدة النَّظر والتَّقبيل، فإنَّ هذه المفسدة تَجُرُّ إلى هلاك القلب وفساد الدين، وغايةُ ما يُقَدَّر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقمُ الجسد، أو الموتُ تفاديًا عن التعرُّض للحرام، [51 أ] فأين إحدى المفسدتين من الأخرى؟ على أنَّ النظر، والقُبلة، والضمَّ لا يمنع السُّقم والموت الحاصل بسبب الحبِّ، فإنَّ الْعِشْقَ يزيدُ بذلك، ولا يزول.
فما صبابَةُ مشتاقٍ على أمَلٍ
…
من الوِصال كمشتاقٍ بلا أمَلِ
(1)
ولا ريب أنَّ محبَّة من طَمِعَ أقوى من محبَّة من يئس من محبوبه، ولهذا قيل:
وأبرحُ ما يكونُ الحبُّ يومًا
…
إذا دَنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ
(2)
فإن قيل: فقد أباح الله سبحانه للمُضطر الميتةَ، والدَّمَ، ولحمَ
(1)
البيت للمتنبي في «ديوانه» (3/ 199).
(2)
سبق تخريجه.
الخنزير، وتناوُلُها في هذا الحال واجبٌ عليه. قال مسروق والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: من اضْطُرَّ إلى أكل الميتة، فلم يأكلْ، فماتَ؛ دخل النَّار، فغايةُ النَّظرة، والقُبْلة، والضَّمة أن تكون محرَّمةً، فإذا اضْطُرَّ العاشق إليها، فإن لم تكن واجبةً، فلا أقلَّ من أن تكون مباحةً، فهذا قياسٌ واعتبارٌ صحيح، وأين مفسدةُ موتِ العاشق إلى مفسدة ضمِّه، ولثمه؟
فالجواب: أنَّ هذا يتبين بذكر قاعدة، وهي: أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل في العبد اضطرارًا إلى الجماع، بحيث إن لم يفعلْه؛ مات، بخلاف اضطراره إلى الأكل، والشرب، واللباس، فإنَّه من قِوام البدن؛ الذي إن لم يباشره؛ هلك.
ولهذا لم يُبحْ من الوَطْءِ الحرام ما أباح من تناوُل الغذاء والشراب المحرَّم، فإنَّ هذا من قبيل الشهوة واللَّذة؛ التي هي تتمةٌ وفَضْلَة، ولهذا يمكن الإنسانَ أن يعيش طول عمره بغير تزوُّج، وغير تَسَرٍّ، ولا يمكنه أن يعيش بغير طعام ولا شرابٍ، ولهذا أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الشباب أن يداووا هذه الشَّهوة بالصَّوم
(1)
، وقال تعالى عن عشَّاق المُرْدان:{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف/81].
فأخبر أنَّ الحامل على ذلك مجرَّدُ الشهوة، لا الحاجةُ، فضلًا عن
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود.