الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومنها: الاتفاق الواقع بين المحبّ والمحبوب
ولاسيَّما إذا كانت المحبَّةُ محبَّة مشاكَلَةٍ، ومناسبةٍ، فكثيرًا ما يمرضُ المحبُّ بمرض محبوبه. ويتحرَّك بحركته، ولا يشعرُ أحدُهما بالآخر، ويتكلَّم المحبوب بكلام، يتكلم المحب به بعينه اتفاقًا، فانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعُمَرَ بن الخطاب، يوم الحُدَيْبيَة لما قال له: ألسنا على الحقِّ، وعدوُّنا على الباطل؟ قال:«بلى» ، قال: فعلام نُعْطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ فقال: «إنِّي رسولُ الله، وهو ناصري، ولستُ أعْصِيه» فقال: ألم تكن تحدِّثنا أنَّا نأتي البيت، فنُطوِّفُ به؟ فقال:«قُلتُ لك إنَّك تأْتيه العامَ؟» قال: لا، قال:«فإنَّك آتيه، ومُطوِّفٌ به» . ثم جاء أبا بكرٍ الصديق فقال له: يا أبا بكر! ألسنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه، قال: ألم يكن يحدِّثنا أنَّا نأتي البيت، فنطوِّف به؟ قال: بلى، أقال لك: إنك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: إنك آتيه ومطوِّفٌ به، فأجاب على جواب النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا بحرف من غير تواطُؤٍ، ولا تشاعُرٍ، بل موافقة محبٍّ لمحبوب. هكذا وقع في صحيح البخاري
(1)
، ووقع في بعض المغازي: أنَّه أتى أبا بكر أوَّلًا، فقال له ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، فقال له مثل ما قال أبو بكر.
(1)
أخرجه البخاري (1694، 2731).
قال السُّهَيْليُّ
(1)
: [107 أ] وهذا هو الأولى، ويُشبه أن يكون المحفوظ، فإنَّه لا يُظنُّ بعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ له قولًا، فلا يرضى به حتى يأتي أبا بكر بعد ذلك، والشُّبهة عنده لم تزلْ، فيُعيدها عليه، ولا يُظنُّ ذلك بعمر.
ولعمري لقد نزع أبو القاسم بذَنوب صحيح! ولكن المحفوظ هو الذي وقع في البخاري، وعليه عامّة أهل السِّير، والمسانيد، والسُّنن.
وأمَّا ما نُسب إلى عمر فقد أُجيب عنه بأنَّه كان يرجو النَّسخ، وموافقة ربِّه له في ذلك، كما تقدم له أمثالها، فإنه كان يقول القول، فينزلُ به الوحي، والثَّاني: أنَّ المقام كان مقام محنةٍ، وابتلاءٍ، عجز عنه صبرُ أكثر الصحابة، ولم يتسع له بطانهم، وداخلهم من الغم، والقلق، والتحرق على أعدائهم أمرٌ عظيم، ولهذا لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا بُدْنهم، لم يقم منهم رجلٌ واحدٌ، حتى دخل صلى الله عليه وسلم على أُم سلمة مُغضبًا، فقالت له: من أغضبك؛ أغضبهُ الله، فقال:«ومالي لا أغضبُ، وأنا آمُرُ بالأمْرِ، فلا أُتَّبَعُ؟»
(2)
.
وهذا يردُّ تأويل من تأوَّله على أن القوم كانوا محسنين في ذلك التثبُّت، وأنَّهم كانوا ينتظرون النَّسخ، فلا لومَ عليهم، وهذا خطأ قبيحٌ من
(1)
الروض الأنف (2/ 304).
(2)
هو ضمن الحديث السابق في صلح الحديبية.
هذا المُعتذر، بل كان المبادرة إلى امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم أولى بهم، ولو كانوا محسنين في التأخير، لما اشتدَّ غضبُه عليهم، ولكان أولى منهم بانتظار الناسخ، بل هذا من سعيهم المغفور، الذي غفره الله لهم بكمال إيمانهم، ونُصْحهم لله ورسوله، وعذَرهم الله سبحانه، لقوَّة الوارد وضعفهم عن حمله، حتى لم يحتمله عمر في قوَّته، وشدَّته، واحتمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وكان جوابُهما من مشكاةٍ واحدة.
ولما احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحكم الكونيَّ الأمرِيَّ؛ الذي حكم الله له به، ورضي به، وأقرَّ به، ودخل تحته طوعًا [108 أ] وانقيادًا ــ وهو الفتحُ الذي فتح الله له ــ أثابه الله عليه بأربعة أشياء: مغفرةِ ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وإتمام نعمته عليه، وهدايته صراطًا مستقيمًا، ونصرِ الله له نصرًا عزيزًا.
وبهذا يقع جوابُ السؤال الذي أورده بعضهم هاهنا، فقال: كيف يكون حكم الله له بذلك عِلَّةً لهذه الأمور الأربعة؛ إذ يقول تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية [الفتح/1 ــ 2].
وجوابه ما ذكرنا: أن تسليمه لهذا الحكم، والرِّضا به، والانقياد له، والدخول تحته؛ أوجب له أنْ آتاه الله ذلك.
والمقصودُ إنَّما هو ذكر الاتفاق بين المحبِّ والمحبوب، وهذا الذي جرى للصِّدِّيق من أحسن الموافقة، ومن هذا موافقة عمر بن الخطاب لربِّه في عدَّة أُمورٍ قالها، فنزل بها الوحيُ كما قالها.
وتقوى هذه الموافقة حتى يعلم المُحبُّ بكثير من أحوال محبوبه، وهو غائب عنه، وهذا بحسب تعلُّق الهمَّة به، وتوجُّه القلب إليه، واتِّحاد مراده بمراده، وربما اقتضى ذلك اتِّفاقهما في المرض، والصِّحة، والفرح، والحزن، والخُلُق، فإنْ كان مع ذلك بينهما تشابهٌ في الخلق الظاهر؛ فهو الغاية في الاتفاق، ولنقتصر من العلامات على هذا القدر، وبالله التوفيق.