الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويغار إذا عُصي محبوبُه، وانْتُهِك حقُّه، وضُيِّع أمرُه، فهذه غيرة المحب حقًّا، والدِّينُ كلُّه تحت هذه الغيرة.
ف
أقوى الناس دينًا أعظمُهم غيرةً
، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
(1)
: «أتعجبُون من غيرة سعدٍ، لأنا أغْيَرُ منه، والله أغيرُ منِّي!» .
فمحبُّ الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبَّته وإجلاله، وإذا خلا قلبُه من الغيرة لله ورسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنَّه من المُحبِّين، فكذب من ادَّعى محبَّة محبوبٍ من الناس، وهو يرى غيره ينتهكُ حُرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويستهين بحقِّه، ويستخفُّ بأمره، وهو لا يغار لذلك، بل قلبه باردٌ، فكيف يصحُّ لعبدٍ أن يدَّعي محبَّة الله؛ وهو لا يغارُ لمحارمه إذا انْتُهِكت، ولا لحقوقه إذا ضُيِّعت.
وأقلُّ الأقسام أن يغار له من نفسه، وهواه، وشيطانه، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقِّه، وارتكابه لمعصيته.
وإذا ترحَّلتْ هذه الغيرةُ من القلب؛ ترحَّلتْ منه [103 أ] المحبَّةُ، بل ترحَّل منه الدِّين، وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصلُ الجهاد، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلتْ من القلب لم يُجاهد، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، فإنه إنما
يأتي
(1)
أخرجه البخاري (6846، 7416)، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة.
بذلك غيرةً منه لربِّه، ولذلك جعل سبحانه علامة محبَّته ومحبوبيه الجهاد، فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة/54].
فصل
وأما الغيرة على المحبوب فإنما تُحمَدُ حيث يُحمَد الاختصاص بالمحبوب، ويُذمُّ الاشتراك فيه شرعًا، وعقلًا، كغيرة الإنسان على زوجته، وأمته، والشيء الذي يختصُّ هو به، فيغارُ من تعرُّض غيره لذكره، ومشاركته له فيه.
وهذه الغيرة تختص بالمخلوق، ولا تتصور في حق الخالق، بل المحب لربه يحبُّ أن الناس كلهم يحبونه، ويذكرونه، ويعبدونه، ويحمدونه، ولا شيء أقرَّ لعينه من ذلك، بل هو يدعو إلى ذلك بقوله، وعمله.
ولما لم يميِّز كثير من الصُّوفيَّة بين هذين الغيرتين؛ وقع في كلامهم تخبيطٌ قبيح، وأحسن أمره أن يكون من السعي المغفور، لا المشكور. وكان بعض جهلتهم إذا رأى من يذكر الله، أو يحبُّه يغارُ منه، وربما سكَّته؛ إن أمكنه، ويقول: غيرةُ المحب تحملني على هذا، وإنَّما ذلك حسدٌ، وبغْيٌ، وعدوانٌ، ونوعُ معاداةٍ لله، ومراغمةٌ لطريق رسله، أخرجوها في قالب الغيرة، وشبَّهوا محبَّة الله بمحبَّة الصُّور من المخلوقين.