الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا ريب أنَّ هذه الغيرة محمودةٌ في محبة من لا يحسُن مشاركة المحب فيه، وسيأتي ذلك في باب الغيرة على المحبوب.
[103 ب] فصل
ومنها: بذلُ المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه مما كان يتمتع به بدون المحبة، و
للمحب في هذا ثلاثةُ أحوال:
أحدها: بذله ذلك تكلفًا، ومشقَّةً، وهذا في أوَّل الأمر، فإذا قويت المحبةُ، بذله رضًا وطوعًا، فإذا تمكنت من القلب غاية التَّمكن، بذله سؤالًا وتضرُّعًا، كأنَّه يأخذُه من المحبوب حتى إنه ليبذُل نفسه دون محبوبه، كما كان الصحابة يقونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب بنفوسهم، حتى يصرَّعوا حوله:
ولي فؤادٌ إذا لجَّ الغرامُ به
…
هام اشتياقًا إلى لُقْيا مُعذِّبه
(1)
يفديك بالنفس صبٌّ لو يكون له
…
أعزُّ من نفسه شيءٌ فداك به
ومن آثر محبوبه بنفسه فهو له بماله أشدُّ إيثارًا، قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب/6] ولا يتمُّ لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحبَّ إليهم من أنفسهم فضلًا عن أبنائهم وآبائهم، كما صحَّ
(1)
البيتان للوأواء الدمشقي في ديوانه (ص 45)، وللبحتري في ديوانه (1/ 303). وقال: وتُروى لابن كيغلغ، ولأبي العتاهية في محاضرات الأدباء (3/ 52)، وعنه في ديوانه (ص 499). وبلا نسبة في الزهرة (1/ 70)، والمحب والمحبوب (2/ 80)، والأول لأبي عثمان الخالدي في التذكرة الحمدونية (6/ 194).
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والنَّاس أجمعين»
(1)
وقال له عمر: والله يا رسول الله! لأنت أحبُّ إليَّ منْ كل شيء إلَّا من نفسي. فقال: «لا يا عُمَرُ! حتَّى أكون أحبَّ إليك من نفسك» قال: فوالله لأنت الآن أحب إليّ من نفسي! فقال: «الآن يا عُمر!»
(2)
.
فإذا كان هذا شأن محبة عبد ه ورسوله؛ فكيف بمحبته سبحانه؟ وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعًا وقدرًا، وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله؛ فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه، فحمله محبةُ غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله، وليست محبتُه لذلك المحبوب لذاته، بل لغرضه منه، وهذا المحبوب له مثل، ولمحبته مثل، وأما محبة الله؛ فليس لها مثلٌ، ولا للمحبوب مثل، ولهذا حكَّم الصحابة [104 أ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسُنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخُضْناه، نقاتل من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك. قال قيس بن صرمة الأنصاري
(3)
:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (3694، 6264، 6632) من حديث أنس.
(3)
الأبيات في سيرة ابن هشام (1/ 512)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 513 - 514)، والاستيعاب (2/ 203 - 204)، وزاد المعاد (3/ 53، 54)، وفيها اسم القائل: أبو قيس صرمة بن قيس أو صرمة بن أبي أنس. وانظر الإصابة (2/ 182).