الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذمومًا، إلَّا ما جاء منه مُقَيَّدًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمنُ أحدكم حتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به»
(1)
.
وقد قيل: الهوى كمينٌ لا يُؤْمَن. قال الشَّعْبي: وسمِّي هوًى؛ لأنَّه يهوي بصاحبه، ومطلقُه يدعو إلى اللَّذَّة الحاضرة من غير فكرٍ في العاقبة، ويحثُّ على نيل الشَّهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا، فلِلدُّنيا عاقبةٌ قبل عاقبة الآخرة، والهوى يعمي صاحبه عن ملاحظتها، والمروءة، والدِّين، والعقل ينهى عن لذَّة تعقبُ ألمًا، وشهوة تورثُ ندمًا، فكلٌّ منها يقول للنَّفس إذا أرادت ذلك: لا تفعلي! والطَّاعة لمن غلب، ألا ترى أنَّ الطفل يُؤثر ما يهواه؛ وإن أدَّاه إلى التَّلف؛ لضعف ناهي العقل عنده؟! ومن لا دين له يؤثر ما يهواه؛ وإن أدَّاه إلى هلاكه في الآخرة؛ لضعف ناهي الدِّين، ومن لا مُروءَة له يُؤثر ما يهواه وإن ثَلَمَ مُرُوءته، أو هدمها؛ لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ: لو علمتُ أنَّ الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته.
ولمَّا امتُحِنَ المكلَّف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت يحدث عليه حوادث؛ جعل فيها حاكمان:
حاكم العقل، وحاكم الدِّين
؛ وأُمِرَ أن يرفع حوادثَ الهوى دائمًا إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد
(1)
سبق تخريجه.
لحكمهما، وينبغي أن يتمرَّن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليستمرَّ بذلك على ترك ما تؤذي عواقبُه.
وليعلم اللَّبيبُ أن مدمني [179 ب] الشَّهوات يصيرون إلى حالةٍ لا يلتذُّون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنَّها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الَّذي لا بُدَّ لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذُّ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرًا في الأحيان، غير أنَّ العادة مقتضيةٌ ذلك، فيلقي نفسه في المهالك؛ لينل ما تطالبه به العادة، ولو زال عنه رَيْنُ الهوى لعلم أنَّه قد سعى من حيث قدَّر السَّعادة، واغتمَّ من حيث ظنَّ الفرح، وألم من حيث أراد اللَّذَّة. فهو كالطائر المخدوع بحبَّة الفخ، لا هو يأكل الحبَّة، ولا هو يخلُص ممَّا وقع فيه.
فإن قيل: فكيف يتخلَّص من هذا مَن قد وقع فيه؟
قيل: يمكنه التَّخلُّص بعون الله وتوفيقه له بأمور
(1)
:
أحدها: بعزيمة حرٍّ يغار لنفسه وعليها.
الثاني: جُرْعةُ صبر تصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
الثالث: قوَّة نفس تشجِّعه على شرب تلك الجُرعة، والشَّجاعة كلُّها صبر ساعةٍ، وخير عيشٍ أدركه العبد بصبره.
(1)
انظر ذم الهوى (ص 13 وما بعدها).
الرَّابع: ملاحظته حسنَ موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجُرعة.
الخامس: ملاحظته الألم الزَّائد على لذَّة طاعة هواه.
السَّادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى، وفي قلوب عباده، وهو خيرٌ وأنفع له من لذَّة مواقعة الهوى.
السَّابع: إيثارُه لذَّةَ العفَّة، وعزَّتها، وحلاوتها على لذَّة المعصية.
الثامن: فرحه بغلبة عدوِّه، وقهره له، وردِّه خاسئًا بغيظه، وغمِّه، وهمِّه حيث لم ينل منه أُمنيَّته، والله تعالى يحبُّ من عبده أن يُراغم عدوَّه، ويغيظه، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة/ 120]، وقال:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح/ 29]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء/ 100] أي: مكانًا يراغم فيه أعداء الله. وعلامة المحبَّة الصَّادقة مغايظةُ أعداء المحبوب، ومراغمتُهم.
التاسع: التفكر في أنَّه لم يخلق للهوى، وإنَّما هُيِّئ لأمرٍ عظيم، [180 أ] لا يناله إلَّا بمعصيته للهوى، كما قيل
(1)
:
قد هيَّؤوك لأمرٍ لو فطنتَ له
…
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل
(1)
آخر بيت من لامية العجم للطغرائي (ضمن المجموع الكبير من المتون ص 539).
العاشر: ألَّا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيمُ أحسن حالًا منه، فإنَّ الحيوان يميِّز بطبعه بين مواقع ما يضرُّه وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضارِّ، والإنسان أُعطي العقل لهذا المعنى، فإذا لم يميِّز به بين ما يضرُّه وما ينفعه، أو عرف ذلك، وآثر ما يضرُّه؛ كان حال الحيوان البهيم أحسنَ منه، ويدُلُّ على ذلك: أنَّ البهيمة تصيب من لذة المطعم، والمشرب، والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيش هنيءٍ خالٍ عن الفكر، والهَمِّ، ولهذا تُساق إلى منحرها، وهي منهمكةٌ على شهواتها؛ لفقدان العلم بالعواقب، والآدمي لا يناله ما يناله الحيوان لقوَّة الفكر الشَّاغل، وضعف الآلة المستعملة، وغير ذلك، فلو كان نيل المشتهى فضيلةً؛ لما بُخِسَ منه حقُّ الآدمي الَّذي هو خلاصة العالم، ووفرَ منه حظُّ البهائم، وفي توفير حظِّ الآدميِّ من العقل، والعلم، والمعرفة عوضٌ عن ذلك.
الحادي عشر: أن يسير بفكره في عواقب الهوى، فيتأمَّل كم أفاتت طاعته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلةٍ منعت أكلات، وكم من لذَّة فوَّتت لذَّات، وكم من شهوةٍ كسرت جاهًا، ونكَّست رأسًا، وقبَّحت ذكرًا، وأورثت ذمًّا، وأعقبت ذلًّا، وألزمت عارًا لا يغسله الماء، غير أنَّ عين صاحب الهوى عمياء.
الثاني عشر: أن يتصوَّر العاقلُ انقضاء غرضه ممَّن يهواه، ثمَّ يتصوَّر حالَه بعد انقضاء الوطر، وما فاته، وما حصل له
(1)
.
(1)
البيت للببغاء في «ذم الهوى» (ص 662).
فأفضل النَّاس من لم يرتكب سببًا
…
حتَّى يميز ما تجني عواقبُهُ
الثالث عشر: أن يتصوَّر ذلك في حقِّ غيرهِ حقَّ التَّصوُّر، ثمَّ ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشَّيء حكمُ نظيره.
الرَّابع عشر: أن يتفكَّر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقلَه، ودينَه يُخبرانه بأنَّه [180 ب] ليس بشيءٍ. قال عبد الله بن مسعود
ــ رضي الله عنه ــ: «إذا أعجب أحدكم امرأةٌ؛ فليذكر مناتنها» ، وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين
(1)
:
لو فكَّر العاشِقُ في منتهى
…
حُسنِ الَّذي يَسبيه لم يَسْبِه
لأنَّ ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ ذكر الحال الحاضرة اللازمة، والشاعر أحال على أمر متأخر.
الخامس عشر: أن يأنفَ لنفسه من ذُلِّ طاعة الهوى، فإنَّه ما أطاع أحدٌ هواه قطُّ إلَّا ووجد في نفسه ذُلًّا، ولا يغترَّ بصولة أتباع الهوى، وكبرهم، فهم أذلُّ النَّاس بواطن، قد جمعوا بين فضيلتي الكبر، والذُّلِّ.
السَّادس عشر: أن يُوازن بين سلامة الدِّين، والعرض، والمال، والجاه، ونيل اللَّذَّة المطلوبة، فإنَّه لا يجد بينهما نسبةً ألبتَّة، فليعلم أنَّه من أسفه النَّاس ببيعه هذا بهذا.
(1)
هو المتنبي، والبيت في ديوانه (1/ 337).
السَّابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإنَّ الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمةٍ وهمةٍ، وميلًا إلى هواه؛ طمع فيه، وصرعه، وألجَمَه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد. ومتى أحسَّ منه بقوَّة عزم، وشرف نفسٍ، وعلوِّ همَّةٍ؛ لم يطمع فيه إلَّا اختلاسًا، وسَرِقَةً.
الثامن عشر: أن يعلم أنَّ الهوى ما خالط شيئًا إلَّا أفسده، فإن وقع في العلم؛ أخرجه إلى البدعة، والضَّلالة، وصار صاحبُه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع في الزهد؛ أخرج صاحبه إلى الرِّياء، ومخالفة السُّنَّة. وإن وقع في الحكم؛ أخرج صاحبَه إلى الظُّلم، وصدَّه عن الحقِّ. وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجَوْر. وإن وقع في الولاية، والعزل؛ أخرج صاحبه إلى خيانة الله، والمسلمين حيث يُوَلِّي بهواه، ويعزل بهواه. وإن وقع في العبادة؛ خرجت عن أن تكون طاعةً وقربةً. فما قارن شيئًا إلَّا أفسده.
التاسع عشر: أن يعلم أنَّ الشيطان ليس له مدخلٌ على ابن آدم إلَّا من باب هواه، فإنَّه يطيف به، من أين يدخل عليه، حتَّى يفسد عليه قلبَه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلَّا من باب الهوى، فيسري معه سرَيان السُّمِّ في الأعضاء.
العشرون: [181 أ] أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل الهوى مضادًّا لما أنزله على رسوله، وجعل اتِّباعه مقابلًا لمتابعة رُسُله، وقسم النَّاس إلى قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، وهذا كثيرٌ في القرآن، كقوله تعالى: