الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبَينِ رغبةً في أعلاهما
هذا بابٌ لا يدخل فيه إلَّا النفوس الفاضلة الشريفة الأبيةُ؛ التي لا تقنع بالدون، ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون، ولا يملكها لطخ جمالٍ مُغَشًّى على أنواع من القبائح، كما قال بعض الأعراب وقد نظر إلى امرأةٍ مبرقعة
(1)
:
إذا بارك الله في ملبسٍ
…
فلا بارك الله في البرقع
يُريك عيون المها حسرةً
…
ويكشف عن منظر أشنع
وقال آخر
(2)
:
لا يغرَّنك ما ترى من نقابٍ
…
إن تحت النِّقاب داءً دويَّا
ف
النفس الأبيةُ لا ترضى بالدُّون
. وقد عاب الله سبحانه أقوامًا استبدلوا طعامًا بطعام أدنى منه، فنعى ذلك عليهم، وقال:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة/ 61]، وذلك دليلٌ
(1)
البيتان في العقد الفريد (6/ 412) ضمن خبر طويل.
(2)
أصل هذا البيت (برواية «من أناس» و «تحت الضلوع») لسديف بن ميمون في عيون الأخبار (1/ 208)، والشعر والشعراء (2/ 761)، والكامل للمبرد (3/ 1366)، وطبقات الشعراء لابن المعتز (ص 40)، والأغاني (4/ 348)، والعقد (4/ 486).
على وضاعة النفس، وقلة قيمتها.
وقال الأصمعي
(1)
: خلا رجلٌ من الأعراب بامرأةٍ، فهمَّ بالريبة، فلما تمكن منها تنحَّى سليمًا، وجعل يقول: إن امرأً باع جنةً عرضها السموات والأرض بفتر ما بين رجليك لقليل البصر بالمساحة.
وقال أبو أسماء
(2)
: دخل رجلٌ غيضةً، فقال: لو خلوتُ هاهنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين لابتي الغيضة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك/ 14].
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدثنا هيثم ــ هو ابن خارجة ــ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن عدي البهراني، عن يزيد بن ميسرة، قال: إن الله تعالى يقول: أيها الشابُّ التاركُ شهوته لي، المتبذلُ شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي!
وذكر إبراهيم بن الجنيد
(4)
: أن رجلًا راود امرأةً عن نفسها، فقالت له: أنت قد سمعت القرآن والحديث، [150 ب] فأنت أعلم! قال:
(1)
أخرج عنه الخرائطي (ص 66)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 260).
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 66).
(3)
في «الزهد» (ص 106). وأخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد (346)، والخرائطي (ص 60)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 237)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 53 ـ 54).
(4)
أخرج عنه الخرائطي (ص 66)، وابن الجوزي (ص 274).
فأغلقي الأبواب، فأغلقتها، فلما دنا منها؛ قالت: بقي بابٌ لم أغلقه! قال: أيُّ باب؟! قالت: الباب الذي بينك وبين الله! فلم يتعرض لها.
وذكر أيضًا عن أعرابي قال
(1)
: خرجت في بعض ليالي الظُّلَم، فإذا أنا بجارية كأنها عَلَم، فأردتها عن نفسها، فقالت: ويحك! أما كان لك زاجرٌ من عقل؛ إذ لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلَّا الكواكب! قالت: فأين مُكَوكبها؟
وجلس زياد
(2)
مولى ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ إلى بعض إخوانه، فقال: يا عبد الله! فقال له: قل ما تشاء. قال: ما هي إلا الجنة أو النار؟ قلت: نعم. قال: وما بينهما منزل ينزله العباد؟ قلت: لا والله! فقال: والله إن نفسي لنفس أضنُّ بها عن النار، والصبرُ اليوم عن معاصي الله خيرٌ من الصبر على الأغلال.
وقال وهبُ بن مُنبِّه
(3)
: قالت امرأة العزيز ليوسف ــ عليه السلام ــ: ادخل معي القيطون ــ تعني: الستر ــ فقال: القيطون لا يستُرني من ربي.
وقال اليزيدي
(4)
: دخلتُ على هارون الرشيد، فوجدته مُكبًّا على
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 65). وانظر ذم الهوى (ص 272).
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 65)، وابن الجوزي (ص 61).
(3)
أخرجه الخرائطي (ص 65).
(4)
أخرجه الخرائطي (ص 64). والخبر مع الشعر في بهجة المجالس (2/ 310)، والأولان ضمن أبيات لبشار بن بشر في عيون الأخبار (3/ 184)، والثاني ضمن أبيات لهلال بن خثعم في الحيوان (1/ 382). والأول فقط لزياد بن منقذ في حماسة البحتري (ص 140)، والتذكرة الحمدونية (7/ 119).
ورقةٍ ينظرُ فيها مكتوبةٍ بالذهب، فلما رآني؛ تبسم، فقلت: فائدةٌ أصلح الله أمير المؤمنين؟! قال: نعم وجدتُ هذين البيتين في بعض خزائن بني أُمية فاستحسنتهما، وقد أضفت إليهما ثالثًا، ثُمَّ أنشدني:
إذا سدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ
…
فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قُراب البطن يكفيك ملؤُهُ
…
ويكفيك سوءات الأمور اجتنابُها
فلا تك مبذالًا لدينك واجتنب
…
ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
وقال أبو العباس الناشئ
(1)
:
إذا المرء يحمي نفسه حِلَّ شهوةٍ
…
لصحة أيَّام تبيدُ وتنفدُ
فما بالُه لا يحتمي من حرامها
…
لصحةِ ما يبقى له ويُخَلَّدُ؟!
وقيل: [151 أ] إن علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ كان ينشد هذين البيتين
(2)
:
اقدع النَّفس بالكفاف وإلَّا
…
طلبتْ منك فوق ما يكفيها
(1)
كما في اعتلال القلوب (ص 63 - 64).
(2)
كما في اعتلال القلوب (ص 64). وهما لأبي بكر الصديق في الزهرة (2/ 563). ولأبي العتاهية في قطب السرور (ص 280، 281). والأول بلا نسبة في بهجة المجالس (2/ 312).
إنما أنت طول عُمرك ما عُمِّـ
…
ـرتَ في الساعة التي أنت فيها
ومن أحسن شعر العرب، وكان عمرُو بن العاص يتمثلُ بهما
(1)
:
إذا المرءُ لم يترك طعامًا أحبه
…
ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمَّما
قضى وطرًا منه وغادر سُبَّةً
…
إذا ذُكرت أمثالها تملأُ الفما
وقال شعبة
(2)
عن منصور، عن إبراهيم: كلم رجلٌ من العباد امرأةً، فلم يزل بها حتى وضع يده على فخذها، فانطلق، فوضع يده على النار حتَّى نشَّت.
وقال زيد بن أسلم عن أبيه
(3)
: كان عابدٌ في صومعةٍ يتعبدُ، فأشرف ذات يوم، فرأى امرأةً، ففُتن بها، فأخرج إحدى رجليه من الصومعة يريد النزول إليها، ثم فكر، وادَّكر، فأناب، فأراد أن يعيد رجله إلى الصومعة فقال: والله لا أُدخل رِجْلًا خرجت تريد أن تعصي الله في صومعتي أبدًا! فتركها خارجة من الصومعة، فأصابها الثلج، والبرد، والرياح حتى تقطَّعت.
وقال بعض السلف
(4)
: من كان له واعظٌ من قلبه؛ زاده الله ــ عزَّ
(1)
البيتان له في عيون الأخبار (1/ 37)، والأغاني (9/ 59)، وأنساب الأشراف (1/ 233)، والصاهل والشاحج (ص 309)، ومجموعة المعاني (ص 18) وغيرها.
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 59).
(3)
أخرج عنه الخرائطي (ص 59 - 60)، وابن الجوزي (ص 249).
(4)
هو زياد بن عثمان، وأخرج عنه الخرائطي (ص 53).
وجلَّ ــ عزًّا، والذلُّ في طاعة الله أقربُ من العز في معصيته.
وقال أبو العتاهية
(1)
: لقيت أبا نُواس في المسجد الجامع، فعذلته وقلت له: أما آن لك أن ترْعوي، وتزدجر؟! فرفع رأْسه إليَّ، وقال:
أتُراني يا عتاهي
…
تاركًا تلك الملاهي؟!
أتُراني مُفْسِدًا بالنُّسـ
…
ـكِ عند القوم جاهي؟!
فلما ألحَحْتُ عليه في العذل؛ أنشأ يقول: [151 ب]
لا ترجعُ الأنفسُ عن غيِّها
…
ما لم يكنْ منها لها زاجرُ
فوددتُ أني قلتُ هذا البيت بكل شيءٍ قُلْتُه.
وقال ابن السماك
(2)
عن امرأةٍ كانت تسكنُ البادية: لو طالعتْ قُلُوبُ المؤمنين بفكرها إلى ما ذُخِر لها في حُجُب الغيوب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عيشٌ، ولم تقرَّ لهم عينٌ.
وقال ضيغم لرجل
(3)
: إن حبه عز وجل شغل قلوب محبيه عن التلذُّذ بمحبة غيره، فليس لهم في الدنيا مع محبته عز وجل لذةٌ تداني
(1)
أخرجه الخرائطي (ص 54)، وابن الجوزي (ص 76). والخبر والشعر في ديوان الصبابة (ص 168)، والأغاني (4/ 103)، ووفيات الأعيان (2/ 102).
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 50)، وابن الجوزي (ص 66). وقد سبق عند المؤلف.
(3)
أخرج عنه الخرائطي (ص 51)، وابن الجوزي (ص 78). وقد سبق عند المؤلف.
محبته، ولا يأملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه محبوبهم. فسقط الرجل مغشيًّا عليه.
وفي مسند الإمام أحمد
(1)
من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان ــ رضي الله عنه ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاةٌ، وعلى رأس الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تُعرِّجوا! وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد أحدٌ فتح شيء من تلك الأبواب؛ قال: ويحك! لا تفتحهُ؛ فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلامُ، والستور المرخاة حدود الله، والأبواب المفتحةُ محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله ــ عز وجل ــ والداعي من فوق الصراط واعظُ الله في قلب كل مسلم» .
وقال خالد بن معدان
(2)
: ما من عبد إلا وله عينان في وجهه، يبصرُ بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه، يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرًا؛ فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعدهُ الله بالغيب، وإذا
(1)
4/ 182 - 183. وهو حديث صحيح. وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 52)، وابن الجوزي (ص 75) وغيرهما.
(2)
أخرج عنه الخرائطي (ص 52 - 53) وابن الجوزي (ص 75 - 76). وسبق (ص 249).
أراد به غير ذلك؛ تركه على ما فيه، ثم قرأ:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24].
وفي الترمذي
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، [152 أ] وتمنَّى على الله الأماني» .
وفي المسند
(2)
من حديث فضالة بن عُبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله» .
وقال الإمام أحمد
(3)
ــ رحمه الله تعالى ــ: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب ــ رضي الله عنه ــ قال: من أصبح وأكثرُ همِّه غيرُ الله؛ فليس من الله.
(1)
برقم (2459) عن شداد بن أوس. وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 124)، وابن ماجه (4260). وفي إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو ضعيف.
(2)
6/ 21 و 22 بلفظ: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» . وأخرجه الخرائطي (ص 58) باللفظ الذي ذكره المؤلف. والحديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة (549).
(3)
في كتاب الزهد (ص 33). وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (474)، وفي إسناده يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك، كما في مجمع الزوائد (10/ 248).
وقال أحمد
(1)
: حدثنا عبد الرحمن عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار قال: قال موسى: يا رب! مَنْ أَهلُكَ الذين هُمْ أَهْلُكَ، الذين تظلهم في ظل عرشك؟ قال: هم البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبهم؛ الذين يتحابُّون بجلالي؛ الذين إذا ذُكرت ذُكِروا بي، وإذا ذُكِروا ذكرتُ بذكرهم؛ الذين يسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وُكورها، ويكلفون بحبي، كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت، كما يغضب النمر إذا حَرِب.
وقال أحمد
(2)
: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني عبد الله بن يحيى، قال: سمعتُ وهب بن مُنبِّهٍ يقول: قال موسى ــ عليه السلام ــ: أي رب! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: من أُذكرُ برؤيته.
وقال أحمد
(3)
: حدثنا بشار، حدثنا جعفرُ، حدثنا هشام الدستوائي، قال: بلغني أن في حكمة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: تعملون للدنيا، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، وَيْحَكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضيعون، توشكون أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر،
(1)
في كتاب الزهد (ص 74 - 75).
(2)
في الزهد (ص 74). وفيه: «عبدالله بن بجير» .
(3)
في الزهد (ص 75 - 76).
وضيقه، والله ــ عز وجل ــ نهاكم عن المعاصي، كما أمركم بالصوم والصلاة. كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثرُ عنده من آخرته، وهو في الدنيا أعظم رغبة؟! كيف يكون من أهل العلم من مسيره [152 ب] إلى آخرته، وهو مقبلٌ على دنياه، وما يضرُّه أشهى إليه ممَّا ينفعه؟! كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله ــ عز وجل ــ في قضائه، فليس يرضى بشيء أصابه؟! كيف يكون من أهل العلم من طلب العلم؛ ليتحدث به، ولم يطلبه ليعمل به؟!
وقال عبد الله بن المبارك
(1)
، عن معمر: قال الصبيانُ ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: أَوَ لِلَّعب خُلِقْنا؟!
وقال أحمد
(2)
: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، حدثني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: أنَّ أُمَّه فاطمة حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من شرار أُمَّتي الذين غُذُوا بالنعيم؛ الذين يطلبون ألوان الطعام، وألوان الثياب، ويتشدَّقُون بالكلام» .
وقال أحمد
(3)
: حدثنا أبو قطن، حدثنا شعبة عن أبي سلمة، عن أبي
(1)
أخرجه من طريقه أحمد في الزهد (ص 76)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (738).
(2)
في الزهد (77). وأخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد (ص 262). وإسناده ضعيف.
(3)
في الزهد (ص 119).
نضرة، قال: قال عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ لأبي موسى: يا أبا موسى! شوقنا إلى ربنا، قال: فقرأ. فقالوا: الصلاة! فقال عمر: أولسنا في الصلاة؟
فصل
ومِلاك الأمر كله: الرغبة في الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه بأنواع الوسائل، والشوق إلى الوصول إليه ولقائه. فإن لم يكن للعبد همَّةٌ إلى ذلك: فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعدَّ الله فيها لأوليائه. فإن لم تكن همةٌ عالية تطالبه بذلك فخشية النار، وما أعدَّ الله فيها لمن عصاه. فإن لم تطاوعه نفسه لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه خُلق للجحيم، لا للنعيم، ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه.
فهذه فصول أربعة هي ربيعُ المؤمن، وصيفه، وخريفه، وشتاؤه، وهي منازلُه في سيره إلى الله، وليس له منزلةٌ غيرها. فأما مخالفة الهوى؛ فلم يجعل الله للجنة طريقًا غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقًا غير متابعته، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ [153 أ] عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/ 37 ــ 41] وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن/ 46] قيل: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام الله عليه في الدنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله.
وقد أخبر تعالى: أن اتباع الهوى يضلُّ عن سبيله، فقال الله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص/ 26] ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله، ومصيرهم، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص/26] وأخبر سبحانه: أن باتباع الهوى يطبع على قلب العبد، فقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد/ 16] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن العاجز هو الذي اتبع هواه، وتمنى على الله.
وذكر الإمام أحمد
(1)
من حديث راشد بن سعد، عن أبي أُمامة الباهلي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تحت ظل السماء إلهٌ يعبد أعظم عند الله من هوًى مُتَّبَع» .
وذكر
(2)
من حديث جعفر بن حبان، عن أبي الحكم، عن أبي برزة
(1)
لم أجده في المسند وكتبه المعروفة. وقد أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (3)، والخرائطي (ص 67)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 7502)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188): وفيه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث. وقال الألباني في تخريج السنة: موضوع مسلسل بالمتروكين.
(2)
أحمد في المسند (4/ 420، 423). وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 67)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188) بعد أن عزاه لأحمد والبزار والطبراني في الثلاثة: رجاله رجال الصحيح.
الأسلمي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخافُ عليكم شهواتُ الغيِّ في بطونكم وفروجكم، ومضلاتُ الهوى» .
وفي نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه، عن جده ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخافُ على أُمَّتي حكم جائرٍ، وزلةُ عالمٍ، وهوًى مُتَّبعٌ»
(1)
.
وقيل لبعض الحكماء
(2)
: أيُّ الأصحاب أبرُّ؟ قال: العمل الصالح، قيل: فأيُّ شيء أضرُّ؟ قال: النفسُ والهوى.
وقال بعض الحكماء
(3)
: إذا اشتبه عليك أمران؛ فانظر أقربهما من هواك؛ فاجتنبه.
وأُتي بعضُ الملوك
(4)
بأسير عظيم الجرم، فقال: لو كان هواي في العفو عنك لخالفت [153 ب] الهوى إلى قتلك، ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الخرائطي (ص 67 - 68). ورواه أيضًا البزار كما في كشف الأستار (182)، والطبراني في الكبير (17/ 17)، والقضاعي في مسند الشهاب (1127)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). وفي إسناده كثير بن عبد الله، وهو متروك.
(2)
أخرجه الخرائطي (ص 68).
(3)
كما عند الخرائطي (ص 68).
(4)
الخبر عند الخرائطي (ص 68).
وقال الهيثم بن مالك الطائي
(1)
: سمعت النُّعمان بن بشير يقول على المنبر: إن للشيطان فُخُوخًا ومصالي، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكبرياء على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله.
وفي المسند وغيره
(2)
من حديث قتادة عن أنس ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مهلكاتٌ، وثلاثٌ منجياتٌ، فالمهلكاتُ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجابُ المرء بنفسه. والمنجياتُ: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصدُ في الفقر والغنى» .
وفي جامع الترمذي
(3)
من حديث أسماء بنت عُميس ــ رضي الله
(1)
أخرج عنه الخرائطي (ص 69).
(2)
لم أجده في المسند. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (81)، والخرائطي (ص 69 - 70، 72)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والقضاعي في مسند الشهاب (325 - 327)، والبيهقي في شعب الإيمان (745) من طريق الفضل بن بكر عن قتادة به. قال الذهبي في الميزان: الفضل بن بكر عن قتادة لا يُعرف، وحديثه منكر. ثم أورد هذا الحديث. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (1802) لشواهده.
(3)
برقم (2448). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 70)، والحاكم في المستدرك (4/ 316) وصححه. وقال الذهبي: إسناده مظلم.
عنها ــ قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بئس العبد عبد تجبَّر واعتدى! ونسي الجبار الأعلى. بئس العبد عبد تخيَّل واختال! ونسي الكبير المُتعال. بئس العبدُ عبد سها ولها! ونسي المقابر والبلى. بئس العبدُ عبد بغى وعتا! ونسي المبتدأ والمُنتهى. بئس العبدُ عبد يختلُ الدين بالشُّبُهات! بئس العبدُ عبد طمعٌ يقودُهُ! بئس العبدُ عبد هوًى يُضلُّه!» .
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهُ «لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به»
(1)
، فيكون هواه تابعًا، لا متبوعًا، فمن اتبع هواه؛ فهواه متبوعٌ له، ومن خالف هواه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهواه تابعٌ له، فالمؤمن هواه تابعٌ له، والمنافق الفاجر هواه متبوعٌ له.
وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هُدًى منه: أنه أظلم الظالمين، فقال الله عز وجل:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص/ 50] وأنت تجد تحت هذا الخطاب: أنَّ الله لا يهدي من اتَّبع هواه. وجعل سبحانه وتعالى المتبع قسمين، لا [154 أ] ثالث لهما: إما ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما الهوى. فمن اتبع أحدهما؛ لم يمكنه إتباعُ الآخر، والشيطانُ يطيف بالعبد من أين يدخل عليه، فلا يجد عليه
(1)
سبق تخريجه.
مدخلًا، ولا إليه طريقًا إلا من هواه. فلذلك كان الذي يخالف هواه يفرقُ الشيطان من ظله. وإنما يُطاق مخالفةُ الهوى بالرغبة في الله وثوابه، والخشية من حجابه وعذابه، ووجد حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى، فإن متابعته الداءُ الأكبر، ومخالفته الشفاء الأعظم.
قيل لأبي القاسم الجنيد: متى تنال النفوس مُناها؟ فقال: إذا صار داؤها دواءها، فقيل له: ومتى يصير داؤُها دواءها؟ فقال: إذا خالفت هواها. ومعنى قوله: يصير داؤها دواءها: أن داءها هو الهوى، فإذا خالفته؛ تداوت منه بمخالفته.
وقد قيل: إنه إنما سمي هوًى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى أسفل السافلين. والهوى ثلاثة أرباع الهوان، وهو شارع النار الأكبر، كما أن مخالفته شارع الجنة الأعظم. وقال أبو دُلفٍ العجلي
(1)
:
واسوأتا لفتًى له أدبٌ
…
يُضحي هواهُ قاهرًا أدبه
يأتي الدَّنيَّة وهو يعرفها
…
فيشينُ عرضًا صائنًا أربهُ
فإذا ارْعوى عادتْ بصيرتُه
…
فبكى على الخير الذي سُلِبَه
وقال ابنُ المُرتفق الهُذَليُّ
(2)
:
(1)
كما في اعتلال القلوب (ص 70).
(2)
كذا في ت، وسقط الاسم من نسخة ش. والصواب «البُريق الهذلي» ، والبيتان له في شرح أشعار الهذليين (2/ 758)، وعيون الأخبار (1/ 38)، واعتلال القلوب (ص 71).